بعد مرور أربع سنوات على المؤتمر الصحفي لوزيرة الخارجية الاسرائيلية آنذاك تسيبي ليفني في الخامس والعشرين من ديسمبر/كانون أول 2008، والذي هددت فيه من قلب العاصمة المصرية القاهرة بإسكات صواريخ حماس، جاء المؤتمر الصحفي لخالد مشعل ورمضان شلح من القاهرة أيضاً في الحادي والعشرين من نوفمبر/ تشرين ثاني2012 الذي أعلنا فيه انتصار غزة.
إن التأمل لهذين المشهدين وما بهما من تناقض يلخص عمق التحول الحادث – أو الذي يحدث!- في موازين السياسة والأمن التي تحكم ملف المواجهة المستمرة مع دولة الاحتلال الاسرائيلي منذ نكبة 1948.
عدوان لم يحقق أهدافه
لا شك أن عملية اغتيال الرجل الثاني في كتائب القسام، الشهيد أحمد الجعبري 14 نوفمبر/ تشرين ثاني في حد ذاتها هدف تسعى إليه الأجهزة الأمنية الاسرائيلية، وربما هو الشيء الوحيد الذي تحقق من أهداف هذا العدوان؛ في الوقت ذاته لا يمكن تجاهل التوقيت ودلالاته خاصة فيما يتعلق بمصر وما تمر به من مرحلة انتقالية.
جاءت عملية الإغتيال في وقت ظن فيه المتابعون أن هدنة جديدة برعاية مصرية باتت وشيكة، خاصة مع إشارات إيجابية من جانب دولة الاحتلال، ظهر فيما بعد أنها جزء من خداع دأبت عليه قيادة العدو الاسرائيلي، أو أنها نوايا جادة تبخرت مع إغراء التخلص من قائد أركان القسام؛ أيا كانت الحقيقة، فقد اتخذ العدو قرار تنفيذ العملية مع توسيعها لتشمل استهداف قوة المقاومة الصاروخية (خاصة منصات الصواريخ بعيدة ومتوسطة المدى)، تمهيدا لفرض تهدئة بشروط مختلفة تكون فيه المقاومة هي الجانب الأضعف.
جاء الرد المصري خلال ساعات بقرار سحب السفير المصري لدى اسرائيل، واستدعاء السفير الاسرائيلي لدى مصر وإبلاغه احتجاجاً رسمياً مما اضطره لمغادرة القاهرة في وقت متأخر من مساء نفس اليوم؛ بالاضافة لذلك طلبت مصر رسمياً عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن، وجلسة طارئة لوزراء الخارجية العرب لبحث التحركات الدبلوماسية لوقف العدوان.
استمر العدوان حوالي اسبوع، دون أن تتوقف فيه صواريخ المقاومة التي جعلت لأول مرة تل أبيب نفسها تحت التهديد؛ ثم انتهى باتفاق تهدئة غير مباشر بين فصائل المقاومة والعدو الاسرائيلي، برعاية مصرية مباشرة ودعم أمريكي واضح عبرت عنه تصريحات أوباما المرحبة بالدور المصري والمشيدة بموقف الرئيس محمد مرسي. دخل الاتفاق حيز التنفيذ يوم الخميس الثاني والعشرين من نوفمبر/ تشرين ثاني، وقررت الحكومة الفلسطينية في غزة اعتباره عيداً وطنياً وعطلة رسمية احتفالاً بانتصار المقاومة.
مصر في سياق ربيع عربي
تبذل اسرائيل خطوات محمومة لاختبار وربما توريط النظام المصري الجديد وانتزاع مواقف منه، تقضي على سكوته الصاخب تجاهها! بدءا من محاولة استغلال عملية رفح التي استهدفت جنوداً مصريين، ونشر خطاب طلب اعتماد السفير الجديد في اسرائيل في سابقة غريبة لم تحدث من قبل، ثم وضع النظام المصري أمام عملية عسكرية مفتوحة في قطاع غزة، أعادت إلى الأذهان من لحظاتها الأولى ذاكرة ليست بعيدة عن تورط نظام مبارك في عملية الرصاص المصبوب واستدعت مقارنة بين سلوك النظامين.
تورط نظام مبارك في إحكام الحصار حول قطاع غزة، إلا أن التعاطي المصري أثناء العدوان أكد على عدم اعتراف النظام الجديد بهذا الحصار؛ لم يعد الأمر مقتصراً على السماح لقوافل التضامن بالدخول إلى القطاع بعد منعها في ظل حكم مبارك، بل ظهر رئيس الوزراء المصري في قلب قطاع غزة بجوار رئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية، في زيارة مهدت لزيارات مماثلة قام بها وفد وزاري تونسي، ووزراء الخاريجة العرب، ووزير الخارجية التركي، وهي في المحصلة زيارات تسقط الحصار سياسياً بعد سقوطه أخلاقياً.
لا شك أن العدوان استهدف فرض واقع على النظام المصري، واختبار ردود أفعاله خاصة واستغلال تأزم الوضع الداخلي المصري؛ لكن الرئيس المصري استطاع فرض واقع جديد على العدو الاسرائيلي، وهو ما عبر عنه "إيان بلاك" محرر شؤون الشرق الاوسط في الغارديان الخميس 22 نوفمبر/ تشرين الثاني، قائلاً إن اكبر رابح في اتفاق الهدنة هو الرئيس المصري الجديد محمد مرسي الذي وازن بمهارة بين علاقته مع حماس ومصلحة مصر الاستراتيجية القومية ونجح في تحقيق الهدنة، مما سيعطي دفعة لدور مصر كلاعب اقليمي.
ودون اغفال دور المقاومة الرئيسي في دحر العدوان وارغام اسرائيل على القبول بشروط المقاومة، فإن الدور المصري لعب دوراً حاسماً في توفير الغطاء السياسي والدبلوماسي لهذا الاتفاق؛ كما أن أهمية الدور المصري في اتمام هذا الاتفاق تنبع من سرعة التحرك المصري الذي استطاع في اللحظة المناسبة توظيف صمود المقاومة وبسالتها على الأرض وهو ما عانت منه المقاومة في الماضي – وربما القضية الفلسطينية عموماً- حيث دأب العدو الاسرائيلي على حصد مكاسب من خلال المسار السياسي عجز عن تحقيقها بآلته العسكرية.
أشير هنا إلى تحليل اعده "ريتشارد سبنسر" مراسل صحيفة الديلي تليغراف لشؤون الشرق الاوسط، يوضح فيه أن البعض، وربما يكون نتنياهو ذاته منهم، قد يرى أن الرضوخ للدبلوماسية ضعف، ولكن واقع الامر أنه اقرار بتغير الظروف في المنطقة. ووفقا للتحليل فإن حقيقة الموافقة على الهدنة تكمن في ادراك اسرائيل انها يجب ان تتعامل وفقا لشروط جديدة مع جيرانها. لأن زمن الربيع العربي غيَّر الظروف المحيطة باسرائيل وأصبح لحماس حلفاء جدد مثل مصر وتركيا وقطر، على حد قول "سبنسر".
حدود الفعل المصري
بالرغم من التغير اللافت في طبيعة الدور المصري، لا يجب المبالغة في تقدير حجم هذا التغير ومدى قدرته على تغيير المعادلات الكبرى المتعلقة بملف القضية الفلسطينة، على الأقل في السنوات القليلة المقبلة.
أظهر النظام المصري قدرته على الفعل المستقل بعيداً عن الرؤية الأمريكية، مع التسليم بعدم معارضة ادارة أوباما لخطة التهدئة، واستطاع حشد موقف عربي واقليمي يمكن التأسيس عليه مستقبلاً واستدعائه بصورة فاعلة ومستدامة؛ كما أظهر انسجاماً مقلقاً للعدو الاسرائيلي بين التطلعات الشعبية والمواقف الرسمية بعد سنوات طويلة ظلت المواقف الرسمية رهن ضغوط الخارج المنحاز صراحة لموقف الاحتلال.
في الوقت نفسه يظهر واضحاً أن الدور المصري اعتمد في الأساس على آليات الدبلوماسية التقليدية المتمثلة في مجلس الأمن، وهو المسعى الذي لم يكلل بنجاح بطبيعة الحال، بالاضافة إلى جامعة الدول العربية بكل تناقضاتها وحساباتها المعوِقة، وهو ما ظهر في موقف الجامعة (الرمزي) المتمثل في زيارة للقطاع لا أكثر. ولولا صمود المقاومة وثباتها وما أظهرته من تطور نوعي في قدرتها الصاروخية، لولا ذلك لتحطمت الجهود الحثيثة للدبلوماسية المصرية على صخرة تعنت العدو الاسرائيلي وانحياز الموقف الدولي تجاهه.
من المبكر إذاً الحديث عن اجراءات (ثورية) مقبلة، خاصة مع الوضع الداخلي المصري المتمثل في الأزمة السياسية بين الرئيس ومعارضيه، والأزمة الاقتصادية التي تقيد حركة الرئيس مرسي وتحد من قدرته على اتخاذ بدائل غير تقليدية. يظهر ذلك واضحاً في بقاء الملفات الحساسة بعيدا عن هذا تفاهمات التهدئة، سواء الملفات المصرية الاسرائيلية (الوضع الأمني في سيناء وتواجد الجيش المصري في المنطقة ج على سبيل المثال)، أو قضايا القطاع المباشرة (الأنفاق، والمعابر خاصة وضع معبر رفح تحديداً) أي أن الاتفاق تعامل (اجرائياً) مع حالة العدوان دون تقديم علاجاً حاسماً لقضايا القطاع التي لم تحسم منذ سنوات.
خاتمة
تمكنت قوات الاحتلال من قتل الجعبري، لكنها قد تتسائل الآن عن ثمن هذا القرار؛ لا شك أن العدوان أخفق في اضعاف قدرة حماس وفصائل المقاومة، بل على العكس، أظهرها أكثر قوة وجاهزية بدرجة مكنتها من فرض شروطها في التهدئة، كما أن عودة الدور المصري المنحاز لقضية العرب المركزية زاد من الشعور بالاخفاق لدى قيادة العدو، وأعاد لها شعور بالعزلة كادت تنساه لطول الجوار مع كنزها الاستراتيجي الذي أطاحت به جماهير الثورة المصرية، لذا أعلن خالد مشعل أن هذه الجماهير تمثل مع شهداء الثورة المصرية شريكاً في هذا النصر المجيد.
مثلت هذه المواجهة إذاً تطوراً ميدانياً وسياسياً في نفس الوقت، وإن كان ثمة ما يمكن ذكره في الخاتمة هو أن الشهيد أحمد الجعبري فيما يبدو هزم العدو الاسرائيلي مرتين، حياً وميتاً ... وإن كان الشهداء أحياء يرزقون!
الکاتب: عمار فاید (باحث و محلل سیاسی في مصر)
الآراء