إن التغییرات الهائلة والتطورات الفائقة التي یشهدها عالمنا الیوم تفرض علی الأمة الإسلامیة سیاقاً کبیراً من التحدیات السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة والعلمیة والتکنولوجیة، لیس هناک لنا من خیار إلا تأکید جدارتها وقدرتها علی الفعل والإنجاز ومسابقة الأمم علی الواقع الأمامیة ولیس لنا من سبیل إلی إدراک غایاتنا في السیادة والقوة وتجاوز حالة التشتت والتفرق إلا بتجدید الأوضاع وتحدیث البنی الثقافية والاقتصادیة والاجتماعیة وذلک مشروط بإطلاق الفکر الحر القادر علی الإنتاج والاجتهاد والتولید وبالاستثمار الجدید في قطاعات البحث المعرفي العلمي وإزاحة کل ما یثبط جهد الابتکار والإبداع. إنه لایسعنا أن نتجاهل أننا نعیش علی حضارات وثقافات مختلفة المشارب؛ مغایزة لنا في المنطلقات، مفارقة لنا في الأهداف والغایات وإن شهودنا الحضاري هو الذی یحدد موقعنا داخل هذه الخارطة العالمیة أفولاً أو بروزاً؛ قوةً أو ضعفاً ولیس بإمکان أیة حضارة ما أن تنطلق علی نفسها أو أن تنفي غیرها وإلا فقدت شروط تجددها وحیویتها بفقدان ما یلزمها من اللواقح المخصبة.
إن الأمة یلزمها أن تثق في إمکانیاتها وقدراتها بتفعیل أدواتها الناجعة لتغییر واقعها الرديء واستعادة عافيتها الحضاریة وذلک بإعادة تأصیل الرؤیة التأسیسیة للإسلام لقضایا الحریة في علاقتها مع القدر ولقضایا العقل في محاورته للنص والوحي، بغیة تخلیص الدین من التأویل الجاهل والانتحال الباطل؛ والتحریف المغالي وبناء الفکر الناقد القادر علی التحلیل والاستقراء والاستنتاج والتقویم والمراجعة وتجرید الرؤیة الشرعیة من حدود الزمان والمکان تحقیقا لمعنی الخلود فيها.
ویلزم مع ذلک کسب الاستعدادات الضروریة للتعامل مع المتغیرات العالیة بامتلاک ناصیة العلوم والتقنیات مع القدرة علی الابتکار فيها والمنافسة، إننا مطلوبون إلی أن لانبقی في عزبة عن الزمان والمکان ولأن لانقع في الجمود القاتل. ولابد أن یفسح الإسلام في داخله مجالاً للتطور الإنساني بعد أن کمل الدین، بإتاحة مساحات شاسعة للاجتهاد من أجل ملائمة الأوضاع المتغیرة والاستجابة للحاجات المتجددة ومتی تعطلت هذه الآلة توقف العقل دوره في إنتاج الحضارة وکلّ دعوی إلی إیقاف حرکة الاجتهاد إنما تصدر من جهل بحقیقة الإسلام وهی في بعض الحالات دعوی مغرضة لاتخلو من دسائس ومؤامرات ترید الوقیعة بالمسلمین.
والاجتهاد في منظورنا الشرعي هو کما عرفه العلامة الشیخ محمد طاهر بن عاشور تعریفا دقیقا بقوله: "هو إعطاء حکم العقل أو حادث حدث للناس لایعرف حکمه فيما لاح للمجتهدین من أدلة الشریعة" ویقول عنه الشاطبي "هو استفراغ الوسع في تحصیل العلم والظن بالحکم".
ونطاق الاجتهاد یتسع إلی آماد فسیحة وآفاق رحبة نوجزها کالتالي:
1- الاجتهاد في مدی ثبوت النص الشرعي: ویشمل السنّة دون النص القرآني باعتباره نصًّا قطعي الثبوت، اما السنۀ الّتي وردت بطریق ظنّي، کأحادیث الآحاد، فان المجتهد لابدّ له أن یبحث عن سند الحدیث ورجاله، ومدی توافر شروط الصحة فيهم لقبوله والأخذ به، أو عدم الأخذ به لعدم رجحان صحة الحدیث لدیه متناً و سنداً.
2- الاجتهاد في مدی دلالة النص الشرعي علی حکمه: ویراد بالنّص هنا، النّص الّذي یدلّ علی حکمه دلالة ظنیة، غیر قطیة ولاصریحة، ومهمة المجتهد في هذا النوع من الاستدلال، البحث عن تفسیر النصّ وتأویله، عن طریق الاعتماد علی القواعد اللّغویة والقواعد الشرعیة الّتي تساعد علی التفسیر والتأویل والترجیح.
3- الاجتهاد في المسائل التی لم یرد فيها نص: وهنا تبدو مهمّة المجتهد دقیقة غیر یسیرة، إذ هي مشروطة في تحقیق أغراضها ومقاصدها بمدی کفاءة المجتهد وتوسع قدرته، والمامه بقضایا زمانه، وضرورات عصره.
فهو مطلوب بتولید الحکم الشرعي و إنزاله علی الوقائع المستجدة، إنزالاً یلائم بین مقصد الشارع الحکیم، في جلب المصالح ودرء المفاسد، وبین مقتضیات العصر ومستجداته. وهذا المعنی یعد من الأغراض الأساسیة المطلوبة شرعاً، لدفع المشقة والحرج عن المکلّف، وتحقیق الحاجیات والمصالح الفردیة والاجتماعیة، مع مراعات سیاق الضوابط والشروط المعتبرة نصاً وعقلاً، وبذلک نجنّب أنفسنا الوقوع في التعطیل والجهود، سواء بإعاقة العقل عن أداء دوره، أو إلجام النّص وإزاحته عن واقع الأحداث لازم لنا أن نلفت الأنظار، أَن المراد بالاجتهاد لیس أن نلغی تجارب السابقین، ولا أن نشیح بوجهنا، عن جملة الإنجازات والتراکمات الّتي حدثت بتعاقب السنین، والتي استفادت من زخمها حضارة العصر، أو أن نقطع مع الجذور والأصول ونعدم الموروث لنعید البدایۀ ونرجع بحرکة التأسیس إلی نقطة الصفر، فنکون بذلک کمن بَتَر جزءاً من بدنه او عطّل عضواً مِن أعضاء حرکته.
ولیس أقصد من الاجتهاد، أن نهمل واقعنا، ونضرب صفحاً عن مشاکلنا وقضایانا، فنکون مغیّبین عن سیاق عصرنا، ضاربین في متاهات الأزمنة البائدة. في تقدیرنا، أن الاجتهاد یستوجب فهم الواقع في إطار النّص المرجع، وفي ضوء القدرات والاستطاعات المتوفرة، وضمن القضایا والإشکالیات التي تطرحها سیاقات العصر وتمخضات الأحداث، لتکتمل بذلک عناصر المعادلة، وهی النص، والعقل، والحادثة، وهي النص، والعقل، والحادثة. وفي السنة النبویّة، أیضاً شواهد عدیدة علی وجوب الاجتهاد.
منها قول رسول الله (ص) لمعاذ بن جبل – رضی الله عنه – لمّا بعثه قاضیاً عن الیمن "بِمَ تحکم؟
قال: بکتاب الله.
قال فإن لم تجد؟
قال: فبسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد؟
قال أجتهد رأیی ولا آلو.
قال معاذ: فضرب رسول الله (ص) علی صدري وقال: الحمدلله الَّذي هدی رسولُ رسولِ الله لما یحبّه الله و رسولُه".
وقال علیه الصلاة والسلام في المشهور من أقواله "مَن اجتهد وأصاب فله أجران، ومَن اجتهد ولم یصب فله أجر واحد". ومن الشواهد والآثار، قول عمر بن الخطاب – رضی الله عنه – وهو یأمر أحد قضاتۀ أبا موسی الأشعري، بالاجتهاد وتحکیم الرأی، لتصویب الفهم وتسدید النظر: "الفهم الفهم، فيما تلجلج في صدرک ممّا لیس في کتاب أو سنة ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها".
ومن الآراء الحکیمة السدیدة، الراعیة إلی الاجتهاد، ما ذهب إلیه ابوالفتح الشهرستاني [ت 548 هـ / 1153 م] في کتابه "الملل والنحل" قائلاً [إنّ الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات، هي ممّا لایقتبل الحصر والعّد.
ونعلم قطعاً، أنّه لم یرد في کلّ حادثة نص، ولا یتصوّر ذلک أیضا، والنصوص إذا کانت متناهیة، والوقائع غیر متناهیة وما لایتناهي، لایضبطه ما یتناهی، علمنا قطعاً أنّ الاجتهاد واجب الاعتبار حتی یکون بصدد کل حادثة اجتهاد] ویعضّد هذا الرأی کلام أبی إسحاق الشاطبي [ت / 790 هـ / 1388 م] في کتابه "الموافقات" وخلاصته "أنه لا بدّ من حدوث وقائع لاتکون منصوصاً علی حکمها ولا یوجد للأوّلین فيها اجتهاد؛ عند ذلک لابدّ للاجتهاد في کل زمان، لأن الوقائع المفروضة، لا تختصّ بزمان دون زمان".
إننا لا نبالغ حین نقول: إن عصرنا الحالي، هو عصر الحوادث بلا منازع، إذ تتغیر فيه وتیرة الأحداث، علی نحو متکاثف ومتسارع بغیر تقطّع ولا تراخ، إنّه عصر الثورة المعلوماتیة، وعصر الذکاء الاصطناعي، وعصر الثورة الهائلة في میدان تکنولوجیات الاتصال عبر الأقمار الاصطناعیة ومن خلال شاشات الإلکترونیة، وشبکات المعلومات العالمیة کالإنترنت وغیرها وهذه الثورة المذهلة أدّت فيما أدّت إلی ثورة في المفاهیم والتصورات، عن العالم والحضارة و الثقافة.
ولکن کیف تصلح الشریعة لعصرنا وقد تغیّرت فيه الأوضاع عمّا کانت علیه في العصور الماضیة من النواحي الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة والأدبیّة والدولیة.
في الناحیة الاقتصادیة: ظهر الإنتاج العریض والإنتاج للسوق والتصنیع والمصارف والتأمین و...
في الناحیة الاجتماعیة: برزت المرأة إلی الشارع والمصنع والمکتب وزاحمت الرجل بالمناکب وظهر أثر ذلک في الأسرة وفي الحیاة العامة کلّها و...
في الناحیة السیاسیة: برز النظام النیابي أو الدیمقراطي وظهرت شخصیة الشعوب في مقابلة حکم الفرد المطلق وظهرت حریة التعبیر وحریة النقد وحریة الصافة وحریة تکوین الأحزاب و...
وفي العلاقات الدولیّة: اقتربت المسافات بین الدول، حتی أصبح العالم وکأنّه بلد واحد وتشابکت الصلاة ولقیت الدعوة إلی الإسلام قبولاً في قلوب الأمم والأفراد.
وفي الناحیۀ الأدبّیۀ: ظهرت شخصیة الفرد بما له من حقوق ومطالب ولم یَعُد في وسع ملک أو رئیس أو حکومة إنکار هذه الحقوق.
هذا التغییر في عالمنا ومجتمعنا المعاصر، کیف نستطیع أن نواجهه بفقهنا القدیم؟ حینما أنّ شریعتنا الخالدة قادرة علی مواجهة التطور، ومعالجة قضایا عصرنا، وقیادة رکب الحیاة من جدید علی هدی من الله وبصیرة ولکن بشروط یجب توافرها وتحقّقها جمیعاً إذا کنا صادقین في العودة إلی شریعة ربّنا جادّین في حسن فهمها وحسن تطبیقها. أما أول هذه الشروط وأهمّها، فهو فتح باب الاجتهاد من جدید للقادرین علیه والعودة إلی ما کان علیه سلف الأمة والتحرّر من التعصب المذهبي وخصوصاً فيما یتعلّق بالتشریع للمجتمع کله.
ولیس عندنا من کتاب الله ولا سنة رسوله نصٌّ، یلزمنا التقّید بمذهب فقهّي معین، بل نصوص الأئمة أنفسهم متواطئة علی النهي عن تقلیدهم فيما اجتهدوا فيه، واتخاذه دیناً وشرعاً إلی یوم القیامة. طلب الخلیفة أبو جعفر المنصور من الإمام مالک بن أنس – رضی الله عنه – أن یکتب للناس کتاباً یتجنّب فيه رُخَص ابن عباس، وشدائد عمر، فکتب "الموطأ" وأراد أبو جعفر – بما له من سلطان الخلافة – أن یحمل المسلمین کافة في مختلف أقطارهم علی العمل بما فيه، ولکن مالکاً – رحمه الله – لم یقّر أن یحمل الناس علی کتاب ویلزمهم العمل به، وقال للمنصور قولته الحکیمة:
"لاتفعل یا أمیر المؤمنین فقد سبقت إلی الناس أقاویل، وسمعوا أحادیث، وأخذ کل قوم بما سبق إلیهم، فدع الناس وما اختار کلّ بلد لأنفسهم" وفي روایة أنّه قال له: "إنُ أصحاب رسول الله (ص) تفرّقوا في الأمصار، وعند کل قوم علم، فإن حَمَلتهم علی رأی واحد تکون فتنۀ" [المیزان للشعراني: 1 / 30].
وأنّ الأئمة المجتهدین لو عاشوا إلی عصرنا لغیرّوا اجتهادهم في کثیر من المسائل الّتي بنوها علی اعتبارات زمینة تغیّرت، وربّما ظهر لهم من الأدلة ما کان خافياً، وقوي في أنفسهم ما کان ضعیفاً. ولیس معنی الاجتهاد المنشود إذن إهمال الفقه الموروث، أو الغضّ من قیمته وفائدته إنّما المقصود من الاجتهاد عدة أمور أساسیة:
أوّلاً - إعادة النظر في تراثنا الفقهي العظیم بمختلف مدارسه ومذاهبه وأقواله المعتبرة في شتی الأعصار ومختلف الأمصار لاختیار أرجح الأقوال فيه وألیَقها بتحقیق مقاصد الشریعة وإقامة مصالح الأمة في عصرنا في ضوء ما جدّ من ظروف وأوضاع.
ثانیاً – العودة إلی المنابع، أعنی إلی النصوص الثابتة في القرآن الکریم وصحیح السنة. والتفقه فيها علی ضوء المقاصد العامة للشریعة.
ثالثاً – الاجتهاد في المسائل والأوضاع الجدیدة التي لم یعرفها فقهاؤنا الماضون ولم یصدروا في مثلها حکماً وذلک لاستنباط حکم مناسب لها في ضوء الأدلة الشرعیة، فإن الشریعة لاتضیق بجدید، ولا تقف عاجزة أمام مشکلة، بل عندها لکل مشکلة حلّ، ولکل داء دواء.
أوّلاً: کیف نختار من تراثنا الفقهي؟ أمّا إعادة النظر في تراثنا الفقهي والاختیار من بین مذاهبه وأقواله ما یصلح للتشریع والقضاء والفتوی به في عصرنا فلا نریدُ به أن نأخذه أخذاً عشوائیاً حیثما اتّفق، أو نأخذ ما نراه أوفق لِأهواء العامة أو شهوات الخاصة.
متتبعین رُخَص المذاهب وزلّات العلماء، مطرحین ما تؤیده الأدلة والآثار ویسنده النظر والاعتبار أو نأخذ ما یبرّر الأوضاع القائمة بعجرها وبجرها، تلک الأوضاع التي کان کثیر منها نتیجة غیبة الشریعة الإسلامیة عن الحکم والتشریع.
إن ما احتواه تراثنا الفقهي من أحکام لیس في مرتبة واحدة، فبعض هذه الأحکام مأخذه النص من الکتاب و السنة، وبعضها مأخذه الإجماع، وبعضها مأخذه القیاس وبعضها مأخذه الاستحسان أو المصلحة أو العرف أو غیر ذلک من مصادر الاجتهاد فيما لانصّ فيه والتي یختلف في الأخذ بها الفقهاء ما بین مثبت وناف وموسع ومضیق. وما کان من الأحکام مأخذه النص فإن النصوص لیست کلها في درجة واحدة فبعض هذه النصوص صحیح الثبوت، صریح الدلالة، وبعضها صحیح غیر صریح أو صریح غیر صحیح. وما ثبت بالإجماع فقد یکون إجماع الصحابة أو أجماع من بعدهم، وقد یکون إجماعاً قولیاً، أو إجماعاً سکوتیاً، وقد یکون غیر ثابت أصلاً أو ثبت ولکن مبنیّاً علی مراعاة مصلحة زمینیّة لم تعد قائمة أو علی عرف ثبت تغیرّه.
قال الإمام القرافي في کتاب "الإحکام": "لیس کل الأحکام الاجتهادیة یجوز العمل بها ولا کل الفتاوی الصادرة عن المجتهدین یجوز التقلید فيها بل في کل مذهب مسائل إذا حقق النظر فيها امتنع تقلید ذلک الإمام فيها".
وقال في کتابه "الفروق": "کلّ شیء أفتی فيه المجتهد فخرجت فتیاه فيه علی خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القیاس لایجوز لمقلده أن ینقله للناس ولایفتي به في دین الله تعالی؛ وإن لتغییر العرف والزمن والحال أثرها في تغییر الفتوی وتکییف الأحکام. الوصل بین الفقه والحدیث: لابد أن نسد الفجوة القائمة منذ زمن بعید بین الفقه والحدیث فقد أصبح کالتقلید المتبع إن أهل الفقه لایشتغلون بعلوم الحدیث کما أن أهل الحدیث لایشتغلون بعلوم الفقه وفي هذا ضرر علی المعرفة الإسلامیة الصحیحة إذ لابد لصاحب الحدیث أن یدرس الفقه وأصوله ویعرف علی الأحکام ومقاصد الشریعة ولابد لرجل الفقه أن یرجع إلی المنابع الأصلیة لیعرف صحیح الأحادیث من معلولها؛ ومقبولها من مردودها؛ ومطلقها من مقیدها؛ وعامها من خاصها و...
ومن الأحکام الاجتهادیة ما مأخذه ومستنده مصلحة زمنیة تغیرت بتغییر العصر وتبدُّل الأحوال، ومن الأحکام المنصوص علیها في الفقه ما یستند إلی عرف أو وضع کان قائماً في زمن الأئمة المجتهدین أو في زمن مقلدیهم من المتأخرین ثم تغیر هذا العرف أو الوضع في زمننا؛ کإسقاط شهادة من یمشي في الطریق مکشوف الرأس، أو یأکل في الشارع أو حلیق اللحیة أو من یسمع الغناء ونحو ذلک مما تغیر به العرف وعمت به البلوی في عصرنا فهل نجمد علی ما نص علیه الأولون ونسقط شهادة هؤلاء جمیعاً ونعطل مصالح الخلق؟ أم نعتبر هذه الأحکام خاصة بزمنها وبیئتها؟
لاشک أن الثاني هو الصحیح ومن هنا کتب ابن قیم فصله الممتع في أعلام الموقعین [3/14-15] عن تغییر الفتوی بسبب تغییر الأزمنة والأمکنة والأحوال والبیئات والعوائد فراجعه.
ثانیا: موقفنا من النصوص الشرعیة أعنی بها النصوص الشرعیة من الکتاب والسنة فهي ضرورة حتمیة لنا إن کنا نرید إن نقیم اجتهادا صحیحا مؤسساً علی کلمات الله تعالی وهدي رسوله صلی الله علیه وسلم لا أن نکون مشلولي الفکر ومسلوب الاجتهاد مع وجود النصوص المقدسة وهذا تصور خاطئ لطبیعة الشریعة الإسلامیة وطبیعة النصوص فيها وموقف المجتهد منها. یجد المجتهد في فقه الشریعة أمامه – بالنسبة للنصوص – منطقتین مختلفتین:
الأولی: منطقة مغلقة لایدخلها الاجتهاد بتغییر أو تبدیل أو ترجیح أو تضعیف وتلک هی المنطقة "القطعیات" التي تثبت الحکم فيها بنصوص قطعیة في ثبوتها – أی بقرآن أو سنة متواترة – قطعیة في دلالتها بحیث لایختلف فقیهان في فهمها، التي جاءت بها محکمات النصوص واجتمعت علیها الأمة وتلقاها بالقبول جیل إثر جیل.
الثانیة: منطقة مفتوحة؛ وهي منطقة النصوص الظنیة والظن هنا یأتي من جهة الثبوت أو من جهة الدلالة والمجال هنا واسع أمام الاجتهاد البشري للاستیثاق من ثبوت النص أولاً ثم لفهمه وتفسیره والاستنباط منه ثانیاً. وذلک أن حکمة الله اقتضت أن تکون النصوص القطعیة في ثبوتها وفي دلالتها علی الحکم قلیلة إلی حد کبیر.
أما من حیث قطعیة الثبوت فيتمثل ذلک في القرآن الکریم وفي السنة المتواترة وحدها ویلحق بالمتواتر ما احتفت به القرائن من أحادیث الآحاد تنقله إلی دائرة القطع والیقین؛ ولکن معظم السنة إنما هي أحادیث الآحاد.
وأما قطعیة الدلالة في النصوص فقلما تتحقق إلا في نطاق محدود ونجد أغلب النصوص ظنية الدلالة سواء کان نصوص القرآن أم السنة ولهذا کثرت المخصصات لعموم النصوص والمقیدات لإطلاقها. علی أنه قد یبدو للمجتهد الیوم في فهم النصوص وتفسیرها والاستنباط منها ما لم یبد لفقهائنا وأتباعهم في العصور السالفة وذلک فضل الله یؤتیه من یشاء ومن ثم یتسع المجال للنظر في النصوص ولاسیما في مجال الأحادیث النبویة وتحریرها من التغییرات الزمنیة والوضعیة وتدبرها في ضوء المقاصد الشرعیة الکلیة فقد یظهر لنا منها غیر ما ظهر لمن سبقنا. حقائق تراعی في فهم الأحادیث النبویة: ومما یساعدنا علی فهم النصوص الظنیة الدلالة – وبالذات الأحادیث – فهما صحیحا أن نضع أمام أعیننا هذه الحقائق:
1- التمییز بین ما بني من الأحادیث علی علة مؤقتة یزول الحکم بزوالها وما لیس کذلک.
2- التمییز بین ما بني علی عرف تغیر فيما بعد وما لیس کذلک.
3- التمییز بین ما هو عام من الأحادیث لکل المکلفين وما هو خاص بیئة وقوم معینین.
4- التمییز بین ما قاله النبي أو فعله بوصف الإمامة وما قاله بوصف الفتوی والتبلیغ عن الله تعالی.
5- التمییز بین حدیث جاء في واقعة حال معینة وما کان تشریعاً عاماً.
6- ما بني من الأحادیث علی رعایة ظروف معینة لیتحقق مصلحة معتبرة أو یدرأ مفسدة معینة في ذلک الوقت.
فإذا تغییرت الظروف التي قیل فيها النص وانتفت العلة الملحوظة من ورائه من مصلحة تجلب أو مفسدة تدفع فالمفهوم أن ینتقض الحکم الذی ثبت من قبل بهذا النص؛ فالحکمة تدور مع مع علته وجودا وعدما کحدیث "لا تسافر المرأة إلا مع ذی محرم" وحدیث "الأئمة من قریش" وحدیث "لا تکتبوا عني شیئا غیر القرآن" وغیرها وکتغییر المکیل والموزون في المطعومات والنقود ومثال ما بني من النصوص علی عرف زمني تغیر فيما بعد جعل الدیة في قتل الخطأ علی العاقلة وهم العصبة. ومثال ما صدر عن النبي بوصف الإمامة ورئیس الدولة حدیث "من أحیا أرضا میتة فهي له" و "من قتل قتیلا فله سلبه" و "خذ من کل عالم دینارا" و "تغریب الزاني سنة" و "المنع من إدخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث" وحدیث "شرقوا أو غربوا" وحدیث الامتناع عن التسعیر وکأحادیث کثیرة أخری لاتسمح المقالة بتفصیلها.
ولابد أن نشیر هنا أن الأصل في النصوص الثابتة هو الدوام ما لم یدل دلیل صحیح علی غیر ذلک؛ ولهذا وجوب الحذر التام من المتحلل من النصوص الثابتة بدعوی أنها کانت تعالج حالة طارئة أو ظروفاً موضعیة مؤقتة فالواقع أن هذا الموضع مزلق خطر تزل فيه أقدام وتضل افهام.
ثالثاً: الاجتهاد في المسائل الجدیدة أما الاجتهاد في المسائل التي جاءت ولیدة هذا العصر وتطور أوضاعه وأحواله واستنباط حکم مناسب لها في ضوء الأدلة الشرعیة من النصوص العامة أو القیاس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو سد الذرایع أو اعتبار العرف الصحیح أو تحکیم القواعد العامة أو غیر ذلک علی ما هو مقرر في أصول الفقه وقواعده فهذا فرض کفایة علی أمة الإسلام عامة وعلمائها خاصة.
لقد تغیرت الأوضاع في عالمنا تغییراً هائلاً وأصبحنا في عصر یقال له "عصر الصناعة الثانیة" فقد کان طابع عصر الصناعة الأول أن توفر الآلة – الجهد العضلي – للإنسان أما العصر الثاني فهمته أن یوفر "الجهد الذهني" له بواسطة عقول الإلکترونیة وطال البحث للحدیث عن هذا الاجتهاد وشروطه وضوابطه في کتب الأصولیة لانذکرها هنا ولکن حسبنا أن نشیر إلی أمور هامة جدا: 1
- یجب أن لاتکون همنا في هذا الاجتهاد "تبریر الواقع" في دنیا الناس باسم المرونة أو التطور وإعطاء هذا الواقع سندا شرعیا بالاعتساف وسوء التأویل؛ فإن الله لم ینزل شریعته لتخضع لواقع الحیاة بل لیخضع لها واقع الحیاة. فالشریعة هي المیزان فلا یجوز أن نجعلها هي الموزونة.
2- ألا یفتح هذا الباب علی مصراعیه لکل من هبّ ودبّ؛ ممن یتزیا بزيّ العلماء بل یقصر علی من شهد له أهل العلم بالفقه والاستقامة وتلقی الناس علمه بالقبول.
3- أن یکون الاجتهاد جماعیا في صورة مجمع فقهي قوي حرّ تناقش فيه الأفکار وتمحّص الآراء.
4- یجب أن یکون هذا المجمع بعیدا عن سلطة أي حکومة وتأثیرها فلا یُبعد عنه عالم کفء لاعتبار سیاسي إقلیمي کما لایدخل فيه دعيّ أو منافق لمثل ذلک الاعتبار.
وفي الختام لایسعني إلا أن أردد ما قاله الشیخ رشید رضا في تفسیر المنار؛ المجلد السابع عشر ص 44 "إن من أعظم ما بلیت به الفرق الإسلامیة رمي بعضهم بالفسق والکفر مع أن قصد کل منها الوصول إلی الحق بما بذلوا جهدهم لتأییده واعتقاده والدعوة إلیه فالمجتهد وإن أخطأ معذور".
هذا ما أردنا وأخذنا من بعض مقالات المتخصصین ومنهم الإمام الشاطبي وابن عاشور والأستاذ المتمرس الدکتور یوسف القرضاوي والعلامة الشیخ محمد الغزالي وغیرهم. وختاما نؤکد علی أهمیة الاجتهاد وإعادة فتح أبواب الجهاد مؤمنین أن دین الإسلام الحنیف قد وسع علی الأمة ولم یحصرها عند اجتهاد إمام بعینه في أي مسألة من المسائل الفرعیة.
هذا الدین حري بأئمته وعلمائه المعاصرین ألا یفرضوا علی أنفسهم العزلة والجهود أو حصر دورهم بالشرح علی المتون أو التقید بنصوص خطتها أقلام من سبقهم من رواد وهداة وباب الاجتهاد مفتوح لکل کفؤ وطریقه مسلوک لکل من تأهل بمؤهلاته من الأولین والآخرین. وصلی الله علی سیدنا محمد علی آله وصحبه وسلم تسلیما کثیرا.
الآراء