عندما نشر شيخنا محمد الغزالي (1336 – 1416 هـ ، 1917 – 1996م) عليه رحمة الله – كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" نشر أدعياء السلفية ضده أربعة عشر كتابا، اتفقت جميعها على أن أولى "التهم" الموجهة إلى الشيخ هي "العقل والعقلانية"!

ولقد كان نصيب كاتب هذه السطور – من هؤلاء الأدعياء – عدة كتب، لنفس السبب – العقل والعقلانية – منها كتاب بلغت صفحاته 710 بعنوان "محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة.. دراسة سلفية للكتب والمقالات" وآخر بعنوان "العقلانية .. غواية أم هداية".

 كذلك أفرد أدعياء السلفية هؤلاء العديد من الكتب للتهجم على العديد من علماء العصر ومفكريه، لا شئ إلا لأنهم عقلانيون ينتمون إلى "المدرسة العقلية"!

 وإذا كان الحديث عن دين بلا عقل، أو عقل بلا دين، هو أثر من آثار الغزو الفكري الذي جاءنا في ركاب الاستعمار الحديث، والذي نقل إلينا مشكلات هي من خصوصيات الحضارة الغربية، التي عرفت – في عصرها اليوناني – "عقلا" بلا "نقل" ثم عرفت – في عصر نهضتها الحديثة "عقلانية وضعية مادية لا دينية" جاءت ثورة على "النقل واللاهوت".

 وإذا كان تاريخنا الحضاري قد برئ من هذا الفصام النكد عبر قرون طويلة، وفي مذاهبه الكبرى والمعتبرة، حتى لقد استقر في تراثنا الإسلامي أن العقل هو أصل الدين، كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وأنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء الدين، وأنه هو الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، ومعرفة صفات كماله وجلاله وجماله، والسبيل إلى التصديق بالنبوة والرسالة، ومن ثم حجية "الوحي والنقل"، كما أنه هو السبيل لمعرفة كل حقائق عالم الشهادة، أما في عالم الغيب، فإن للعقل حدودا لا يتجاوزها، يستعين على ما بعدها بالوحي والدين.

 وإذا كانت الفطرة السوية قد شهدت – وتشهد – على استحالة الإيمان بالدين مع الإكراه، فإن افتراض التدين الصحيح بلا عقل هو في الحقيقة لون من الإكراه!

 وإذا كانت هذه الحقائق التاريخية والبديهية قد استقرت في تراثنا الحضاري الإسلامي، ولدى مذاهبنا الفكرية الكبرى والمعتبرة، فإن بقاء الجدل وتجدد المماحكات حول تناقض العقل مع الإيمان الإسلامي، هو لون من إضاعة الوقت والجهد في شغل الناس بما لا يفيد – بل بما يضر – ولون من إعادة إنتاج ما سبق إنتاجه واستهلاكه في فترات التراجع الحضاري التي أصابت أمتنا قبل ظهور تيار الإصلاح والإحياء والتجديد في عصرنا الحديث.

 إن هناك محاولات بائسة ويائسة لافتعال خصومة بين العقل وبين الإيمان الإسلامي، تتم – تارة – باسم التصوف والصوفية، وتتم - تارة أخرى – باسم السلف والسلفية.

 ولأن الله – سبحانه وتعالى – قد بعث كل رسول بلسان قومه، فإن الحوار المجدي والأفعل هو الذي يخاطب أهل كل مذهب بنصوص الأعلام المؤسسين لهذا المذهب، وذوي المصداقية لدى أتباعه ومريديه، وإذا كان سلفنا الصالح قد علمونا "أن اختيار المرء قطعة من عقله" فإن اختيار الأعلام واختيار النصوص التراثية، هو السبيل للوصول بالمتحاورين إلى كلمة سواء.

 لقد قرأت لبعض الصوفية المعاصرين، كلاما يوصي بتحفظهم إزاء العقل والعقلانية، وفي الحوار مع هؤلاء علينا أن نحتكم وإياهم إلى تراث العقلانية عند أعلام وأقطاب التصوف الإسلامي الذين أجمع المتصوفة على إمامتهم عبر تاريخنا الروحي والحضاري وذلك بعد أن فقه تراث هؤلاء الأعلام الأقطاب أن العقل هو المفتاح للتمييز بين التصوف الحق – التصوف الشرعي – وبين تراث الخرافة والشعوذة – ومعه التصوف الباطني -  المغرق في الغنوصية – الذي ورد إلى تراثنا من خارج الحدود، ففي تراث أعلام التصوف الإسلامي، الذي جمع بين العقل والنقل والقلب، كنوز تفتح أبواب العقلانية الإسلامية أمام الذين يجادلون في مكانة العقل عند المتصوفة، فلا تناقض على الإطلاق بين التصوف – الذي هو علم القلوب والسلوك وتزكية النفوس – وبين العقلانية الإسلامية التي لابد منها لضبط خطرات القلوب.