لكل علم رجاله، ولكل فن أهله، كما أن لكل فن أدواته ، ونحن فى عصر يحترم التخصص ، وإذا تحدث واحد من الناس فى غير تخصصه وضعت أمامه الإشارة الحمراء ، فى لفتة إلى أنه تجاوز حدوده . أما إذا تعلق الأمر بالشريعة فكل الناس فيها من أهل التخصص ، وكل الناس فيها من أهل الإفتاء ، وكل الناس فيها شركاء كما هم شركاء فى الماء والنار والكلأ . وإزاء هذه الحالة نسمع الغرائب ، ونرى العجائب ، من بعض منتسبى الدراسات الشرعية الزائغين عن الحق، أو من بعض المتطاولين على الشريعة بغير علم . أفتى بعضهم بجواز ترك الزوج زوجته للمغتصب إذا كان المغتصب سيقتله ، وهو نفسه الذى أفتى بتحريم مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم، لما تتضمنه من كشف العورة . وأفتى البعض الآخر بأن مشاهد الرقص والعري والإغراء في السينما المصرية، مشاهد طبيعية يقبل تواجدها خصوصًا إذا كانت الحبكة الدرامية تستوجب ذلك . وتقول إحداهن : الحجاب ليس فرضا على المرأة ، وتزعم أن هذه حالة اجتهاد ، وتردد ذلك بكل ثقة واطمئنان ، تماما كما لو كانت تتحدث عن حالة ولادة فى مستشفى للنساء والتوليد .
ويدعو البعض لخلع الحجاب ، ويتزيا حديثه بأن ذلك ثورة جديدة للمرأة على التخلف والرجعية ، وثورة ثقافية لمواجهة الفكر الرجعي ، وكأن الفضيلة رجعية ، والاحتشام تخلف ، ومن قبل قال سلفهم : " أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " النمل 56 . وبعضهم يبيح زواج المتعة ، بعدما حرمته السنة ، ونهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ، وأكد على النهى فى حجة الوداع كما روى الإمام أحمد فى مسنده ، ويزعم أن هذا اجتهاد ، ويجارى فى ذلك مذهب الشيعة .
ويتطاول البعض فيقول : إن العلاقة المعلنة بين الرجل والمرأة خارج إطار الزواج ليست زنى ، طالما أنها في العلن وليست في السر، لأن الأصل في الزواج هو الإشهار والإعلان ، وهذا تجديد للدين فى عصر الفوضى والتسيب واللامحاسبة ، وإن كان من قال بهذا : لا يعرف سنن الوضوء ، أو موجبات الغسل ، وهو بحق تجديد ، بيد أنه تجديد على طريقة إبليس. وحين يتقول أفاك على كلام الله ليسترضى عببدا فى سخط الله ، يتملكك العجب ، ففى قوله تعالى : " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " المائدة 82 .
يعتبر هذا الأفاك: أن هذا الكلام تحريض على الطائفية ، ويهدد السلم الاجتماعى ، فهذا كلام مجتهد ومجدد ، وكأن كلام رب الكون الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل كلام غيره من البشر ، يجوز لهذا الدجال أن يعترض عليه ، أو يزعم أنه كلام عنصرى ، لا يناسب العصر الذى نعيشه . فهذه ثورة على النصوص ، وتجديد فى الإسلام ، وأنا أقول : صحيح أن هذه ثورة على النصوص ، ولكنها ثورة على طريقة عبد الله بن أبى بن سلول . وحين يطالب بعض من يتحدثون باسم الدين بإصدار قانون لمنع ارتداء النقاب في الأماكن العامة فى بلد عربى مسلم ، بزعم أن النقاب حرام شرعا ، رغم أنه لم يقل بهذا القول أحد ممن يعتد به من العلماء فى القديم أو الحديث ، فهذا يسوق للبسطاء على أنه اجتهاد ، وهو بالطبع اجتهاد ، ولكنه اجتهاد شيطانى .
بعضهم أنكر عذاب القبر وقال: إنه ليس من الثوابت فى الدين ، ويرى أن هذه نظرات تجديدية فى الدين ، وأنه وإن كان الأخير زمانه ، فإنه قد أتى بما لم تأت به الأوائل . حين يصبح الطعن فى الدين اجتهادا ، وتحريف نصوصه تجديدا ، وحين يراد تقويض أركان الإسلام ، ونقض عراه ، وهدم ثوابته ، والتشكيك فى قطعياته ، على طريقة مسجد الضرار ، وحين يصبح تحريف الكلم عن مواضعه حقا مكفولا لكل ضال ومضل ، فهنا يجب رفع الإشارة الحمراء ، ودق ناقوس الخطر ، لكى تتبرأ المؤسسات الشرعية والجامعات من انتساب أمثال هؤلاء إليها ، وترفع الدعاوى القضائية ضدهم لمنعهم من الإفتاء دفعا للضرر ، وحفاظا على دين الناس ، لأن الشرائع السماوية اتفقت على الحفاظ على ما يسمى بالكليات الخمس وفى مقدمتها الدين ثم النفس ، والنسل والعقل والمال ، كما ينبغى أن تلاحق أيضا الدعوات القضائية من يتكلم فى الفتيا وليس من أهلها ، وتمنعهم السطات التنفيذية بالدولة من اعتلاء المنابر، أو الظهور فى الإعلام ، أو الحديث إلى الجمهور .
وهذا ما أفتى به أبو حنيفة من قديم كما أورد الإمام السرخسى فى كتابه "المبسوط" أن أبا حنيفة كان يقول: لا يجوز الحجر إلا على ثلاثة : على المفتي الماجن، وعلى الطبيب الجاهل، وعلى المكاري المفلس؛ لما فيه من الضرر الفاحش إذا لم يحجر عليهم . وأوضح الكاسانى أن أبا حنيفة أراد بالحجر المنع الحسي أي: يمنع هؤلاء الثلاثة عن عملهم حسا ؛ لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر؛ لأن المفتي الماجن يفسد دين المسلمين ، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس .
والمكاري المفلس: هو الذي يكاري الدابة ويأخذ الكراء – الأجرة - ، فإذا جاء أوان السفر ظهر أنه لا دابة له كما قال الجرجانى فى التعريفات . وقد اشترط الأصوليون فى المجتهد صحة النية وسلامة الاعتقاد ، لأن صحة القصد تقهر الهوى ، فتجرد المجتهد لطلب الحقيقة ، وسلامة الاعتقاد تأبى على صاحبها أن يرضى الخلق في سخط الخالق ، أو يبيع دينه بدنياه ، أو بدنيا غيره ، أو يؤثر الفانية على الباقية ، وكما قال الشيخ محمد أبو زهرة : "الشريعة نور لا يدركه إلا من أشرق قلبه بالإخلاص " .
وقرر الشاطبي - بحق - أن "غير العدل لا يوثق به ، وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر" . واشترط الغزالى في المجتهد "أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة" . ومع افتراض صحة اجتهاد غير العدل ؛ فإن فتواه غير مقبولة لأن العدالة شرط لقبولها.
الآراء