عقود من الزمن مرت منذ سقوط السلطنة العثمانية التي كانت تمثل رمزا وحدويا للمسلمين حمى كثيرا من مناطقهم عسكريا رغم ما كان يعانيه في بعض المراحل التاريخية من تهالك وانقسام. مرت هذه العقود وأسئلة الدولة القوية والعدالة ونماء الفرد وتطور مستواه تدور في أروقة الإسلاميين علماء ودعاة ومفكرين ومثقفين، ولم تكن التجارب السياسية بمجموعها قليلة خاصة في مشاريع برلمانية ومسميات ديمقراطية حققت بعض الحقوق وغابت عنها حقوق أخرى في عدد من بلدان الوطن العربي والعالم الإسلامي. لكن هذه التجارب كانت تصطدم بعنصر الاستبداد الانقلابي العسكري أو المدني أو الاستبداد الشمولي، كما أن المعسكر الغربي الذي خرج من الاحتلال الجغرافي ظل موجودا يرعى مصالحه مع حكومات الاستبداد المتعددة في الصفة والنموذج، وملخص كل حدث كان يسجل غياب حرية الفرد وقراره السياسي وكرامته عن المشهد الوطني العام، وبالتالي فتح الباب لخسارة الأوطان وضعفها أمام ترسانة القوة ومصالح الغرب.

لكن الجدل الذي عصف بحوارات الإسلاميين بشأن المشروع السياسي البديل لتنظيم حياة الفرد والدولة في الدستور والمشاركة الشعبية أثر كثيرا في قدرات البناء الثقافي للفرد، ومع وجود ديمقراطيات شكلية أو هزلية فتحت لها قوى الاستبداد مسارا فإن الزهد في هذا المصطلح تعزز في أوساط الرأي العام الإسلامي.

والمقصود اليوم بعد أن شرحنا في مقالات سابقة مساحة الخلاف المصطلحي بين الشورى والدستور المنصوص عليها وبين تسمية المشروع السياسي البديل بالديمقراطية فإن الحاجة الثقافية اليوم للمسلمين وأوطانهم تحتاج إلى أن تتقدم لتطرح نظريتها في الديمقراطية الإسلامية، وهل هناك مسوغ لهذا المصطلح؟ وما صفاتها؟ وما هو الفارق الذي ستقدمه عن الديمقراطية الغربية والديمقراطية اللاتينية وغيرها؟ وهل هي مشروع قابل للحياة والتطبيق وتعطي نتائج حية تبنى عليها ثقافة المسلمين فتحيا أوطانهم بالشريعة والعدالة الاجتماعية معا؟أم إن المصطلح مصطنع في أصله ولا يحتاج إليه المسلمون، وهكذا يتم البحث عن المجهول ويستثمر المستبد هذا الفراغ عوضا عن تطوير الفكرة وتقنينها قبل الوصول إلى مراحل الضرورات والبحث عن بديل حين تعيش أوطان المسلمين صراعا أو حركات احتجاج تتأزم مرحلتها الانتقالية بسبب غياب التصور المتفق عليه بين الشعوب في العالم الإسلامي وفي تياراته الفكرية.

من المهم جدا أن نذكّر بأن هذا المصطلح لا يعني أن يدمغ الإسلام كبديل إداري وسياسي واجتماعي بأي مشروع تتوارثه الثقافات الإنسانية المعاصرة، كمقولة الإسلام الديمقراطي بعد الإسلام الاشتراكي وهكذا، فليس ذلك مقصودا على الإطلاق فالإسلام رسالة إيمان وحياة واستخلاف كبرى للبشرية من الخالق جمعت أصول هذه الرحلة الدنيوية ومسارات الاحتياجات الكبرى للإنسان بعد تقعيد أصول الإيمان والعبادة، ليتسنى له تحقيق كامل هذه الرحلة بنجاح في دينه ودنياه.

فهو مرجع رسالي ضخم يعطي مسارات كبرى ومنها درب العدالة السياسية والاجتماعية لحياة البشر، لكن لا يقدم كتفصيل لمشروع بديل أو تقنيات تنفيذية، فهنا أعطى الشارع للمسلم مساحة الاجتهاد والبحث للوصول إلى الخيرية الكبرى له في حياته، وتنظيم التنافس الشرس الذي يقع بين الناس عبر العدالة، ومتى ما تحققت فقد تحقق رضا الله مع الانقياد للقطعيات من الحدود والأحكام. لكن المقصود في إطلاق هذا المسمى والمشروع هو تحقيق ثلاثة مسارات رئيسية في الحياة الفكرية للمسلمين ومستقبلهم السياسي الذي تترتب عليه سعادتهم ورفاهيتهم والخروج من الصراعات الإثنية والطائفية إلى رحابة الوطن الحاضن للجميع بفقه وفلسفة أحكام الشرع ومقاصده.

المسار الأول: تثبيت الفقه الدستوري وتقنين أحكام السياسة ونظام الدولة بين أبناء الشعوب المسلمة ومن يجاورهم، وحسم هذا الجدل المتكرر عبر إقرار هذه الحقيقة الكبرى بأن تحكيم الشرع وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعارض الفقه الدستوري والعدالة الاجتماعية، بل هو من مستلزماتها الضرورية لتحقيق العدالة الواجبة. وبالتالي تحريك ثقافة التشريع الإسلامي لتحقيق وتدوين هذه المدونات كجزء من فرض الكفاية الواجب، وإقامة الندوات فيها، ليس حين يحتدم الصراع السياسي في أي دولة فيسلق المشروع الدستوري، ولكن في سعة الفقه وأروقة الفكر التي تتجاذب الحديث والنقاش حول هذه المواد التي سيكتشف كل طالب علم فيها أن مساحة الاجتهاد فيها واسعة جدا ومساحة القطعيات ضيقة، وإن بقي مدار أحكام الشرع الكبرى وديانة الشعب المسلم له حظ مركزي في تميز فقه المسلمين وتصورهم للحياة والكون.

المسار الثاني: تحديد القطعيات في الشريعة والأحكام ومناقشة ما هو الواجب التطبيقي على الفور، والتي تحتاج إلى مساحة زمنية لوعي المسلمين وجيرانهم. وما هو حكم المسلم المؤمن بشريعة الله في ثوب عدالتها وكمالها، لكنه يبحث عن ما يحقق مسارها ومقاصدها بذات النص والروح، وهل تأخر تطبيق الحكم المعين يعني ضلال الفرد الذي يبحث عن مقصود الشرع وتحقيقه في مناطه المناسب بعد أخذ حقه الزمني للخروج من عبثية دعوى تطبيق الشريعة من مجموعة أفراد يقتلون ويقطعون ويجلدون آلافا بشبهة أو بروح كراهية مطلقة للإنسان.

كما أن هذا المسار معني بفقه الفرد كيف تشكل وعيه خلال حروب شرسة فرضت على الأمة من محتليها أو مستبديها، وحرب ثقافية شاملة اخترقت الصورتين الإنسانية والدينية معا، وخلقت من بعض الوعاظ أسواطا وأصواتا تتحد مع البغاة والمستبدين لقهر الفرد وإهانته وكسر نفسه وحريته، ثم يقال لهذا الشاب هذا دين الله وشريعته. وهل ما يتشكل من تمرد نفسي وفكري لدى هذا الشاب أو المواطن من الجنسين يقوم عليه حق العقوبة الناجزة؟

إن الأصل أن يتبين هو بذاته ما هي رسالة الإسلام الذي ورثها من أبويه، والفرق بينها وبين دين الوعاظ والمستبدين وقهرهم له باسم الدين، وهل مقصود الخليفة العادل عمر في تحقيق مناط قطع اليد ورفعه عن الناس عام الرمادة مدخل دستوري فقهي عظيم لكثير من القضايا التي ترد في عالم المسلم المعاصر؟ وفي المسار الثاني أيضا: تطرح قضايا الحياة الاجتماعية والفنون، وأين مسؤولية الدولة والنظام عن ما استحسنه الشارع واستكرهه؟ وهل ذلك يعني حمل الناس في كل طبائعهم على المندوبات فضلا عن الأمور المختلف فيها، أم إن المدار في تحقيق النظام العام على مسالك رئيسية تحافظ على حشمة المجتمع المسلم وقيمه والآداب العامة، وللناس مساحاتهم الفردية التي يسمعون فيها قول أهل العلم دون أن يقهروا على أمر لم يقطع به في الشرع ولم تنص عليه عقوبة محددة، وطبائع الناس متنوعة فيهم المتعبد والمترفه، وكلهم خلق الله وعياله.

أما المسار الثالث فهو مما تعين بفقه الشريعة ومقاصدها، بمخالفة تلك الديمقراطيات له، والبعض هنا يحتشدون على معان محددة ومصطلحات ومشاريع فيقطعون بأنها من مصالح الإنسان أو مدار تحقيق العدالة الكبرى له، وهي تصورات لم تثبت بإحصائيات إنسانية، ولا تجارب علمية، وإنما ثقافات ودعايات إعلامية ضخمة كحركة الترويج للغرب في إباحيته أو رأسماليته أو ديمقراطيته المقننة التي يفرضها على الشعوب.

وهي تخدم مصالحه وتضطهد إنسان الجنوب وتقيم معايير ظلم وموازين غير إنسانية لتفرضها كقوانين عقابية أو ثقافية، وهي انحرافات تؤذي الإنسان وتكرس الشذوذ عوضا عن فطرة الشعوب التي تسكن لها العائلة والفرد، ويكفي في مسارات تجسيد الحياة المعاصرة لمصلحة المثليين بدلا من الفطرة الإنسانية المجردة دليلا على هذه الانتكاسة. إن في تفاصيل الأحكام ومسارات الفكر الإسلامي ومقاصد الشريعة ما يجعل المنظومة القانونية لحياة الأفراد والمجتمعات مرجع رقي واستقرار وطمأنينة عبر تعزيزها بالضمير الأخلاقي للمسؤول والفرد فيطبق القانون مع روح مسؤولية وتذكير عقابي في الآخرة.

هذا في المدار العام، أما المسارات التفصيلية فإن دلالات بعض هذه الأحكام التي قد يرفضها البعض ديمقراطيا -بحسب تصوره- فيها من مصالح الفرد وتوازن حقوقه مع حقوق المجتمع ما يكفل بالفعل حياة فاضلة كحقيقة فكرية وليس عبر دعايات وعاظ المستبدين الذين يدافعون عن شرائع فرضها حكامهم باسم الدين فرارا من بعض مساحات الحرية للديمقراطية المعاصرة.

وإنما المقصود أن هذا الحكم أو دلالة هذه النظرية الإسلامية هي بالفعل أبلغ لحقوق الفرد والمجتمع، وأن رسالة التكامل بين فقه الحقوق وحياة الفضيلة ومقاصد العقوبة وتوجيه المجتمع هي نص وروح أصلية في مدونات الشريعة الكبرى. وعليه، فإن فكرة التكامل والتكافل بين الحق السياسي الدستوري والحاكم الأجير لدى الناخبين في الدولة الإسلامية الديمقراطية وفكر الاحتساب الشامل هي الركن السياسي الدستوري، فيما يتمثل الركن الآخر بضمان حياة الفرد وأخلاقيات العائلة والعدالة الاجتماعية وتحريض النفس ذاتيا للتطوع والخيرية لكل إنسان شريك في وطنها.

وهي قاعدة إطلاق تميز الديمقراطية الإسلامية التي تحتاج اليوم لتنتقل من مسارات التنظير إلى مساحات التحقيق والتطبيق لها كقيم تمارس على الأرض لا دعايات على منصات الانتخابات. الجزيرة نت