المحسنون في الدنيا كثير، وصور الإحسان تُعطِّر الجوَّ من حولنا، ولكي يتمَّ الإحسان عملياً لابدَّ أن يكون الإنفاق من طيبات كسبنا، وذلك قوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ" (البقرة:267).
ذلك بأنَّ الله تعالى كما يقول المفسِّرون: لا يقبلُ إلا الطيِّب؛ لأنَّ قابل الرديء إما أن يَقبله لحاجته وهو تعالى غير محتاج، وإما لأنَّ نفسه غير شريفة ولا كريمة، والله سبحانه هو الكريم، وهو الغنيُّ الحميد. ولكن من معاني "الطيب" هنا، أن يكون السخاء محققاً ثمرته في إسعاد الأمَّة كلها، وإذا كان مهماً أن يكون المبذول طيباً في ذاته، فمثله في الأهميَّة أن يكون محققاً ثمراته.
فإذا كانت هذه الثمرة هي: تحرير إرادة الأمة الإسلامية من مُستغليها.. إذن فما أطيب المال.. وما أعزَّ الرجال! وفي طليعة هؤلاء الرجال: عثمان بن عفان رضي الله عنه: فكان رجل الأمَّة في السِّلْم، والحرب على السواء. في الحرب: جهَّز جيش العسرة، وفي السِّلْم: اشترى بئر "رومة" ثم وهبه للمسلمين.
لم تكن همَّة عثمان رضي الله عنه لترضى بالصدقة ببذلها لقمة للفقير، وإنما كان واحداً من الذين يؤرقهم همُّ الأمة الأكبر وهو تحرير إرادتها من قبضة غاصبيها. ولقد مضى على طريق سلفه عمر رضي الله عنه والذي قال: "أعطُوا.. وأغنُوا..". بمعنى: إعطاء الفقير ما يخرج به من دائرة الفقر، حتى يصل على الأقل إلى المرتبة الأولى من الغنى، وكذلك فيما يتعلق بحاجة الأمَّة وهو ما يُشير إليه الحديث الشريف، لكن ما قصة هذا البئر بئر رومة)؟
المرافق في يد الأجنبي
لم يكن بالمدينة سوى بئر "رومة"، وكان يملكه يهودي كانزٌ استغلَّ حاجة الناس إلى الماء، فغالى في الثمن، مُدركاً أهمية قطرة الماء في هجير الصحراء. وقاصداً في نفس الوقت امتصاص عافية الأمَّة رويداً ليبقى اليهودُ على الساحة وحدَهم. لقد كان منطقياً في نظر نفسه، لو أنَّه كان جندياً في جيش يهودي يواجه عسكريين مثله في معركة حياة أو موت.
أما ضرب المدنيين، أما التحكم في رقاب الودعاء، فتلك هي الطبيعة اليهودية الآثمة والتي كان يتمثَّلها صاحب البئر. هذه الطبيعة التي قالوا عنها: إنَّها طبيعة مَصْنوعة، طفيليَّة؛ لا تعيش إلا على حياة من حولها، فإذا كان من حولها مسلماً، فتلك غاية المراد من ربِّ العباد! وعلى الأقل: تنفيساً عن حقد قديم مُقيم، تغذية عقدة الشعب المختار التي أفرزها ما حكاه القرآن الكريم: "لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" (آل عمران:76).
ولقد تمثَّل صاحب البئر تلك الطبيعة، حتى ضجَّ الناس، ثم جأروا بالشكوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحديث. لقد نقل الشاكُون نبضَ الشعب المؤمن إلى القيادة العليا، فهرعت القيادة لتتحمَّل مسؤولياتها إزاء الغاصبين، المتاجرين بأقوات الشعب، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟.
لقد كان في ذهنه صلى الله عليه وسلم ما نُعبِّر عنه بلغة العصر: ضرورة تحرير المرافق العامَّة من اليد الأجنبيَّة! التي يجب الضرب عليها بعد أن شكا المسلمون من ارتفاع (فاتورة المياه)! لابدَّ من تحرير الإرادة الإسلاميَّة والصوت الانتخابي، من هذه الشركة الأجنبيَّة ممثَّلة في هذا اليهودي المحتكر! ولكن كيف؟ إنَّ تحرير اقتصاد البلاد لا يتم بقرارات فوقية! وإنما هو عرض القضية وتحديد حجم المشكلة أمام أهل الحل والعقد، تحريضاً للقادرين على المسارعة في الخيرات.
وصحيح أنَّ التكليف باهظ، وفي مُعاناته عذاب، بيد أنَّه لا يخلو من عذوبة تخليص الأمة من قبضة غاصبيها! وناهيك بها من غاية يسعى لتحقيقها أولو النهى من الشرفاء. وها هي ذي الأمَّة تَستجيب طائعة، في شخص عثمان رضي الله عنه، عثمان رجل الحرب، ورجل السِّلْم، لقد جهَّز جيش العُسْرة، في ساعة العُسْرة حتى لم يفقد الجيش خِطاماً، ولا عِقَالاً، وها هو ذا في السلم يتقدَّم لينهض بحل إسلامي للمشكلة.
لم يكن الحل الإسلامي هنا كلاماً مُنمَّقاً مُزوَّقاً وإنما كان نجدة تأخذ شكلها العملي. وفي قمة ثنائية اجتمع عثمان رضي الله عنه مع اليهودي صاحب مُرفق المياه الأسير! ولم يكن المفاوض الإسلامي يَملك المال وحدَه، لقد كان يملك الذكاء، ويملك الدهاء أيضاً! وبالذكاء والدهاء والسَّخَاء كسب قضية الإسلام! كيف؟.
لقد اتَّفق مع صاحب البئر على أنْ يَشْتري نصفه ووافق اليهودي وكانت المفاجأة: لقد كان لعثمان في البئر يوم، ولليهودي يوم! فلما أعلن عثمانُ عن أيامه ليستسقي الصحابةُ فيها مجاناً، أسقط في يد اليهودي الذي وقع في الشَّرَك المنصوب، فقد تحرَّى الصحابة أيام عثمان رضي الله عنه فاستسقوا فيها ما يَكفيهم، وبقيت أيام اليهودي فلم يقصد البئر أحد! وفرضت الإرادة الإسلاميَّة ممثَّلة في عثمان رضي الله عنه حين استسلم اليهودي وعرض على عثمان شراء نصف فابتاعه ثم وهبه صدقة على المسلمين، المسلمين: الذين لم يسعدوا بالماء يَشربونه قدر سعادتهم بتحرُّر إرادة الأمة من غاصبيها وانتهى الموقف.
لكن صورة عثمان رضي الله عنه ظلَّت تملأ وعي الأمة بمعنى القيادة الراشدة كما يجب أن تكون، إنَّها القيادة التي تحتلُّ مكانتها في القلوب، حين تكون أول من يضحي، وآخر من يستمتع! أما بعد.. فهذا درس عملي من دروس الدعوة، لا يَكتفي فيه الداعي بالدعوة إلى المعروف وإنما هو يصنعه صنعاً! إنَّ في ذلك لعبرة لشباب مخلص لكنه يخطئ الطريق إلى الهدف، حين يجعل من الدعوة كلاماً ممضوغاً ولفظاً مَعْسولاً، ومِرَاء لا يُغني عن الحق شيئاً. وهو النموذج الذي يخاطبه ابن المقفَّع في الدرَّة اليتيمة قائلاً: لا تكثرن ادعاء العلم، في كل ما يعرض لك، فإنك من ذلك بين فضيحتين: إما أن ينازعوك فيما ادعيت، فيُهجم منك على الجهالة والكبر، وإما ألا ينازعوك، وتصبح الأمور في يدك فينكشف منك التصنُّع والعجز.
لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بين وبين صديقك الرضا، وذلك أنَّ العدو خصم تضربه بالحجَّة، وتغلبه بالحكام، أما صديقك فليس بينك وبينه قاض، وإنما حكمه ورضاه. ونقول نحن: وعلى الأغنياء من الدعاة أن يوجِّهوا الثروة إلى البناء، إنقاذاً للأمَّة وهكذا يفعل المتنافسون اليوم، حين يتخذون من الاقتصاد سلاحاً في معركة البناء، وعندما يواجه "الين" الياباني الدولار الأمريكي وبالعكس، وأيضاً كما فعل أميرُ المؤمنين عثمان رضي الله عنه عندما سخَّر ثروته للبناء لا للهدم، للتعمير.. لا للتدمير! وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة "منبر الإسلام"، السنة السابعة والخمسون، ذي القعدة 1419 - العدد 11.
الآراء