تستغرب كيف يصل البعض إلى القيام بعمليات لا تجد لها تفسيراً، وكيف يقوم إنسانٌ سويٌّ نيابةً عن الغير بهذه الأعمال؟
وهل نسي العقوبة التي يمكن أن تطاله ولو بعد حين؟ وهل نسي القيم؟ وهل نسي الحلال والحرام؟
وهل نسي الإنسانية، بحيث يصل إلى مرحلة يمكن أن نُسميها الطغيان؟
فكيف تُصدَّقُ شائعات بلا دليل وهي غير قابلة للتصديق، والأسوأ من تصديقها اتخاذ موقف قاسٍ منها، والأسوأ منهما القيام بفعل إجرامي ومحرم شرعاً وعرفاً؟
كيف يصل الجلاد إلى القناعة للتنكيل بشخص مثله دون أن يعرف شيئاً عن جريمته؟
كيف يصل السيَّاف إلى قطع الرؤوس كأنما يقطع حبة فاكهة ولا يرف له جفن؟
كيف يصل الإنسان إلى إصدار حكم دون أن يكون مقتنعاً به؟
لكنّ علماء النفس والاجتماع والسياسة توصلوا لتفسير هذه الظاهرة، وربما قدموها وصفة للطغاة حتى يحققوا طغيانهم، لكن يظهر أن من توقف عند الظاهرة منا قليل. لقد فاتنا نفع عميم كبير لقصر قراءاتنا وثقافتنا واطلاعنا ومناهجنا في التكوين على المصادر الإسلامية بل والحزبية الخاصة من مصادر التنظيمات نفسها، وقلما تجد حتى أدبيات جماعات أخرى في مكتبة داعية في جماعة ثانية وحتى عندنا في جماعة الإخوان المسلمين، إلا ما ندر.
لفتني أحد الإخوان قبل عقدين ونيف من الزمن على الأقل قائلاً: لِمَ تحبس نفسك وأنت كثير الاطلاع وشغوف بالقراءة على المصادر الإخوانية والإسلامية وتحرم نفسك من الكتب الأجنبية، وبخاصة أنَّ عملك لصيق بالتعامل البشري الإنساني في التربية والتكوين، وهذه علوم تدرس في الجامعات؟ فأين أنتم منها في مناهجكم؟
لكنّي بصراحة أعرضت عن نصيحته، وربما اتهمتها بأنه يريد مني أنْ أهجر الأساسيات والمصادر الأصلية والمعتمدة والموثوقة إلى دراسات لا تُعرف أهدافها ومراميها وربما يقصد بها حرفنا عن مسارنا الإخواني وتخترقنا! اطلعت مؤخراً على دراسة مترجمة مصورة ناطقة بهذا الشأن، كأنها تقرأ حالنا نحن الإسلاميين في بعض الجوانب، وكأنَّها دراسة معدة لنا نحن خصيصاً، وما أجدرنا بالاطلاع عليها.
وهي تفسر ما بداخلنا أحياناً ولا نجد له جواباً، علماً أننا بناءً على ما ذكرت سابقاً لكن البعض سيقول: إنَّ القياس مع الفارق ولا مقارنة بيننا وبين ما تذكر، والدراسة تتحدث عن الخطوات الخمس لصناعة الطغيان:
الخطوة الأولى: تقسيم المجتمع إلى نحن وهم، ولا يتوقف هذا على تقسيم المجتمع الواسع، إنما تقسيم المجتمعات حتى الفئة الواحدة أحياناً لتصبح نحن الأصدق والأحكم والأنفع والأقدر ونحن أصحاب الحق، ونحن المتفوقون، وهم لا شيء هامشيون، جهلة، أصحاب هوى يحبون السلامة، يحبون الزعامة، جبناء، جهلاء.. إلى آخر الأوصاف السلبية التي ترد في الذهن. وفي فريق "نحن" نرى القذاة في عين الآخر ولا نرى الجذع في عين نفسنا مطلقاً، تماماً كما يرى الجمل رقبة الفرس عوجاء جداً تستحق السخرية بينما يرى رقبته مستقيمة تماماً.
وانظر حولك الآن في أكبر المجتمعات وأصغرها، هل تجد هذه الحالة؟ "نحن وهم" تخترق الدول والدعوات والأحزاب أيضاً، وتسبب لها المصائب، و"نحن" تمثل السلطة أي سلطة التي تصنع الطغيان أو ما يشبهه في المحصلة، هل "نحن وهم" تشملنا أم لا؟
الخطوة الثانية: وجوب طاعة الأوامر: وكل فريق يسميها ويسوغها بطريقته.. طاعة ولي الأمر الطاعة العسكرية، الطاعة الحزبية، طاعة القانون، طاعة البيعة والالتزام، ونسميها نحن الإسلاميين السمع والطاعة في المنشط والمكره نفذ ثم ناقش ونلبسها ثوب طاعة الخلفاء الراشدين وتجعلنا نحن الذين عنانا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى أثره علينا وألا ننازع الأمر أهله.."، مع أننا مئات الحركات الإسلامية ولها شيوخها وأمراؤها وبيعاتها والتزاماتها، فماذا لو قرر أحدنا أن ينتقل من جماعة إلى أخرى فهل يجوز ذلك بهذا الفهم؟
ومع أن معظمنا يقول: نحن لسنا جماعة المسلمين، إنما جماعة من المسلمين، ونقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ونقول: كلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، بينما عملياً يفسد الود وحتى الإنصاف وحتى كف الأذى عند أول اختلاف قبل أن يصبح خلافاً يا للهول؟! ولكن لماذا يعمق المسؤولون في العادة ويتكئون عليه في موضوع الطاعة ليكون سيفاً مصلتاً على الرقاب طاعة، مبصرةً أو عمياء على حد سواء؟
من حيث يدري الفرد أو لا يدري، وما سرها؟ وكيف يستجيب لها؟ يفسرها علماء النفس على نطاق الدول أنها للحرص على تحقيق المصالح والارتقاء في الوظائف، والخوف من العقاب أو العتاب واللوم والتأنيب، ويجب التدقيق عند الجماعات الإسلامية ودراسة أبعادها وأسبابها الحقيقية وعدم الاتكاء على أنها للعبادة والطاعة.
وتلحظ أن الطاعة المطلقة تزداد كثيراً كلما انخرط الفرد في العمل التنفيذي وزيراً أو مديراً أو مسؤولاً.. فتقل مساحات استقلاله التأملي والفكري في نوع المهمة والأداء، فلا وقت لديه، وهكذا يحب أن يكون الكل من حوله على طاعة تامة مطلقة لينفذ المطلوب منه، حتى لو تمتم بشأنها بينه وبين نفسه أحياناً ووجد أن بعضها لا يوافق عليه أو هو غير مناسب أو غير واقعي أو مرجوح، وسرعان ما يتهم نفسه بجهله للحقائق، ويعود إلى الثقة المطلقة، والطاعة المطلقة والتي يسميها علماء الاجتماع بالطاعة العمياء وهي بدايات صناعة الطغيان، وربما تُجمَّل وتحسن عند الإسلاميين وهم بين اليمين وأقصى اليمين منها، فمن طاعة الولي الفقيه، إلى الطاعة بمستوى استسلام الميت بيد الغاسل، إلى الطاعة التي يحظى بها أمير المؤمنين في العهد الراشدي مع إغفال شرائطها وكيفية تطبيقها ومستلزماتها وحدودها، وإني هنا أتحدث عن ظاهرة مرضية خفية عامة لا تقتصر على فئة أو فريق أو مرحلة زمنية ولا يصح استمرارها والسكوت عنها دون تصويب، وللمقال بقية إن شاء الله.
الآراء