الدنيا والآخرة.. معاً ودائماً.. ليس ثمة انفصال أو ثنائية أو اصطراع بين الطرفين، كما هو الحال في كل المذاهب الوضعية والأديان المحرّفة، وإنما هو التواؤم والتكامل والتصالح والانسجام.. يعبّر عنها الشعار الرائع الذي طرحه الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب ]: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً». ولقد جاء هذا الدين بمشروعه الحضاري لكي يبني الدنيا ويعمرها، من أجل ماذا؟ من أجل أن تكون بيئة صالحة لعبادة الله، والعبور إلى الحياة الأبدية الخالدة، بعد يوم الحساب.. لا اصطراع ولا تناقض بين الطرفين.
ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقولها بوضوح حاسم: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألاّ تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجرٌ».. إنه الأمر النبوي بإعمار الدنيا، وزراعتها، وتزيينها حتى لحظة النفخ في الصور. فنحن أمةٌ قد أريد لها منذ البدء أن تنسج مشروعها الحضاري في قلب الحياة الدنيا، حيث وجدت نفسها في مثلث الفاعلية الحضارية من خلال مفاهيم التسخير والاستخلاف والاستعمار «بدلالته اللغوية لا الاصطلاحية»: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ {61}}(هود)،
فهناك حشد من الآيات والمقاطع القرآنية تؤكد على مفهوم تسخير العالم لكي يكون بمواصفاته المرسومة بعناية مدهشة بيئة مناسبة للفعل الحضاري، يقابلها حشد آخر من الآيات يؤكد على مفهوم الاستخلاف الذي أعطى هذه الأمة مهمة قيادة البشرية والشهادة على مسيرها ومصيرها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }(البقرة: 143). عالم قد سخر لنا، نحن الذين استخلفنا عليه، من أجل أن نبنيه ونعمره لكي يكون بيئة مناسبةً لعبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57}}(الذاريات).. وهي ليست العبادة المحددة بممارسات شعائرية مؤقتة في الزمن والمكان، وإنما هي عبادة حضارية حيث يصير كل فعل إيجابي يمارسه الإنسان عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى.
الدنيا والآخرة معاً.. ودائماً.. وعندما يكون الأمر كذلك تجيئ القيادة العادلة التي تحكم العالم.. القيادة التي لا تريد علّواً في الأرض ولا فساداً؛ لأنها، وهي تسوس الدنيا، تضع الآخرة نصب عينيها.. فلا يشذ بها عمل، ولا ينحرف بها طريق.. ولا تلتوي بها إغراءات القوة فتجعلها تضرب خصومها بغير رحمة، كما تفعل القيادات التي التصقت بالحياة الدنيا وألغت الآخرة من حسابها.. وكما فعلت أمريكا عندما ضربت هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بقنبلتين ذريتين أتت على المدينتين بمن فيهما من القواعد.. وكما ضربت أفغانستان والعراق بأطنان من اليورانيوم المخصب الذي لا تزال ذراري الأفغانيين والعراقيين تعاني من إشعاعاته فيموت عشرات الألوف في السنة الواحدة. بل قيادة تلتزم باحترام إنسانية الإنسان، ومنظومة الضوابط الدينية والخلقية لأنها، وهي تتحرك وتنتشر في الأرض، تظل أنظارها مرفوعة دوماً صوب الآخرة، باتجاه يوم الحساب..
ولذا كان أبو بكر الصدق، خليفة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يصدر أوامره إلى قادته الميدانيين ألاّ يقتلوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، وألاّ يذبحوا الشاة ولا بقرة، ولا يقتلعوا شجرةً أو زرعاً.. وأنهم سيمرون على رجال دين يتعبدون في صوامعهم، فيدعوهم وعبادتهم دون أن يمسوهم بأذى. إنه الفارق الكبير بين قيادتين.. بل بين حضارتين.. نسيت إحداهما الآخرة فعاثت فساداً في الأرض، وتعلقت ثانيتهما بالآخرة فأعملت معايير العدل في كل صغيرة وكبيرة في ممارساتها السياسية والعسكرية. ولذا كان لابّد للعالم من رجال كهؤلاء، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.. ولئن كانت القوة المفرطة للدول الكبرى التي رفضت الإيمان بالآخرة، قد حجبت هذا الحق عن الأمة الإسلامية، فحرمت بذلك نفسها، قبل هذه الأمة، من الخير العميم الذي كان يمكن أن تنعم به البشرية تحت ظلال قيادة كهذه..
فإن هذا الأمر لن يدوم؛ لأنه مناقض لقوانين الحركة التاريخية المؤكدة في كتاب الله: وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} }(آل عمران)، {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {41}} (الرعد). فالذي يحكم هذا العالم في نهاية التحليل وبدئه، ليس «بوش» ولا «بريجينيف» ولا «ماوتسي تونج»، ولا «حسني مبارك» أو «القذافي» أو «زين العابدين».. إنما هو الله جلّ في علاه.
الآراء