بسم الله الرحمن الرحيم

الکلمة التی ألقاها الدکتور عبدالرحمن پیراني في مؤتمر «التعليم الشرعي وسبل ترقيته» والذی نظمه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في الدوحة- قطر في 16و17 إبريل 2016م

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله و أصحابه ومن والاه وبعد؛ السادة الحضور والعلماء الأجلاء: السلام عليکم ورحمة الله وبرکاته. بداية أشکر الله سبحانه وتعالی حیث وفق الاتحاد لإقامة هذا المؤتمر القيم، وأسأله سبحانه أن یجعله حارسا أمينا علی هوية الأمة الإسلامية فکراً وفقهاً وثقافة، کما أشکر رئیس الاتحاد والأمین العام ومساعديه علی هذه المبادرة الطيبة، التي تعتبر من أولویات الاتحاد الأساسیة،وأسأل الله سبحانه وتعالی أن یبارک في جهودهم ویجعله في میزان حسناتهم.

إن الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه موضوع له أهمية کبیرة في الاحتفاظ بهوية الأمة الإسلامية وصحوتها والنهوض بها لاستعادة مکانتها والرقي بها لقيادة الأمة. الأهمية التي أولاها الإسلام للتعليم والتعلم، لا تجد لها مثیلا ولا نظيرا في سائر الأدیان.

فعندما نلقي نظرة إلی نصوص الکتاب والسنة، ندرک عظمة اهتمام هذا الدين الحنيف بالعلم. حيث نزل أول آية من القرآن الکريم في الأمر بالقراءة، ونبَّه إلی التعليم وأداة الکتابة،کما أنه سبحانه وتعالی أقسم بالقلم وما یسطرون، وفي معرض قصة سیدنا آدم أبي البشر عليه السلام أشار إلی تعلیمه سبحانه وتعالی له الأسماء کلها (وعلم آدم الأسماء کلها).

وکذلک السنة النبوية احتفت بالعلم أشد الاحتفاء، حيث جعل الرسول في غزوة بدر، فدية کل أسير ليس له مال، أن یعلم القراءة والکتابة لأطفال المسلمين. من المعلوم أن المسلم مکلف بصحة الاعتقاد، وبأداء الواجبات المفروضة في إطار قواعد الشرع حتى يصحّ إسلامه، ولما كان أداء العبادات والمعاملات وتحكيم الشرع الحنيف أموراً ضرورية تستلزم التعلّم والإتقان، كان التعليم الشرعيّ ضرورياً، لأنه لا يستقيم أمر المسلم أو الجماعة بدونه.

وإضافة إلی ما أشرنا، إن هناك أخطاراً تهدّد المسلمين في البلاد الإسلامية في العصر الحاضر، منها: الغفلة والترف والاستهانة بتعاليم الإسلام، والانحراف عن حقيقة التصور والسلوك القويمين السليمين، والمحاولات لإقصاء الدين عن حياة الناس فكراً ومنهجاً، وإضعاف الولاء لله سبحانه وتعالی، فمواجهةً لتلك الأخطار وغيرها وأداءً للواجب الشرعي، لا بدّ من صحوة تعيد للأمة أمجادها. الأهداف العامة للتعليم الشرعی:

1) ترسيخ الإيمان بالدين الإسلامي والاعتزاز به، وبقيمه وشعائره وبالقيم السماوية واحترام عقائد الآخرين ومقدساتهم.

2) تعميق الانتماء والإسلامي واكتساب أساسيات المواطنة من المعرفة بالحقوق والواجبات وتعزيز العمل الجماعي والتعاوني والحفاظ على قيم المجتمع وعاداته وتقاليده في إطار الوحدة الوطنية.

3) اكتساب مقومات الثقافة الإسلامية والتفاعل مع الثقافات العالمية.

4) اكتساب المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب على نحو يمكن الطفل من التواصل الفعال من خلال اللغة العربية واللغات الأخرى.

5) اكتساب مهارات التفكير العلمي في فهم وتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية في مواجهة المشكلات الحياتية، فضلاً عن تنمية القدرة على التحليل والاستنتاج.

6) اكتساب مهارات التعامل مع منجزات العصر المعرفية والتكنولوجية وتطبيقاتها في الحياة اليومية.

7) تنمية الاتجاهات الإيجابية نحو احترام النظام الاجتماعي من قيم وعادات وتقاليد ومؤسسات.

تعميم التعليم الشرعي دائرة الحاجة للتعليم الشرعي دائرة واسعة، وليست قاصرة على المختصين به، ويمكن أن نقسم مَن يعنيهم تعلم العلم الشرعي إلى دوائر ثلاث:

الدائرة الأولى: الدائرة العامة، وتستوعب كافة المسلمين؛ فكل مسلم يحتاج إلى العلم الشرعي أيًّا كان مستوى تعليمه، أو جنسه، أو تخصصه، وهو قدر مشترك لجميع الناس.

الدائرة الثانية: وهي ما يحتاجه الإنسان باعتبار خاصّ لا يشاركه فيه الآخرون، كمجال عمله؛ فمن يعمل في ميدان التجارة يحتاج من أحكام المعاملات ما لا يحتاجه غيره. وأصحـاب هاتين الدائرتين لهـم احتياجات محدودة، فلا يحتاجون إلى كثير من مسائل العلم وتفصيلاته، قال ابن القيم، رحمه الله: «الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصـه من الأحـكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعـوه الحاجـة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصلحة الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم.

الدائرة الثالثة: دائرة المختصين بالعلم الشرعي، الذين يسعون للاستزادة منه لأنفسهم، أو يُعدَّون للإسهام في تعليمه ونشره، وتولي الوظائف الشرعية.

1) ومن يتأمل في الساحة العلمية يرى تركز الجهد في الدائرة الثالثة؛ فالتعليم الشرعي النظامي، أو دروس المساجد، إنما تستهدف المختصين، مخاطبةً إياهم باللغة العلمية المتخصصة ومعتنية بالاحتياجات الملائمة لهم. مؤسسات التعليم الشرعي تكاد تتركز مؤسسات التعليم الشرعي في مجالين:

المجال الأول: التعليم في المساجد: ويتمثل التعليم في المساجد في الدروس العلمية، سواء أكانت يومية أم أسبوعية، وفي الدورات المكثفة، أو المحاضرات العلمية.

المجال الثاني: التعليم النظامي: ويتمثل في المعاهد والمدارس والكليات الشرعية، سواء أكانت تندرج في سلم التعليم الرسمي، أو كانت تعليمًا أهليًّا.

الخلفية التاريخية للتعليم الشرعي في إيران:

لا يخفی علی أحد من الدارسين ما كان لأهل إيران من التأثيرات الثقافية والعلمية محلياً وعالمياً في تاريخ الإسلام. بداية من القرن السابع الميلادي إلى القرن السابع عشر، كانت إيران تحت حكم السنة سياسياً واجتماعيا ودينيا، والتي ولَّدت کوکبة من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمؤرخين والمفكرين والفلاسفة والشعراء وغيرهم.

إن مفسرين من أمثال الإمام الطبري، والقاضي البیضاوي، والزمخشري، والرازي، ومحدثين من أمثال الإمام البخاري، و الإمام مسلم، و الإمام النسائي و الإمام أبو داود، وفقهاء من أمثال الإمام الغزالي، والإسفراييني، والسرخسي، وأبي إسحاق الشيرازي وداود الظاهري، وعلماء من أمثال الرازي، وعبدالقادر الکیلاني، والبيروني، وعمر الخيام، وابن سينا، وشعراء من أمثال رودكي، ونظامي، وفردوسي وسعدي وحافظ، ومولوي، ليسوا إلا جزءا من المجد العلمي والثقافي للمسلمين في إيران، الذين لعبوا دورا مهماً في تاريخ الحضارة الإسلامية.

في الوقت الحاضر على عكس الماضي، فإن أهل السنة يشكلون الأقلية في إيران، ويمکن القول بأن الأقلية السنية أقلية نوعية، حيث إنهم مهتمّون اهتماما بالغا بتحصیل العلوم في کافة المجالات، وهم-بحمدالله- علی درجة کبیرة من الوعي العلمي والسیاسی والثقافي والاجتماعي. لمحة تاريخية عن التعليم الشرعي في إیران: يرجع تاريخ التعليم الشرعي بمعناه العام في إيران إلی عهد الفتوحات الإسلامية، حيث أخذ الفاتحون المسلمون علی عاتقهم مهمة تعریف الإیرانیین بالدین الإسلامي وتعليمه إیاهم.

إن التعليم الشرعي في إيران مر بمراحل مختلفة، أولها حلقات تعليم القرآن في المساجد، ثم تأسیس مدارس شرعية صغيرة في القری والمدن، وکان لبعض الحکومات ورجال الدولة في العصر الإسلامي إسهامات کبيرة في تأسیس مدارس شرعية؛ نذکر علی سبیل المثال نظام الملک الطوسي; الذي أسس المدارس النظامية، أکبرها کانت المدرسة النظامية في بغداد، وکانت هناک نظاميات متعددة في نیسابور ومدن أخری.

وکانت العلوم الشرعية في إيران مزدهرة حتی بدايات القرن العاشر أي قبل القرن العاشر الهجري، و-کما أسلفنا- خرَّجت إيران کوکبة من العلماء في مجال الحديث والتفسير والفقه والرياضيات والطب والفلک والکيمياء والفيزياء والشعر والأدب و...الخ، وبعد ظهور الدولة الصفوية، جاءت الحکومة بعدد من علماء الشيعة من لبنان والعراق، من أمثال؛ الشيخ بهاء الدين العامليّ، والشيخ أبي الفتح الكراجكى، والشيخ زين الدين بن عليّ بن أحمد العامليّ المعروف بالشهيد الثاني.

وبعد هيمنة الدولة الصفوية علی البلد، أصبح أهل السنة في إيران أقلية، فصاروا مهمشين ومنعزلين عن الحياة السياسية والاجتماعية لعدة قرون، ولکنهم حاولوا الاحتفاظ بهويتهم الدينية، واهتموا بالتعليم الشرعي، فأسسوا مؤسسات تعليمية في أنحاء إيران علی شکل مدارس صغيرة أو حجرات بجانب المساجد، فخرج من هذه المدارس والحجرات المتواضعة علماء کبار ودعاة متميزون کان لهم دور کبير في نشر التعليم الشرعي في إيران.

واقع التعليم الشرعي في إيران

وفي الوقت الراهن توجد مدارس وحوزات علمية متعددة فی شتی مناطق إيران، تؤدي دورها في نشر التعليم الشرعي؛ ویمکننا أن تُصنَّف هذه المدارس علی ثلاثة أصناف:

1- الحوزات العلمية عند الشیعة: تنتشر هذه الحوزات في أنحاء البلد، أکبرها الحوزة العلمية في قم ومشهد، وتستقبل الطلاب من مختلف البلدان، وتوفر لهم الأکل والشرب والسکن والإعاشة والراتب، کما تمنحهم الشهادة المعترفة بها حسب الرتبة عند علماء الشيعة، هي متطورة مقارنة بغيرها من الناحية التقنية والتدريس باللغات الأجنبية المختلفة.

2- المدارس الحديثة عند أهل السنة: أسست هذه المدارس علی نمط المدارس الحديثة، وتستقبل الطلاب من مختلف المناطق السنية، وتوفر لهم الأکل والشرب والسکن والإعاشة، و یدرس الطلاب في هذه المدارس الدروس الشرعية بانتظام، وفی بعض المناطق یدرسون الدروس الحکومية بجانب الدروس الشرعية، وتنتشر هذا النوع من المدارس فی المحافظات الجنوبية، وبلوشستان وخراسان وترکمان صحرا و بعض المناطق الکردية.

المدارس التقليدية عند أهل السنة:

وتسمی هذه المدارس "حجرة"، وسبب تسمیتها أنها عبارة عن حجرة متواضعة بجانب مسجد في المدينة تضم عددا قلیلا من الطلبة، ویتلقی الطلبة العلوم الشرعية في هذه الحجرات من امام المسجد غالبا، ویسکن الطلبة في هذه الحجرات، ویعیشون علی التبرعات التی تقدم لهم من جیران المسجد وأهالی القرية وأهل الخير. وتنتشر هذه المدارس غالبا في المناطق الکردية.

ومن مشكلات هذه المدارس والمعاهد عدم الاعتراف بشهادات خريجيها من قبل الجامعات داخل إیران؛ مما يقلل من فرص مواصلتهم للدراسات العليا، أو تولّي وظائف في القطاع الخاص أو العام.

المشاکل والتحديات للتعليم الشرعي في إيران:

1. عدم رغبة كثير من المتميزين: ومن المشكلات عدم رغبة كثير من المتميزين والنابهين في تحصيل العلوم الشرعية؛ نظراً لأن الفرص المرتبطة بسوق العمل أكثر في التخصصات التطبيقية، وتلك التخصصات متاحة للمتميزين في الغالب باعتبار مواهبهم وقدراتهم. و تشتكي إيران کغيرها من الدول الإسلامية من رغبة المتميزين للتعليم النظامي والجامعات المحلية أو الغربية، وإن كثيراً ممن يتجهون للتعليم الشرعي ليسوا هم الأكثر تـميزًا.

2. قلة الاهتمام بالتزکية: شاع في العصور المتأخرة الفصل بين العلم وتزكية النفس، فصار العلم يعني المسائل، وأقوال الرجال، واختلافهم، أما أمور التربية وإصلاح النفس وتزكيتها فهو شأن آخر، كما شاع في بعض البيئات العلمية التهوين من شأن الأخلاق والسلوك، والنظر إليها على أنها أمرٌ تكميلي وتحسيني.

بيد أن القرآن الکريم عندما تحدث عن التعليم قرنه بالتزکية مباشرة، کما في قوله تعالی:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [البقرة : 129]

وکما في قوله تعالی:لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران : 164]

ونشأ عن ذلك أن نرى من يطلب العلم وفيه جفاء وقصور في سلوكه وهديه لا يليق بأمثاله، ونرى من يعتني بتزكية النفس بعيدًا عن طلب العلم فيقع في ابتداع أو هوى. وذلك كان نتيجة الفصل بين الأمرين، أما طلبة العلم فشأنهم الانشغال بالمسائل العلمية وأقوال الرجال، وبدأ الاعتناء بالتزكية والسلوك يذبل في مجالس العلم ومدارسه.

3. قلة الاهتمام بأدب الخلاف: لاشک أن الإسلام دین الرحمة والمحبة والوئام والکرامة الذاتية للإنسان وحقوقه الأساسية، کما أنه دين السماحة وقبول الأخر، ومن المعروف أن المسائل الظنية كانت دائما مثار الخلاف بين المسلمين من لدن عهد الصحابة إلی يومنا هذا، والسلف كانوا ينزلون المسائل منزلتها، وكانوا يفرِّقون بين ما هو قطعيّ معلوم من الدين بالضرورة، وما هو ظنيّ يسوغ فيه الخلاف، ورغم اختلافهم في المسائل الاجتهادية؛ كانوا يعيشون في جوٍّ وديٍّ تكتنفه المحبة والاحترام المتبادل، فلا تبديع ولا تفسيق ولا تكفير.

فخلف من بعدهم خلف أخذوا هذه القضايا الاجتهادية مأخذ المسائل القطعية، ودافعوا عنها وتعصبوا لها، وكأنها وحي منزل من عندالله سبحانه وتعالی، وتفرقوا فيه، وبنوا عليها الولاء والبراء، وكان لسان حالهم يقول:«الحق ما نحن عليه والباطل ما عليه خصومنا».

ومن المؤسف أن نشر ثقافة التعصب والکراهية في الغالب تم عن طريق تعليم الشرعي، ونشأ عن ذلک ما نراه من الأوضاع المأساوية في کثير من البلدان الإسلامية، مما یوجب علی قیادات الأمة الإسلامية و علمائها علی إعادة النظر في وضع مناهج التعليم الشرعي وتطویره، والاهتمام بنشر ثقافة قبول الآخر واحترام آراء الأخرين.