حكم قتال من لم يقاتلنا وتصور حقيقة هذا الجهاد
المقصود من هذا الباب الكبير والمهم (الجهاد بين الدفاع والهجوم): أن يعرف القارئ الكريم من أول الأمر: حقيقة هذا (الجهاد) الذي نتحدَّث عنه، وتتكشَّف له حقائقه. قبل أن نُبدئ ونُعيد في تفصيل أحكامه. ولهذا رأينا أن نقدِّمه على بيان أهداف الجهاد، كما شرعه الإسلام، لأن الأهداف إنما تتَّضح معالمها إذا عرفنا حقيقة الجهاد الأساسية: أهي هجومية أم دفاعية؟ وقمنا بمناقشة أدلَّة الفريقين المتنازعين بموضوعية وإنصاف، لا يسوقنا إلا الدليل الصحيح.
وربما رغب بعض الإخوة بالفعل أن نقدِّم باب الأهداف على هذا الباب؛ لأن الأهداف إذا بُيِّنت تُسهم في تسديد تصوُّر حقيقة الجهاد، وهي وجهة نظر معقولة. ولكني آثرت الوجهة الأخرى، لما ذكرتُ من قبل، ولكلِّ وجهة اعتبارها. ولنشرع في فصول هذا الباب الذي هو أطول باب في الكتاب، وأكثره فصولا، فقد بلغت اثني عشر فصلا. فلنشرع فيها على بركة الله سبحانه الذي نسأله العون والتوفيق. اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
الفصل الأول: الأصل في عَلاقة المسلمين بالآخرين: السلم أم الحرب؟
• هل يجب على المسلمين قتال غير المسلمين المسالمين؟
هل الأصل في عَلاقة المسلمين بغيرهم ممَّن يخالفهم في العقيدة: السلم أو الحرب؟ بمعنى آخر: هل يجب على المسلمين أن يقاتلوا غير المسلمين، ولو كانوا مسالمين لهم، كافِّين أيديهم عنهم، لا يضمرون لهم شرًّا، ولا يظاهرون عليهم عدوا؟ أو الواجب على المسلمين ألا يقاتلوا إلا مَن يقاتلهم ويعتدي على حرماتهم: على أنفسهم أو أهليهم وأموالهم أو أرضهم، أو يقف في وجه دعوتهم ويصد دعاتها، ويعترض طريقهم، ويفتن مَن دخل في الإسلام باختياره بالأذى والعذاب؟
وقد يعبَّر عن هذه القضية بصيغة أخرى، وهي: لماذا يقاتل المسلمون الكفار؟ أهو لمجرَّد كفرهم؟ أم لعدوانهم على المسلمين بصورة وأخرى؟ هذه قضية كبيرة، اختلف فيها العلماء قديما وحديثا، وإن كان مما يؤسف له: أن الذي شاع واشتهر لدى الكثيرين: أن الإسلام يأمر بمقاتلة كل مَن يخالفه، سواء كانوا وثنيين مشركين، أم أهل كتاب (يهودا أو نصارى)، أم ملاحدة جاحدين، أم غيرهم من الغافلين الذين لا يفكرون في أمر الدين إيجابا ولا سلبا، وسواء سالَمه هؤلاء أم حاربوه، فلا بد أن يقاتَلوا حتى يسلموا، أو يؤدُّوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
القضية تستحقُّ من أهل العلم والتحقيق في عصرنا: وقفة للتأمل والبحث العميق، ومراجعة النصوص الأصلية، وعدم الاكتفاء بالنقل عن هذا وذاك - ولا سيما كتب المتأخرين - وردِّ المتشابهات إلى المُحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والفروع إلى الأصول، وربط النصوص - وخصوصا من القرآن – بعضها ببعض، وربط الظواهر بالمقاصد، أو ربط النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية للشريعة، وبالأهداف العامة للإسلام. وفي ضوء المناقشة والموازنة والتحليل والتأصيل: يرجَّح الرأي الأقرب إلى مجموع نصوص الشرع ومقاصده، والمحقِّق للمصلحة الحقيقية للأمة الإسلامية الكبرى. وهنا لا بد أن نذكر أن هذا الخلاف إنما هو فيما يسمى: (جهاد الطلب)، وليس في (جهاد الدفع). والمقصود بجهاد الدفع: جهاد المقاومة والتحرير لأرض الإسلام من الغُزاة المحتلِّين، الذين هاجموها واحتلُّوا جزءا منها مهما تكن مساحته، فهذا النوع من الجهاد لا خلاف في فرضيته على المسلمين، لم ينازع في ذلك عالم في القديم أو الحديث.
فالأمة - بجميع مذاهبها ومدارسها وفِرَقها - مُجمعة على وجوب الجهاد بالسلاح وبكل ما تقدر عليه، لطرد العدو المحتل، وتحرير دار الإسلام من رجسه، وهذا النوع من الجهاد والمقاومة: متفق على مشروعيته بين أمم الأرض جميعا. ومثل ذلك: الأعداء الذين يهدِّدون ديار الإسلام بالغزو، والاحتشاد على الحدود، وهم قادرون على ذلك، وإن لم يدخلوا أرض الإسلام بالفعل، ولكن خطرهم قائم. أما المقصود بجهاد الطلب، فهو: الجهاد الذي يكون الكفار في أرضهم، والمسلمون هم الذين يغزونهم ويطلبونهم في عقر دارهم، توقِّيا لخطرهم في المستقبل، أو تأمينا للأمة من شرِّهم، أو مباغتة لهم قبل أن تفاجأ الأمة بغزوهم، كما في غزوة تبوك.
أو لإزاحة الحواجز أمام شعوبهم، لتبليغها دعوة الإسلام، وإسماعها كلمة الإسلام بصراحة، أو لمجرَّد إخضاعهم لسلطان الدولة الإسلامية، ولسيادة النظام الإسلامي الذي يحكم الحياة بتشريعاته العادلة وتوجيهاته الفاضلة.
• أنواع مشروعة من جهاد الطلب لا خلاف عليها
وأودُّ أن أحرِّر هنا موضع الخلاف بين المعتدلين والمتشددين، أو بين الدفاعيين والهجوميين - كما يسمِّيهم البعض - في هذه القضية. فبعض الهجوميين لم يكن أمينا مع أصحاب الرأي الآخر، فهو يقوِّلهم ما لم يقولوا، ويتَّهمهم بما هم منه براء، فهم يقولون: إن هؤلاء (الدفاعيين) لا يقرُّون جهاد الطلب بحال من الأحوال، ولا في أي صورة من الصُور، ولا لأي سبب من الأسباب، ولا يرون الجهاد مشروعا إلا في حالة واحدة، وهي: إذا اعتُدي على المسلمين في دارهم ووطنهم.
هكذا صُوِّر رأي المعتدلين أو مَن يسمُّونهم الدفاعيين. وأرى أن هذا ليس من الإنصاف مع الخصوم، ولا من الدقة والأمانة في عرض آرائهم، وأنا أعني: المعتدلين منهم، لا المستكينين والمستسلمين والانهزاميين! فمَن قرأ آراء هؤلاء المعتدلين: وجدهم يقرُّون جهاد الطلب، وغزو العدو في داره، لعدة أسباب، نذكرها فيما يلي:
- أولا: تأمين حرية الدعوة، ومنع الفتنة في الدين، ومقاومة الذين يمنعون الدعوة بالقوة، بل يقتلون الدعاة، كما فعل الأمراء التابعون لإمبراطور الروم. فهنا تتحتَّم إزالة الحواجز المادية التي تحُول بالقوة والجبروت بين جماهير الناس وبين بلوغ دعوة الإسلام إليهم. وعلى هذا كانت فتوح الراشدين والصحابة ومَن تبعهم بإحسان، لإزالة القوى الطاغية التي تتحكَّم في رقاب البشر وضمائرهم، وتقف بكلِّ قوَّتها العسكرية في وجه الدعوة، والصدِّ عنها، ولو بقتل الدعاة، وهي تقول ما قال فرعون لمَن آمن من أبناء شعبه: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طـه:71، الشعراء:49]، وهذا الهدف تجسيد لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193، الأنفال:39].
- ثانيا: تأمين سلامة الدولة الإسلامية، وسلامة حدودها، إذا كانت مهدَّدة من قِبَل أعدائها، الذين يتربَّصون بها، ويكيدون لها، ويهيئون أنفسهم لمهاجمتها، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، حين بلغه أن الروم يتأهبون لغزوه في المدينة، فبادرهم بأن غزاهم هو في عقر دارهم. وهو ما يسمونه في عصرنا الحاضر: (الحرب الوقائية). وهذه من ضرورات حفظ المُلك، وحماية الدولة، ومقتضى سنة (التدافع). ومعظم الفتوحات الإسلامية كانت من هذا النوع من الحرب الوقائية، بعد أن اصطدمت الدولة الإسلامية مبكِّرا، منذ عهد الرسول بالدولتين الكبريين في العالم: الفرس والروم، وبدأ الصراع مع الروم منذ سرية مؤتة، وغزوة تبوك. وبدأت بذور الصراع مع الفرس، منذ مزَّق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وتوعَّده بما توعَّد به.
- ثالثا: إنقاذ المستضعفين من أُسارى المسلمين، أو من أقلياتهم، التي تعاني التضييق والاضطهاد والتعذيب، من قِبَل السلطات الحاكمة الظالمة المستكبرة في الأرض بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء:75). بل إن الدولة الإسلامية - إذا استغاث بها هؤلاء المستضعفون المضطهدون ولو كانوا من غير المسلمين، وكانت تملك القدرة على إنقاذهم مما هم فيه - ليجب عليها أن تستجيب لدعوتهم، وتغيث لهفتهم إذا طلبوا نجدتها، فإن نصرة المظلوم، وإعانة الضعيف، وردع الظالم عن ظلمه: واجب شرعي، بل هو واجب أخلاقي في كل دين، وكل مجتمع يقوم على الفضائل، ورعاية القِيَم العليا، سواء كان المظلوم مسلما أم غير مسلم.
- رابعا: إخلاء جزيرة العرب من (الشرك المحارب)، المتجبِّر في الأرض، وخلع أنيابه المفترسة، واعتبار الجزيرة وطنا حرًّا خالصا للإسلام وأهله، وبهذا يكون للإسلام معقِله الخاص، وحِماه الذي لا يشاركه فيه أحد. ولله حكمة في ذلك: أن يكون الحجاز وما حوله من أرض الجزيرة هو الملاذ والمحضن لهذا الدين، الذي يأرز (يلجأ) إليه الإسلام كلما نزلت المحن والشدائد بأطرافه المختلفة. وهذا ما أثبت لنا التاريخ جدواه وأهميته خلال العصور والأزمات التي مرَّ بها تاريخ الأمة. وفي هذا نزلت آيات سورة التوبة في البراءة من المشركين الناكثين للعهود، المتعدِّين للحدود ... وتأجيلهم أربعة أشهر، يسيحون فيها في الأرض، ثم يختارون لأنفسهم: الإسلام، أو الرحيل من هذه الأرض أو القتال، وهذه الأشهر الأربعة هي التي سمِّيت (حُرُما) لتحريم قتالهم فيها، ثم قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، وشاء الله أن يختار العرب - بإرادتهم الحرَّة - الدخول في الإسلام طائعين، قبل أن تمرَّ الأشهر الأربعة، وتصبح الجزيرة خالصة للإسلام، ويصبح العرب عَصَبة الإسلام، وجنده الأولين، وحملة رسالته إلى العالم.
وهذا من فضل الله على العرب، مع ما فضَّلهم به: فالقرآن نزل بلغتهم، والرسول بُعث منهم، والكعبة والمسجد الحرام والمسجد النبوي في أرضهم، وقد أصبحوا هم حُرَّاس الإسلام، ومبلِّغي دعوته إلى العالمين. ومن هنا يتبيَّن لنا أن هذا السبب من أسباب جهاد الطلب، لم يعد له وجود اليوم، وأنه أصبح في ذمَّة التاريخ.
• موضع الخلاف بين الفريقين
إذن ما هو موضع الخلاف بين الفريقين: المعتدلين والمتشددين، أو الدفاعيين والهجوميين، أو دعاة السلام ودعاة الحرب؟ موضع الخلاف يتحدَّد في نقطة واحدة، وهي: غير المسلمين المسالمون، الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم، ولم يظهر في أقوالهم ولا أعمالهم أي سوء يضمرونه للمسلمين، بل كفُّوا عن المسلمين أيديهم وألسنتهم، وألقَوا إليهم السلم، فهل يقاتَل هؤلاء أو لا يقاتَلون؟ فريق المعتدلين أو دعاة السلام، أو الدفاعيين كما يسمُّونهم، يقولون: هؤلاء لا يقاتَلون، لأنهم لم يفعلوا شيئا يستوجب قتالهم، بل صريح آيات القرآن الكثيرة يمنع من قتالهم. نقرأ من هذه الآيات:
في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة:190).
وفي نفس السورة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256).
وفي سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64).
وفي سورة النساء: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء:90).
وفي نفس السياق: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:91).
وفي سورة المائدة في سياق الحديث عن أهل الكتاب: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:13).
وفي سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال :62،61)، حتى عند إرادة الخداع يحثُّ القرآن المسلمين أن يستجيبوا لدعوة السلم. وفي سورة التوبة، وهي سورة إعلان الحرب على الشرك وأهله الناقضين للعهود، الناكثين للأيمان: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة:6).{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:7).
وفي سورة الحِجر: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94).
وفي سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125).وفي نفس السورة: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل:127).
وفي سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف:35).
وفي سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8).
هذه الآيات كلُّها وكثير غيرها: يستدلُّ بها المعتدلون على أن الإسلام يسالم مَن يسالمه، ويعادي مَن يعاديه، ولا يقاتل إلا من قاتله أو صدَّ عن سبيل دعوته، وفتن المؤمنين بها من أجل دينهم. والمتشدِّدون من ذوي الرأي المعاكس، يتخلَّصون من هذه الآيات بكلمة في غاية السهولة، ولكنها في غاية الخطورة، وهي قولهم: إن هذه الآيات كلها (منسوخة). والذي نسخها: آية أو جزء من آية من سورة التوبة، وهي: ما أُطلق عليه: (آية السيف).
وهذا ما اضطرَّنا أن نناقش موضوع آية السيف هذه بتفصيل، حتى نضع الأمور في مواضعها، ولا نأخذ الأقوال المرويَّة في المسائل الكبيرة قضايا مسلَّمة. ويقول هؤلاء الهجوميون: إن الموجِب لقتال غير المسلمين - وبعبارة أخرى: قتال الكفار - ليس عدوانهم على المسلمين، ولا فتنتهم في دينهم، ولا تأمين الحرية لدعوتهم، ولا إنقاذ المستضعفين من تحت أيديهم، ولكنه شيء واحد، أو موجِب لا شريك له، وهو: الكفر، فالكفر سبب كافٍ أو عِلَّة تامة لوجوب القتال، وهو بطبيعته يحمل دائما تهديدا للمسلمين ولدينهم. فإذا وُجدت عِلَّة أخرى، فهي مؤكِّدة لا مؤسِّسة. (يتبع)
الآراء