لما أوحی الله إلی نوح أن یدعوَ قومه إلی عبادة الله، شمّر نوح عن ساعده و واصل لیلَه بنهاره فی دعوة قومه و بقی بینهم ألف سنة إلا خمسین عاماً. لقد سلک معهم مسالک شتّی و دعاهم لیلاً و نهاراً ثم أعلن لهم و أسرّ لهم إسراراً؛ فما زادت دعوتُه إیاهم إلا فرارا. لقد أبلغهم نوح (ع) أن الله یرزقهم من فوقهم و من تحت أرجلهم إن هم آمنوا بالله و عبدوه فقال لهم:
«إستغفروا ربکم إنه کان غفارا یرسل السماء علیکم مدراراً و یمددکم بأموال و بنین و یجعل لکم جنات و یجعل لکم أنهاراً». هذه سنة الله بین العباد ،فإن تابوا من الکفر إلی الإیمان و استغفروا یَعمّهم الله برحماته من إنزال الماء الغزیر علیهم و إمدادهم بالأموال و الأولاد و ینابیع المیاه و بساتین الفواکه و سائر النعمات التی لا تُعدُّ و لا تُحصی. فسنة الله فی خلقه لا تبدیل لها و لا تحویل.

  فالماء الذی وعده الله قوم نوح أن یکون لهم مصدر الرزق و المعاش إن هم آمنوا واتبعوا سبیل الحق، أصبح علیهم طوفانا أغرقهم عن آخرهم بسبب کفرهم و عنادهم للحق. و هذه السنة مازالت جاریة إلی قیام الساعة. 

   مرّ عام و لم یلبس وجه البسیطة بجمالها و سهولها و حقولها و أشجارها ذلک الثوب الطاهر النقی؛ مرّ عام و لم تر أعین الناس ذلک المشهد البهیج من إنزال ذلک الثوب الأبیض الذی یغطِّی بجماله کلّ الأرض و یأخذ بمجامع القلوب الحیة التی ما إن تری هذا الثوب الأبیض حتی تتمنیّ أن تکون مثله فی الطهارة و النقاوة. القلوب التی تلتذّ لذّة عارمة من مشاهدة هذا الثوب الطاهر. تعاقبَ الیلُ و النهارُ و الناسُ کل یعمل علی شاکلته. فهناک قلوب مسودّة لاتحب أن تری الطهارة و النقاوة و تُفضّل أن تتقلّب فی عالم الشهوات الحالک ؛ و هناک قلوب أخری راجیة الوصول إلی ذلک المقام الطاهر السلیم النافع فی یوم لاینفع فیه المال و البنون إلا من أتی بقلبٍ سلیم.فیا تری هل تنزع معظم هذه القلوب إلی الشر أو إلی الخیر. هل تنزع إلی الخیر فتستحقّ الخیرَ و البرکة أم تنزع إلی الشر فتستحقّ العذابَ و النقمة. 

   حدَّقت النظرَ إلی السهول و الجبال الرّمادیة التی ازدادت اسودادا أکثر مما کانت علیه من قبل. فسألتها: ما الذی جعل وجهکِ سوداء قانمة؟ لم تُجبنی إجابة. أعدت السؤال مرة تلوَ المرة فلم تجبنی! فصرخت فیها: ألستِ من خلق الله؟! أو لستِ تُسبحین بحمدربکِ بالیل و النهار؟ فلماذا لاتجیبیننی؟ 

   ردّت الارضُ علیّ : یا هذا! إصبر و لا تعجل؛ اصبر حتی أحدّثک ما لم یحدّثک أحدٌ من العالمین! أنا خلق الله و أنطقُ منک و أمثالک من البشر الذین سخّرنی الله لکم و استطردت قائلةً: یا آکلی النمر و عُصاةَ الامر! کم أخرجت لکم من قلبی کلّ هذه النعم من الیابس و الرطب، کم أخرجتُ لکم من العیون و هی تجری، کم أسبغت علیکم نعماً ظاهرة و باطنة بأمر ربی؟! لا تظنُّنَّ بأنِّی لستُ من اولی الصبر، دعنی حتی یجئ زلزال ربِّی، لأحدث لکم کلَّ ما جمعت فی قلبی!

  ماذا جَنیتُ من جنایتکم علیّ؟ فبدلَ أن تسموا سامقین نحو السماء، هویتم فی الشهوات الهابطة؛ و بدلَ أن ترقوا إلی العُلی، غرقتم فی المُنی! مرّ عام و لم ألبس ثوبی الطاهر لأکون مختفیة من أنظارکم و لا أراکم تذنبون و تغرقون فی الملذات البهیمیه! لقذ أثَّرت شهواتکم فیّ و جعلت صفحتی سوداءَ قائمة ! و کم تمنّیت ربّی أن یجعل بینی و بینکم حجاباً. لقد ألهاکم التکاثر فی الأموال و الأولاد و المناصب و أصبحتم أشدَّ ضراوة من الذئاب و یطارد بعضکم بعضاً. لقد صرتم کالأنعام بل أنتم أضل.

 فما أصدق قولَ الشاعر القدیم فیکم عندما قال:

یَسُببُّ الناسُ کلُّهم زماناّ :: و ما لزماننا عیبٌ سِوانا

إنّ الذئب یترک لحمَ ذئبٍ :: ویأکلُ بعضنا بعضاً عیانا

  أیها الغافلون! إستیقظوا من سُباتکم العمیق وانظروا إلی ما حولکم حتی تنفتح قلوبکم. کم أسمع ذلک النداء العلوی من تلک المآذن التی إشرأدت أعناقها نحو السماء و هو یدعوکم إلی الفلاح و إلی الصلاة فلا تجیبون! ما أکثر خلوةَ المساجد من المصلین و المُلبّین لذلک النداء المُحی. و ما أکثر ملاهیَکم و أسواقکم و ملاعبکم و نوادیکم الریاضیة و هی مکتظة بالغُفَّل السُّذَّج الذین لایرون الحیاة إلا فی الهراء و التصفیق و الضحکات الساخرة. 

  بینما کنت أسمع هذه الکلمات و هی تؤثر فی أعماق قلبی، إذ نزلت حبّات الثلج و هی تمسح بیدها الحانیه وجهَ الأرض و تُسلیها. کانت البشری قد جاءت و سکتت الأرض عن کلماتها المضطرمة التی کانت تُحرق القلوب. نزلت اللحمة و السدی لذلک الثوب النّقی، معلمِ الطهارة الذی ینجو المتخرجون علی یدیه من کل الشوائب. نزل ذلک الثوب الذی هو ناسج الحیاة بأمر ربه « و جعلنا من الماء کل شئ حیّ » نزل لیکون قدوة لکل من یرید الخلوص من الشوائب و الشهوات الحیوانیة الحالکة.

  و ما هی إلاَّ مدة یسیرة حتی غطَّی بحباته الصغیرة کل السهول و الجبال و الأشجار و الأسواق و الأزقة ، و الناس حیاری أمام البرد القارص. لقد جاءت هذه الحبات بأمر ربها لتُخرج حبات الأرض. إنها لم تجئ إلا من غلبة رحمة الله علی غضبه، لأن الناس لیسوا مستحقین کل هذا الفضل. فیا رب حتّامَ ترحمنا و ضاق بوزرنا رحب الفضاء! 

  کنت أُجیل النظر فی الحبات النازلة علی شجرة فی فناء دارنا و فی هذه اللحظة دُّق بابّنا  فأسرعت لفتحه. و ما إن فتحت الباب حتی رأیت الزبّال الذی یطرق بابنا کالمعتاد لیملأ مزبلته و یضع عنا أحد أثقال الحیاة.

  سألته قائلا: ما الذی أصابک؟ هل أنت مریض؟ فرد حزینا قائلا: لقد أحرقتنی أشعة الشمس الحارقة فی الهاجرة و الناس مرتاحو البال فی غُرفهم المزوَّدة بأحدث آلات التبرید و هم یتحدثون عن ملذَّات الحیاة غارقین فیها. هذا شغلی الشاغل؛ حتی فی الأعیاد التی لا یترک والدٌ زوجته و أولاده فأنا حُرِمت من ذلک کله.أجوب الشوارع و الأزقة کی أجمع ما بذَّره الناس، و فی هذا الیوم القارص تمسح صفحةَ وجهی هذه الریحُ التی لیست بأرحم من أشعة الشمس الحارقة. فودعته و أنا أتنفس الصعداء ممّا جال بخاطری و رأیت فی العالم الظاهر و أنشدت ما أنشده سیدنا علی بن أبی طالب مؤنّباً الأغنیاء الذین لا یهمُّهم إلا أنفسهم و بینهم و بین الآخرین بون شاسع؛ هم یتقلبون فی أطایب الطعام و رغد العیش و الناسُ فی فقر و فاقه:

و حسبُکَ داءً أنْ تبیتَ بِبِطْنَهٍ   و حولکَ أکْبادٌ تحنُّ إلی القِدِّ