مما لا شك فيه أن انقلاب الثالث من يوليو 2013م الذي تم في مصر فيه الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب، أثار كثيرا من النقاش الفكري والفقهي، وكان من أبرز ما أصل به المؤيدون للانقلاب من شيوخه، بأنه أمر موجود في الفقه الإسلامي ومنصوص عليه، في باب أو مسألة: الأمير المتغلب، أي الأمير الذي استولى على السلطة وانقلب على حاكم شرعي بالسيف.
لست مستغربا من شيوخ تقليديين في فقهم وفكرهم في نظرتهم للأمر، بل العجب الذي وقفت أمامه طويلا هو فئة من العلمانيين والليبراليين الذين أيدوه مذكرين الإسلاميين المعارضين للانقلاب بأن الشرع الإسلامي يأمرهم بالسمع والطاعة للأمير المتغلب، وهم نفس الطائفة التي كانت تكيل الاتهامات للفقه الإسلامي بأنه فقه سلطوي، تسير بوصلته حسب من يجلس على كرسي الحكم، وأن أكبر دليل على ذلك هو اعتراف الفقهاء بشرعية الأمير المتغلب!
وعند الوقوف على المصطلح والحكم، نجد أن كثيرا من سوء الفهم اكتنفه بشكل جعل الفقه الإسلامي في قفص اتهام زورا وبهتانا، وذلك بسبب تسليمنا بما اشتهر، ولو أننا ناقشنا الأمر نقاشا علميا هادئا، يجمع بين التأصيل للأمر إسلاميا، وبين فهم ملابسات المسألة تاريخيا، لاكتشفنا كثيرا من التدليس والتلبيس الذي يمارسه فريقان اختلفا في المرجعية، واتفقنا في الوجهة، فريق ديني يلبس على الناس بالباطل أنه فقه شرعي، وواجب ديني، أن نسلم للانقلابات العسكرية دون مقاومة سلمية، وفريق آخر علماني ويساري ينادي بنفس الأمر ملزما الإسلاميين بفقه الشرع الإسلامي الذي ينادون بتطبيقه، وكلا الفريقين يؤدي إلى نتيجة واحدة: ظلم الإسلام وشريعته، وتصويره على أنه دين انبطاح، يأمرك بالتسليم لأي بلطجي يمتلك السلاح، يخرج فيلغي إرادة الأمة بجرة قلم.
لقد ميز الفقهاء والعلماء في كل كتب الفقه السياسي الإسلامي بين ولاية شرعية نتجت عن إرادة الأمة، وهي الأصل في كل تشريعاتها وتفريعاتها الفقهية السياسية، ولا يخلو كتاب من كتب السياسة الشرعية من النص على ذلك على أنه الأصل، وأنه الموافق للشرع، والذي نادت به شريعة الإسلام، وبين حالة اغتصاب للسلطة، جعلوا الحديث عنها منفردا، ولم يصبغوا بشرعية دينية، بل حكموا بتأثيم وتجريم من يقوم بها. فقد أخذ كثير من المشايخ المفتين للعسكر في زماننا المصطلح وكأنه حكم مسلّم به دون حتى التعمق فيه فهمه وفقهه، فعندما تكلم الفقهاء عن الحاكم المتغلب، تكلموا عن تغلبه حال خلو المنصب من إمام عادل، وليس حال وجود إمام عادل والذي تكلموا فيه بإسهاب وعن دور الأمة في رده إلى حكمه ومنصبه.
وفي هذا يقوم الإمام النووي: (وأما الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإذا لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا أو جاهلا فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيا بفعله). وما قاله النووي كرره علماء آخرون بنفس الصيغة، أو باختصار.
فكلام والعلماء هنا منصب على وقت خلو المنصب، لا وقت وجود إمام يقوم بمهامه. فهذا التمييز على دقته ووضوحه يغيب مع كل الدراسات النقدية المعاصرة التي اهتمت بدراسة الموقف الفقهي من ولاية المتغلب، والتي سلكت مسلك التعميم، والتوظيف الإجمالي لنصوص الفقهاء المتصلة بهذا الجانب دون روية أو تمحيص. ونتيجة لهذا التعميم قد خفي عنهم تقسيم الفقهاء لشكلي ولاية المتغلب، وتمييزهم بينهما، واعتقدوا خطأ أن أقوالهم ونصوصهم المتصلة بهذا الجانب جاءت على سياق واحد ونظام واحد تنظر بمجموعها لولاية المتغلب من غير تمييز. والنتيجة:
أنهم حملوا أقوال الفقهاء على أنها بمجموعها سيقت لتقرير القول في حكم المتغلب المغتصب لولاية قائمة ثابتة لغيره، ومن هنا انزلق كثير منهم إلى المسارعة باتهام الفقهاء بتكريس ولاية المتغلب مع أن الأمر ليس كذلك، ولا يمكن أن يحمل على إطلاقه، بل إن كلامهم قد يكون موجها ضد ولاية المتغلب أصلا).
فليس إذن كلام الفقهاء عن المتغلب عمن سطا على سلطة شرعية فاستلبها، أو خرج بسيفه وقوته فقهر حاكما شرعيا، فأزاحه عن السلطة، بل كلامهم عن حالة مهمة تغيب عن أذهان الدارسين، لأن هناك وجوه اختلاف بين الحالتين، حالة خلو المنصب من حاكم، وقيام أحد الناس بالقوة باستلاب المنصب، وبين وجود حاكم شرعي يقوم بمنصب الحكم في البلاد، ومن هذه الاختلافات:
1ـ منها أنهم اشترطوا أن يكون هذا المتغلب جامعا للشروط المعتبرة، وميزوا بينه وبين المتغلب الجائر الجاهل والفاسق أي الفاقد للشروط.
2ـ ومنها: أن المتغلب في هذه الحالة تصدى لحيازة السلطة وقت كان فيه منصب الإمامة شاغرا، أو كان القائم به متغلبا.
3ـ ومنها: أن الفقهاء سكتوا عن تأثيم صاحب هذه الولاية، واكتفوا في تعليل إثباتها بالتنصيص على أنها تسد فراغا لكونها تنظم شؤون المسلمين، ولم يتهموا صاحبها بالمعصية كما فعلوا مع المتغلب الفاقد للشروط، والمغتصب لسلطة شرعية).
ولذا رأينا الإمام السيوطي يرجح ما ذهب إليه الذهبي من الطعن في صحة خلافة مروان بن الحكم واعتباره في حكم البغاة المتغلبين الذين لا تثبت إمامتهم لوجود إمام قائم بالأمر، نافذ التصرف، كما طعنوا في عهده لابنه عبد الملك لنفس الاعتبارات حيث نظروا إلى عبد الله بن الزبير على أنه كان يمثل الخليفة المعترف به دون غيره).
ولذا وجه الفقهاء الأمة لمقاومة هذا الباغي الذي سطا على الحكم بالقهر والتغلب، وجعلوا ذلك في رقبتها وذمتها، ومن أقوالهم في ذلك قول ابن حزم في المتغلب الذي يخلع حاكما عدلا أنه لا خلاف بين العلماء في وجوب سل السيوف مع العدل، واعتبر ذلك بمنزلة الواجب.
دوافع الإقرار بفقه المتغلب:
المتأمل للدوافع التي دفعت الفقهاء الذين قالوا بإقرار المتغلب عند خلو منصب الإمام، أو في حالات الاستثناء الأخرى، يجد أنها تعود لعدة دوافع منها:
أولا: كثرة ظاهرة الخروج المسلح فيما مضى، والتي ارتبطت تحديدا بعصر المماليك، وهم في الأصل لا يمتلكون شرعية للحكم، فهم غير أحرار، ولا يجوز لهم شرعا حكم الأحرار.
ثانيا: عدم وجود بديل سلمي يقوم به الناس، وعدم وجود سابقة لهم، مما جعل نظرية الاضطرار والفقه الاضطراري تسود كتب الفقه السياسي آنذاك، فجعل سقف الفقيه منخفضا، لا يرقى إلى سقف عدل الإسلام بشموله، ولا الحرية التي نادى بها الإسلام.
ثالثا: كثرة الحالات حتى أصبحت ظاهرة، أو بلوى عمت الأمة وقتها، فقد أصبحت ظاهرة تحكم فترة زمنية طويلة، كلها كانت بالدماء، فالحاكم لا يحكم إلا بالقتل، ولا يثبت حكمه إلا بالقتل، ولا يعزل إلا بالموت أو القتل.
رابعا: عدم تطور الفقه السياسي آنذاك، فالفقه عموما يتطور بالتطبيق، وليس يتطور نظريا، سنجد أن الفقه السياسي الإسلامي ظل جامدا على أمور معينة، ولم يتطور فيه النداء بالشورى، والإعلاء من حرية الفرد، واحترام إرادة الأمة، لأن هذا الجانب كان ضد مصلحة الحاكم، فكان يحاول حصره وقصره على زاوية محددة، فالكلام يكون عن حقوق الحاكم، وقل أن يكون عن واجبات الحاكم، وحقوق المحكومين، وبخاصة في طريقة تولية الحاكم والعودة بالحكم إلى الشورى، واختيار الناس اختيارا حرا.
فقه يخالف مبادئ إسلامية:
إن القول بفقه الأمير المتغلب، والحكم بالغلبة والقهر، فقه يخالف كليات أصول الإسلام، ومبادئه، لأنه يخالف عدة مبادئ مهمة في الإسلام، وهي:
1ـ أن الأمة الإسلامية هي الأصل، فمنها تنطلق شرعية الحاكم، وإليها تعود، وليس لقوة غاشمة، أو لوزير دفاع، كائنا من كان.
2ـ ـ الحكم عقد بين الأمة والحاكم، والعقد شريعة المتعاقدين، والعقد هنا قد نص على طريقة تولي الحاكم، وطريقة عزله، ومنصوص في دستور البلاد كيف يعزل الحاكم، وكيف يحاكم ويحاسب، وليس في نصوص الدستور أن ينقلب جيش على حاكمه، ولا من وظائف الجيوش عزل الحكام، ولا إلغاء إرادة الشعب لمصالح فئة قليلة منه.
3ـ أن الإسلام دين حرية الاختيار، ولا يقر الإسلام أو يعترف بالغصب أو الإكراه، ولا يعترف بما يبنى عليه، ولا يرتب عليه أي حكم سوى البطلان، فإيمان المكره لا يقبل في الإسلام، وكفر المكره لا يؤثر على إيمانه، وبيع المكره باطل، وزواج المكرهة باطل، وإمامة المكروه في الصلاة من الناس صلاته غير مقبولة. وهو ما رأيناه في فتاوى علماء عن طريق التعريض، كفتوى مالك في عدم وقوع طلاق المكره، وهو تعريض بحكام زمانه الذين كانوا يكرهون الناس على البيعة للحكام.
فموضوع الأمير المتغلب موضوع ذو علاقات متعددة، منها ما هو ديني شرعي، ومنها ما هو تاريخي، ومنها ما هو سياسي واقعي، وليس كما زعم الزاعمون بأنه فقه وشرع، بل الفقه والشرع ضده تماما، ويجرمونه ويأثمون القائم به، والمؤيد له.
الآراء