مقدمة: إن القرآن الکريم منهج شامل متکامل فى الصحة النفسية وأن الرکيزة الأساسية في تحقيق الصحة النفسية هو الإيمان بالله تعالی وعقيدة التوحيد وتحقيق التقوى وغرس النواحى الإيجابية المفيدة المستمدة من فكرة الإيمان بالله وتوحيده. فلتحقيق ذلک ينظم الإسلام علاقة الإنسان بالله وبنفسه وبالآخرين علی ذلك - من خلال هذا البحث - نتناول مفهوم الصحة النفسية من منظور الإسلام وسنحاول أن نتبين أننا لا نستطيع أن نتحقق مقومات صحة النفسية للإنسان دون أن نلجاء إلی مصدر الوحي المثمثل في كتاب الله سبحانه وتعالی وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم کمنهج الحياة. لذلک لتحقيق هذه الغاية المنشودة عني القرآن الکريم بالتكوين الإنسان وجوانب شخصيته عناية شاملة بحيث لا يترك جزئية من جزئياتها دون أن يلقی عليها الضوء، فمن خلال الرؤية القرآنية إلی الإنسان، نستطيع أن نفسر الطبيعة الإنسانية تفسيراً صحيحاً من حيث بنائها ووظيفتها وكيفية تحقيق صحته النفسية وكذلک لاستخلاص قوانين التي تحکم عليها. ومن جانب آخرا نجد أن وجهة النظرة مدارس علم النفس في الصحة النفسية على جملتها ورغم اختلافها في التفاصيل هي تنطلق أساساً من نظرة المادية إلى إنسانية الإنسان، وإهمال أهمية الجانب الروحي في الكيان الإنسان. وبذلک لا يمکن أن يتصور وجود شخصية سوية متکاملة دون الإلتفات إلی الجانب الروحي في الإنسان.

کما نجد أن أصحاب علم النفس الحديث بشتی فروعه وتخصصاته لايستطيعون أن يدعوا بعد کل دراساتهم و أبحاثهم أنهم يعرفون شيئاً عن النفس البشرية، وأن يفسروا تفسيراً مقبولاً سلوکها، ذلک لأن صفات النفس وأوصافها لاتخضع لتجارب ووسائل العلم الحديث الذي يستمد مناهجه من الموضوعية العلمية أي باستخدام منطق الاستنباط والقياس والملاحظه وغير ذلک من الطرق المادية التي تستخدم کمحکات، وقياسات لمعرفة الصدق أو الکذب1.

وإذا کان علم النفس، يريد حقاً أن يتعرف علی حقيقة النفس الإنسانية ويسعی إلی حکم رشيد علی شخصيته الانسانية، فعليه أن يغير من وسائله وغاياته ويبدل نظرته المحدودة ليصبح قادراً علی الوصول إلی نتائح إيجابية تفسر السلوک الانساني تفسيراً صادقاً سليماً.2 کيف يتمکن علم النفس من الوصول إلی ذلک إلا إذا اتبع نظرياته وأفکاره منهجاً إسلامياً قد استقی مادته من علم الله، ومن آياته البينات. فيعمق بذلک أبحاثه ودراساته، ولا يتناقض مع نفسه في تبرير فروضه المتخيلة وتفسيراته العاجزة وتخيلاته السطحية الفاترة3، والعقل الإنسانی مهما أوتي له من الفطنة ومهما استخدم الأساليب والأدوات الحديثة، فانه عاجز تماماً ... وسيبقی عاجزاً ابداً عن فهم وعلاج النفس الإنسانية مادام يتبع الطرق التجربية والتطبيقية والتحليلية والمادية في محاولة لفهم النفس الانسانية وعلاجها ...4

ثم إن الاختلافات الکثيرة الموجودة الآن بين المدارس المختلفة للعلاج النفسي من نظرتها إلی طبيعة الدوافع الأساسية المحرکة للسلوک، وإلی طبيعة التهديدات المثيرة للقلق، والمسببة لنشوء أعراض الأمراض النفسية والعقلية، يجعل من الصعب الوصول إلی اتفاق عام بين هذه المدارس المختلفة حول نظرية متکاملة في الشخصية وتوافقها، وفي العوامل المسببة لسوء التوافق، وفي أساليب العلاج النفسي. فکل مدرسة من هذه المدارس تنظر إلی الإنسان من زاوية معنية محددة، ولم تستطع أن تنظر إليه نظرة کلية شاملة، الأمر الذي جعلها عاجزه عن فهم الإنسان فهماً سليماً ودقيقاً.5

إن علماء النفس المحدثين، ادعوا أنهم يستخدمون في دراساتهم وبحوثهم المنهج التجريبى... ذلك المنهج الذى منعهم من أن يتناولوا الجانب الروحى في الإنسان. وقد كان الإدعاء الذي استندوا عليه أن الجانب الروحى، لا يستطيع أحد أن يخضعه إلى الدراسة الموضوعية المنهجية التجريبية؛ ولأنه يند عن القياس وعوامل الضبط التجريبية. وواضح أن هذا الادعياء لا يمثل قيمة علمية، بل هو يعبر عن قصور فى التفكير قد جعل هؤلاء الأدعاء يتناولون الإنسان، والدراسات التى تهتم بالشخصية الإنسانية تناولاً جزئياً مشوهاً، منعهم من الاهتداء إلى الطرق السليمة المثلى لإرشاد الإنسان وعلاجه نفسيّا، وتعرف العوامل الحقيقية، التى أدت إلى إضطراب شخصيته6.

إننا نتصور أنه کان الاجدر بالنسبة إلی أبحاث علم النفس التجريبي و الإکلينيکي، أن يتخذ لهما منهجاً آخر أقل ضرراً في دراسة السلوک الإنساني.. بل کان عليها أن يستحدث أساليب لا تستند إلی الأسس التجريبية فحسب،بل تعتمد أساساً علی وصف صادق للنفس البشرية.. وبذلک يمکن أن ترتبط الشخصية ارتباطاً وثيقاً بإطار معين، وأفکار محددة، قبل البداء في دراستها، تکون بمثابة النار لفهم السلوک الإنساني.7 فإن استخدام مناهج علم النفس التجريبى فى دراسة الشخصية الإنسانية، يعتبر جهد ضائع وأسلوب عاجز ناتج عن معرفة قاصرة، حيث أن هذه الدراسة تتبع أسلوب التحليل والتجريب لأجزاء من الشخصية و ذلك بتفكيكها إلى عناصر لتصبح سهلة طيعة حتى يمكن إخضاعها إلى الدراسات العملية والأبحاث المعملية .. وهذا لا يمكن تصوره فى دراسة النفس الإنسانية8.

إن إغفال علماء النفس المحدثين للجانب الروحي في الإنسان في دراستهم وللصحة النفسية قد أدى إلى قصور واضح في فهمهم للشخصية الإنسانية، وفي معرفتهم للعوامل المحددة للشخصية السوَّية وغيرالسوّية، كما أدى إلى عدم اهتدائهم إلى تكوين مفهوم واضح دقيق للصحة النفسية9. والملاحظة أن بعض نظريات علم النفس الحديث لم تفسر الطبيعة الإنسانية تفسيراً صحيحاً، فأدى الأمر لوجود آراء متضاربة منها التحليل النفسي لفرويد ومنها السلوكية لوطسون، ومنها الجشطلت وغيرها من النظريات والاتجاهات التي اعتمد روادها على دراسة الإنسان بعيداً عن مصدره وخالقه سبحانه، وتم عزل الإنسان عن الهدف الذي خُلق من أجله ووضع في مرتبة غير إنسانية. والمشكلة الكبرى أن من وضع النظريات لم يؤمن بالمنهج الرباني الذي وصفه الله تعالى لإصلاح العالمين وهو القرآن الكريم. فكيف تكون الدراسة متكاملة والمذهب شاملاً؟10

مما هو جدير بالملاحظة أن مؤشرات الصحة النفسية التي وضعها علماء النفس المحدثون سواء كانوا من الغربيين أو من العرب، تدور كلها حول تكيّف الفرد أو توافقه مع نفسه ومع المجتمع، ومدى قدرته وفاعليته في القيام بشؤون حياته الواقعية، وإشباع حاجاته المادية الدنيوية. إن علماء النفس المحدثين، تمشياً مع النزعة المادية التي تغلب على دراسات علم النفس الحديث، لم يوجهوا أي اهتمام نحو الجانب الروحي في الإنسان، وإ‌لى أهمية دور الدين والإيمان في الصحة النفسية. غير أن عدداً قليلاً جداً من علماء النفس المحدثين والمحللين النفسيين مثل وليم جيمس William james، وكارل يوج Carl G. Yung وا. ا، بريل A.A.Brill، و هنري لينك Henry Linke، ابتدأوا أخيراً يدركون أهمية الدين والإيمان بالله في الصحة النفسية، وأشاروا إلى الدور الهام الذي يقوم به الإيمان في بثّ الأمن و الطمأنينة في النفس، وفي التخلص من القلق والاضطراب النفسي.11

الصحة النفسية من منظور الإسلام

يعتبر تحقيق الصحة النفسية غاية علم النفس ومراده ، فعلماء النفس يجرون دراساتهم في مجالات كثيرة ، من أجل مساعدة الإنسان على معرفة علامات صحته النفسية، وعوامل تحقيقها وأساليب المحافظة عليها، وتبصيره بعلامت إنحراف صحته النفسية وأسبابها ، وطرق علاجهأ وأساليب الوقاية منها... وسبق الإسلام علم النفس الحديث في تحديد صفات الصحة النفسية،وحث المسلمين على التحلي بها،وحلّل لهم الطيبات التي تساعدهم على تحقيقها، كما بين لهم صفات وهن الصحة النفسة ، ونهاهم عن الإتصاف بها، وحرَّم عليهم الخبائث التي توقعهم فيها.

فمن يقرأ صفات عبادالرحمن ،وأخلاق المسلمين يجدها صفات الصحة النفسية كما حددها علماء النفس في العصر الحديث، ومن يقرأ المعاملات الإسلامية يجد أن الله سبحانه وتعالى شرع الخيرات التي تحقق الصحة النفسية ، وأمرالمسلمين بالإكثار منها، ومنع السيئات والمنكرات التي تسبب ضعف الصحة النفسية، ونهى المسلمين عن إتيانها. كما أن من يعرف أسرار العبادت التي فرضت على المسلمين، يلمس فيها صلاح النفوس وزكاتها، ويجدها تدريباً للإنسان على امتلاك ناصية نفسه،حتی يقدرعليها، ويتحرر من عبودية شهواته،ويطلق طاقاته فيما ينفعه في الدنيا والأخرة، وتلك قمة الصحة النفسية بلغة علم النفس الحديث.12

ويتصف ذو الدرجة المرتفعة من الصحة النفسية بأنه «على خلق عظيم» فى أكثر ما يعرض له من أحوال ومواقف، لا يقترف الآثام الإ قليلاً، يبتعد عن الكبائر، يعفُّ عن الصغائر الا لماما، لا يقرب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اذا حدث صدق، واذا وعد أوفى، واذا أئتمن أدى. يجتنب قول الزور، لا يمشى فى الأرض مرحا، ايمانا منه بأنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا، لايصعر خده للناس (لايتكبر)، يخالق الناس بخلق حسن، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ولقد تأكد الباحثون مؤخرا وبرهنوا على أهمية هذا الجانب لتحقيق الصحة النفسية. وقال الغزالي: «حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق»، كما ذكر ابن القيم أن: «الإيمان هو حسن الخلق».13

تعريفات الصحة النفسية في المفهوم الإسلامي

يری محمد ومرسي أن الصحة النفسية هي: «أن يعيش الإنسان على فطرته في قرب من الله و سلام مع ‌الناس، وئام مع النفس، وسلامة في‌الجسد، ونجاح في الحياة».14 يری مرسي أن الصحة النفسية هي حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بالرضا والارتياح عندما يكون حسن الخلق مع الله ومع نفسه والناس. وفي موضع آخريقول أيضاً: أن حسن الخلق يجعل المسلم معافاً في بدنه، في سلام مع نفسه وانسجام مع الناس، وقرب من الله، فيشعر بالصحة النفسية15 يعّرِف رياض أن الصحة النفسية هي قدرة الفرد على تجريد نفسه من الهوى، وإخلاص العبودية لله تعالى، بالمحبة والطاعة والدعاء والخوف والرجاء والتوكل مع القدرة على تهذيب النفس والسمو بها من خلال أداء التكاليف التي شرعها الله، كذلك القدرة على التفاعل مع البيئة التي يعيش فيها فيسلك فيها السلوك المفيد والبناء بالنسبة له، ولمجتمعه، وبما يساعده على مواجهة الأزمات والصعوبات التي تواجهه بطريقة إيجابية دون خوف أو قلق، وتقبل ذاته وواقع حياته والتوافق مع المجتمع الذى يعيش فيه16.

يرى الصنيع أن الصحة النفسية هي حالة من التكامل المستمر مع الفرد في نمو وإشباع جوانبه الجسمية والروحية والعقلية والإنفعالية والاجتماعية بشكل سوي17. ويذكرصبحي أن الصحة النفسية في أساسها هي قيمة الشخص من خلال أفعاله وسلوكه وتصرفاته، وليست القيمة هنا هي تلك التي تأتي عن طريق الأشياء أو الأفكار، والتي قد تظهر في شكل بعض الآراء التي تبتعد بالإنسان عن القيم الدينية – بل هي الإتجاه إلى الخير، والخير هو أن يأتي الإنسان بسلوك وتصرفات ابتغاء مرضاة الله.18

عوامل ومؤشرات أو مظاهر الصحة النفسية لدی علماء النفس المسلمين

يری الصنيع 2000 أن عوامل الصحة النفسية من منظور إسلامي هي الآتي:

أولاً- العوامل الذاتية: وهي مجموعة العوامل اللصيقة بکل فرد بذاته، و هي أساس تمتع الشخص بالصحة النفسية. وأهمها العوامل الأربعة التالية:

(1) الإيمان: هو أول الأركان وأهمها ومقصود بالإيمان هو: (أ). الإيمان بالله (ب). الإيمان بالملائكة (ج). الإيمان بالكتب(د). الإيمان بالرسل(ه‍). الإيمان باليوم الآخر(و). الإيمان بالقدر خيره و شره. وذلك متضمن في أنواع التوحيد الثلاثة: أ- توحيد الربوبية ب- توحيد الألوهية ج- توحيد الأسماء و الصفات الله سبحانه سبحانه وتعالى .

(2) الأعمال الصالحة: ومن أهم الأعمال أثراً في الصحة النفسية العبادات وأهم هذه العبادات ما ورد منها في أركان الإسلام وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج.

(3) الأخلاق الحسنة: وأهمها: أ).الإخلاص ب).الأمانة ج).الصدق د).الصبر ه)-القوة و).التواضع ز).الحلم والصفح.

(4) العلاقات: وهي العامل الرابع من العوامل الذاتية للصحة النفسية. و يقصد بها شبکة العلاقات التي يقيمها الفرد مع الله ومع النفس ومع الآخرين.

ثانيةً- العوامل البيئية: وهي مجموعة العوامل المحيطة بالفردکالأسرة والجيران والرفاق وأماکن العبادة والتعليم والعمل، ووسائل الاتصال التي يتعامل معها الفرد ليتعرف علی ما حوله19.

مؤشرات الصحة النفسية لدی علماء النفس المسلمين

يری الشرقاوي1985 أن أهم المؤشرات الإيمانية التي تدل على صحة الفرد النفسية هى الآتي:

1- الرضا: وهو أشمل و أعلم من الرضا عن النفس، فهو رضا عن النفس بما تشمله من قدرات و إمكانات، ورضا عن الآخرين، ورضا عن الله متمثلاً في الرضا بقضاء الله وقدره ورضا عن الكون، فالمتدين نفسه مطمئنة راضية مرضية، والمؤمن وحده هوالذي يغمره الإحساس بالرضا في جميع أحواله وكل أوقاته.

2- السمو و الإلتزام: ويعني في الإسلام سمو بالنفس للوصول إلى كمالاتها عن طريق الإلتزام بمنهج الدين المتكامل بين الجسد والروح، فهو يطلب أن يلتزم الفرد بالصحة الجسدية المتمثلة في النظافة عن طريق الوضوء والإغتسال، واستخدام السواك، وإزالة النجاسة، وقص الشعر والأظافر، ولبس الجديد من الثياب والتطيب. وقد ربط الإ‌سلام الإلتزام في نظافة الجسد بالعبادات، بل لا تقبل العبادة دون بعد الصحة الجسدية أو النظافة الجسدية، ولذلك اعتبرت النظافة من الإيمان. وينص الحديث النبوي على أن «الطهور شطر الإيمان»، وإذا كان الإهتمام بنظافة الجسم و صحته نصف الإيمان، فإن النصف الآخر هو صحة النفس، وقد ربطت العبادات بين الجانبين، والمسلم يلتزم بمطالب الدين من أجل أن يسمو ومن أجل صحته النفسية، فعليه أن يرسخ معتقداته الدينية ويؤدي العبادات متمسكاً بالمعاملات الإسلامية والأخلاق الإيجابية.

3- التضحية والإيثار: يبذل المسلم المال إبتغاء مرضاة الله، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: «وَيُؤثرونَ علَى أَنفُسهِمْ و لَوْ كانَ بِهِمْ خصاصَةٌ»20. ومن ثم فعلى الإنسان المسلم أن يضحى بأثمن ما يملك من النفس والمال، فالله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. ولا تكون المحبة و التضحية والإيثار إلا من أجل الله تبارك وتعالى، وليس لأهداف وأغراض خاصة.

4- الوسطية: أن الدين الإسلامى بحكم ما فيه من تكامل وتناسق،ويشمل جميع حاجات الإنسان: الجسدية، والفكرية والعاطفية من غير تفريط أو إفراط من حيث أبعاد الدين؛ وهي تتمثل في المعتقدات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق. وتعني الوسطية الإعتدالية فمن حيث العقيدة فهي عقيدة وسط بين العقائد المادية والعقائد الروحية، فقد قال الله تعالى: «وكَذلِك جعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً»21. والتوسط في العبادات يقصد بها عدم إنشغال المسلم بالدنيا ويترك العبادة، أو العكس. ويطلب الدين الإسلامى التوسط والإعتدال من اتباعه في المعاملات، قال تعالى: «وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا»22 «وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»23. كما يطلب أيضا التوسط في الأخلاق، فأخلاقيات الإسلام وسطية، فالشجاعة وسط بين التهور و الجبن، والكرم وسط بين الإسراف والشح، والصبر وسط بين السخط و بلادة الإحساس. ومن خلال ذلك يتوجه الفرد إلى الله طالباً منه العون والمساعدة، سوياً معتدلاً في عقيدته وعبادته ومعاملاته وأخلاقه في معاشه وحياته ومماته.

5- الإيجابية: يطلب الدين الإسلامي من الفرد المسلم أن يكون إيجابياً في علاقته بنفسه، فيهتم بنظافته الشخصية ومظهره الخارجى من أي تلوث، فيطالب دائماً بالطهارة والوضوء والغسل وغير ذلك، كما يهتم بنظافة الداخل بالبعد عن التلوث الداخلي بعدم احتراز الأفكار السيئة التي تؤدي إلى السلوك المنحرف. كما يطالب الإسلام الفرد أن يكون إيجابياً مع ربه في محاولة مستمرة لتحسين تلك العلاقة التي بين الفرد وخالقه عن طريق الصلاة وغيرها من العبادات. وإلى جانب هذا، يجب أن يكون المسلم إيجابياً تجاه الآخرين والحياة فلا يقف من أحداث الحياة اليومية موقف المتفرج، وإنما يتفاعل مع هذه الأحداث في محاولة لجعلها حسب مطلوب الدين، وأن تكون عملاً صالحاً وليس فاسداً.

يری محمد ومرسى، 1994 أن مظاهر الصحة النفسية تشتمل على أربع مكونات للنفس الإنسانية وهي24:

1- الجانب الروحي: الإيمان بالله، أداء العبادات، القبول بقضاء الله وقدره، الإحساس الدائم بالقرب من الله، إشباع الحاجات بالحلال، المداومة على ذكر الله.

2- الجانب النفسي: الصدق مع النفس، سلامة الصدر من الحقد و الحسد والكره، قبول الذات، القدرة على تحمل الإحباط، القدرة على تحمل القلق، الابتعاد عما يؤذي النفس (الكبرياء، الغرور، الإسراف، التقتير، الكسل، التشاؤم)، التمسك بالمباديء المشروعة، الإتزان الإنفعالي، سعة الصدر، التلقائية، الإقبال على الحياة، السيطرة و ضبط النفس، البساطة، الطموح، الاعتماد على النفس.

3- الجانب الاجتماعي: حب الوالدين، حب شريكة الحياة، حب الأولاد، مساعدة المحتاجين، الأمانة، الجرأة في قول الحق، الابتعاد عما يؤذي الناس (الكذب، الغش، السرقة، الزنا، القتل، شهادة الزور، أكل مال اليتيم، الفتن، الحقد، الحسد، الغيبة، النميمة، الخيانة، الظلم)، الصدق مع الآخرين، حب العمل، تحمل المسؤولية الاجتماعية.

4- الجانب البيولوجي: سلامة الجسم من الأمراض، سلامته من العيوب الخلقية، تكوين مفهوم موجب للجسم، العناية الصحية بالجسم، عدم تكليفه إلا في حدود طاقته».

ويری ياركندي،2003 أن مظاهرالصحة النفسية تتمثل في خمس مكونات للنفس الإنسانية في شمول وتکامل مستمدة من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بما يلي25:

1- التكوين الروحي: وهي صلة العبد بربه والتي يحفظ سموه وكماله واستقامته، وتتضمن الإيمان بالله، والقبول بقضائه وقدره، وأداء العبادات مع الإحساس الدائم بالقرب من الله.

2- التكوين الجسمى: ويتضمن سلامة الجسم من الأمراض، إشباع الحاجات الجسمية الفطرية، مثل الحاجة إلى الطعام والشراب، والحاجة إلى الجنس، والحاجة إلى النشاط والراحة، والحاجة إلى الإخراج، وممارسة الرياضية وخاصة أنواع التي تقوي الجسم: كالرمي، والفروسية والسياحة.

3- التكوين العقلي: ويشمل الوظائف العقلية مثل: الذكاء العام والقدرات الخاصة والعمليات العقلية: كالإدراك والحفظ والتذكر والتخيل. . الخ. والمقصود به الاهتمام بسلامة العقل، وحفظه من الأمور التي قد تدهوره وبالتالي تسبب له اختلالاً في الصحة العقلية.

4- التكوين الأنفعالي: يتضمن أساليب النشاط المتعلقة بالانفعالات المختلفة، مثل: الحب والكره والخوف والغضب، والبهجة والسرور.. الخ، وما يرتبط بذلك من ثبات إنفعالي أو عدمه.

5- التکوين الاجتماعي: يتمثل هذا الجانب بالتنشئة الاجتماعية للشخص في الأسرة والمدرسة والمجتمع، والمعايير الاجتماعية، والإتجاهات، والقيادة والتبعية، والعلاقات الاجتماعية بالآخرين.

يرى نجاتى، 2000 أن مؤشرات الصحة النفسية من حيث علاقة الفرد بربه، بنفسه وبالناس في ضوء القرآن والحديث بما يلى26:

1- من حيث علاقة الفرد بربه: الإيمان بالله تعالى، وحده لا شريك له، وبكتبه ورسله وملائكته، وبالآخرة والحساب، وبالقضاء والقدر، والتقرب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات، والإخلاص في التقوى، واتباع كل ما أمر الله تعالى به، ووصانا به رسول الله (ص)، والإبتعاد عن السيئات والمعاصي، وكل ما نهى عنه الله تعالى ورسوله(ص).

2- من حيث علاقة الفرد بنفسه: يعرف نفسه، ويعرف إمكاناته وقدراته وقدر نفسه، وتكون طموحاته في الحياة على قدر إمكاناته وقدراته، وهو يسعى دائماً إلى تحقيق كماله الإنساني على‌ قدر إمكاناته و قدراته. ويعرف حاجاته ودوافعه ورغباته، ويقوم بإشباعها بالطرق الحلال بتوسط واعتدال من غير إسراف، ويستطيع أن يتحكم فيما لا يستطيع إشباعه منها حتى تتاح له في المستقبل الظروف المناسبة لإشباعها بالطرق الحلال. وهو قادر على التحكيم في دوافعه وأهوائه وشهواته التي تتعارض مع القيم الدينية، والخلق الحسن، أو القيم الإنسانية، والمعايير الاجتماعية ... وهو يشعر بالحرية والمسؤولية ويعتمد على نفسه في تولي أموره المعيشية، وهو واثق بنفسه، ويؤكد ذاته، وهو مستقل في رأيه، وله قدرة كبيرة على الصبر وتحمل ضغوط الحياة ومشاقها، وله قدرة كبيرة على الكفاح من أجل التغلب على‌ ما يواجهه من مشكلات الحياة ... وهو يعنى بصحته الجسمية، وبقوته البدنية.

3- من حيث علاقة الفرد بالناس: إن علاقته بالناس، بصفة عامة، طيبة، فهو يألفهم ويحبهم، وهم كذلك يألفونه ويحبونه. إنه يعاملهم بالحسنى والمودة، ويمد يد العون والمساعدة إليهم، إنه دائماً صادق في أقواله لهم، وأميناً في تعامله معهم، فهو لا يكذب ولا يغش ... أنه يشعر بالمسؤولية نحو المجتمع، ويعمل دائماً على ما فيه مصلحته وتقدمه ورقيه، إنه يميل إلى الإيثار، ويكره الأثرة. وعلاقته بأسرته، على وجه عام، علاقة طيبة ...

4- من حيث علاقة الفرد بالكون: إنه يعرف حقيقة منزلته في الكون، وأن الله تعالى كرمه على سائر مخلوقاته، فجعله خليفته في الأرض، عليه مسؤوليات عمارتها، وتطبيق منهج الله تعالى فيها. إنه يتأمل في آيات الله تعالى في الكون، والمخلوقات، ويدرك فيها قدرة الله تعالى، ويستشعر فيها الجمال والإتقان والإبداع. إنه يشعر بمتعة الحياة في هذا الكون، ويشعر بكل ما فيه من جمال، ويشعر بالحب نحو كل مخلوقات الله تعالى من جمال وحيوان ونبات.27 بناً على ذلك أن هذه المؤشرات الإيجابية الإسلامية دليل على صحة الفرد النفسية و الإسلام باعتباره آخر الشرائع و المصدق لكل ما سبقه، يتسم بالكمال والشمولية و العمومية، وهذا فهو يعتبر الإطار المرجعي الأساسى الذي يجب أن ترتد إليه كل مقارنة في السلوك، ويكون هذا في حد ذاته منطلقاً موضوعياً في اشتقاق الأصول التي يمكن أن يبنى عليها نظرية دينية في الشخصية28.

الهوامش:

1- الشرقاوي، محمدحسن: نحو علم النفس إسلامي (1979). الإسكندرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 357- 356.

2- الشرقاوي، محمدحسن: نحو علم النفس إسلامي، المرجع السابق، ص 357-356.

3- الشرقاوي، محمدحسن: نحو علم النفس إسلامي، المرجع السابق، ص 357-356.

4- الشرقاوى، محمدحسن: نحو علم النفس إسلامي، المرجع السابق، ص 357-356.

5- نجاتي، محمدعثمان: القرآن و علم النفس (1989). القاهره: دارالشروق، ط 6، ص 247-246.

6- صبحي، سيد: الإنسان وصحته النفسية (2003). القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ط 1،ص 153 – 152.

7- الشرقاوي، محمدحسن: نحو علم النفس إسلامي، المرجع السابق، ص 64.

8- الشرقاوى، محمدحسن: نحو علم النفس إسلامي ، المرجع السابق، ص 63.

9- نجاتى، محمدعثمان: الحديث وعلم النفس (2000). القاهرة: دار الشروق، ط 4،ص 277 – 276.

10- رياض،سعد:علم النفس في القرآن الکريم(2004). القاهرة: مؤسسة إقراء للنشر و التوزیع، ص 7.

11- نجاتى، محمدعثمان: الحديث وعلم النفس،المرجع السابق،ص 275- 274.

12- مرسي، إبراهيم: المدخل إلى علم الصحة‌ النفسية،المرجع السابق،ص 165.

13- عبدالخالق: أحمد محمد: أصول الصحة النفسية،المرجع السابق،ص 38 – 37.

14- محمد، محمدعودة، ومرسي، كمال إبراهيم: الصحة‌ النفسية في ضوء علم النفس، المرجع السابق،ص 64.

15- مرسي، إبراهيم: المدخل إلى علم الصحة‌ النفسية،المرجع السابق، ص 112.

16- رياض،سعد:علم النفس في القرآن الکريم ،المرجع السابق،ص 184.

17- الصنيع، صالح إبراهيم: التدين والصحة النفسية (2000). الرياض: جامعة الإمام بن سعود الإسلامية، ص 19.

18- صبحي، سيد: الإنسان وصحته النفسية (2003). القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ط 1، ص 31.

19- الصنيع، صالح إبراهيم: التدين والصحة النفسية ،المرجع السابق، ص 503-452.

20- (الحشر:9).

21- (البقرة: 143).

22- (الإسراء: 29).

23- (الأعراف- 31).

24- مرسي، إبراهيم: المدخل إلى علم الصحة‌ النفسية المرجع السابق، ص 61.

25- ياركندي، هانم حامد: الصحة النفسية في المفهوم الإسلامي ودراسات نفسية أخرى ، المرجع السابق، ص 49-36.

26- نجاتى، محمدعثمان: الحديث وعلم النفس (2000). القاهرة: دار الشروق، ط 4، ص 304 – 302.

27- نجاتى، محمدعثمان: الحديث وعلم النفس ،المرجع السابق، ص 304- 302.

28- الشرقاوي، مصطفی خليل:علم الصحة النفسية ،المرجع السابق، ص 136.