ماذا نقصد بالتعارف الرباني: •هو الذي يقوم على غير أرحام ولا أنساب ولا قرابات تجمع المتعارفين. •هو الذي يكون لله خالصاً ومن المنفعة الشخصية مُتخلّصاً ومتبرئاً. •هو الذي ينطلق من مَعِين القرآن العظيم: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13). •هو ما يدعو صاحبه للدعاء لمن تعرّف عليه عن ظهر قلب بالغيب حباً خالصاً وتَحَبُباً. •هو ما يجعل صاحبه يكون على الدوام متلهفاً ومتشوقاً لرؤية من تعرّف عليه. •هو الذي بفضله يجعل الله المتعارفين فيه يوم القيامة على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء. •هو ما كان لله وحده فكان لزاماً أن يدوم ويتصل. •هو ما قيل فيه على لسان معلم الناس الخير محمد: "من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه".. وما التحابّ إلا ثمرة من ثمرات التعارف الجميل. •هو ما يتحقق به الخير وتدوم به السعادة وتنشرح به الصدور. •هو ما قد يُغني - في كثير من الأحوال – عن قرابة الشقيق في الرحم والحامل لقب الأب الواحد. •هو ما يجعل المتعارفين كالجسد الواحد يشعرون بالهمّ في آن واحد, ويستلهمون الرضا من الرب الواحد. •هو ما تُذاب به الهموم وتُحل به المشكلات وتُنوّر به البصائر وترتاح به وله النفوس. •هو ما يحقق للمتعارفين ما لم تحققه صلة الدم والقرابة. •هو ما ينوي صاحبه به أن يجعله لله قربى ونحو الجنة سبيلاً وطريقاً.
إن روعة الإسلام وجماله جعلت منه ديناً شاملاً يبحث في كل ما من شأنه إشاعة الحب والمودة والانسجام والأُنس بين عباد الله, لأنه إذا تحقق ذلك الأُنس وتوهجت تلك المودة في قلوب العباد بعضهم بعضاً؛ فإن الناتج لا شك لن يكون إلا مجتمعاً صالحاً, للحق مُتّبعاً وبالقرآن مُنتهجاً وللسنة مُحباً ومُتبعاً وبالعقيدة الصحيحة معتقداً وللسلف الصالح وصحابة الرسول مسترشداً ومحباً.
لهذا كان حرص الإسلام واضحاً على أن يتودد المسلم لغيره من الناس بالتعرف عليهم، فالتعرّف والتعارف خطوة على طريق الأخوّة الصادقة التي بها تنصلح الأحوال، وأمامها تهتز المصاعب والجبال، وبدونها لا تقوم لأمة الإسلام قائمة. وقد حرص المنهج الرباني في القرآن الكريم على ذلك أشد الحرص حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). كما أنه ومن أول ما حرص عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند تأسيسه للدولة الإسلامية في المدينة المنورة – زادها الله نوراً بحبيبنا محمد - كان حريصاً على تحقيق الأخوة والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين لتحقيق التعارف المتين، إيماناً منه صلى الله عليه وسلم واعتقاداً بأن التعارف والتآخي بين أفراد الصف المسلم سيكون اللبنة الأم والقوية والأولى نحو تحقيق الغايات وإرساء دعائم القوة والمتانة للدولة المسلمة. فدين الإسلام دين عظيم له من الأسس المهمة التي يرتكز عليها ويدعو لها وهي الحب والتعارف والتآخي بين أفراد المسلمين والذي بشأنه تتكسر القيود وتنصهر الأرواح فتكون كالنفس الواحدة.
قال رسول الله حبيبنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف". (أخرجه البخاري ( 3336) من حديث عمرة عن عائشة، وأخرجه مسلم (2638) من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، وفي ( 2638/160) من حديث يزيد الأصم عن أبي هريرة في ضمن حديث).
ونريد هنا أن نضع بعض المفاهيم نحو تعارف يستحق صفة الربانية حتى تتحقق الخيرية في العباد المتعارفين: 1- هل هناك بالفعل داخل مجتمع المسلمين ما يسمى تعارفاً صحيحاً قوياً متيناً، أم أنه مفهوم نظري أكثر مما هو واقعي وعملي؟ 2- هل التعارف والحب يعني الرُقي الأخلاقي والمحافظة على ذوقيات التعامل بين الناس، أم أن الحب والتعارف يعني عدم مراعاة الشعور وعدم احترام الآخرين وعدم المبالاة براحتهم وإسعادهم؟ 3- هل يصح لمجتمع المتعارفين والمتحابين أن يكون بينهم أهوج التصرف وقليل الذوق وعديم الإحساس وبطيء الإغاثة ومُتبلّد الشعور وشديد المعاملة وبخيل اليد؟
4- هل الحب والتعارف يعني عدم احترام الصغير للكبير, وعدم استيعاب الكبير للصغير, أم أن الله قد رفع بعض الناس على بعضهم درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سِخرياً، وأنّ كلاًّ منا مُيسر لما خُلِق له؟ 5- هل الحب والتعارف يعني طرق الأبواب والاتصال بالتليفون في مواعيد راحة يحق للمسلم أن يستمتع بها حتى يستطيع المعاودة لمزاولة نشاطه وحياته؟ 6- هل من الحب والتعارف أن يقترض الناس من بعضهم بعضاً ثم يترددون في ردّ الحقوق ويتباطؤون للدرجة التي يصبح فيها المُقرِض مُستغرباً مندهشاً بل قد يصبح على ما أقرضه نادماً؟ 7- هل من الحب والتعارف أن يغلب القول على العمل، وتغلب الفلسفات على الحق والحقيقة؟
8- هل من الحب والتعارف أن يتصل المتعارف على المتعارف عليه ويسأل عنه ويببعث له الرسائل على المحمول والجوال ثم لا يجد تبادل المعروف والإحسان على الأقل بمثله مصداقاً لقوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء:86)، أم أن المتعارف عليه سيظل دائماً ظلوماً لغيره كفّاراً بنعمة حُبه له واتصاله به وسؤاله عنه بذوقه الرفيع؟ 9- هل من الحب والتعارف أن يفتقد المتعارفون بعضهم عند مرض أحدهم ومحنته وتغيّر أحواله وشدة بأس ظروفه.
10- هل من الحب والتعارف أن تنسى الجميل وتنكر المعروف وتفجُر عند الخصومة. 11- هل من الحب والتعارف أن تخلف الموعد دون أن تكلف نفسك بالاتصال لتعتذر عن موعدك أو تأخرك عنه. خاتمة: اللهم أنت الباقي بلا زوال، الغني بلا مثال، القدوس الطاهر العلي القاهر الذي لا يحيط به مكان ولا يشتمل عليه زمان، نسألك بأسمائك الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم؛ أن تغفر لنا وللمسلمين وترحمنا والمسلمين أجمعين، اللهم إنا ببابك واقفون فلا تطردنا وإياك نسأل فلا تخيبنا، اللهم ارحم تضرعنا والمسلمين جميعاً وآمن خوفنا وتقبل أعمالنا وأصلح أحوالنا واجعل بطاعتك اشتغالنا واختم بالسعادة آجالنا، اللهم هذا ذُلّنا ظاهراً بين يديك وحالنا لا يخفى عليك، أمَرْتَنا فتركنا، ونهيتنا فارتكبنا، ولا يسعنا إلا عفوك فاعفُ عنا إنك عفو رؤوف رحيم.
الآراء