بات معروفا أن إيران وتركيا هما الدولتان الأكثر معارضة للاستفتاء المزمع عقده في إقليم كردستان العراق في الخامس والعشرين من سبتمبر القادم، لأسباب يعرفها القاصي والداني ولا حاجة للخوض فيها. فبالرغم من أن القوتين تتوافقان في غالبية أسباب الرفض، أهمها ارتدادات ذلك على أمنهما القومي، إلا أن هناك عوامل تخص إيران نفسها دون تركيا، تدفعها لمزيد من التشدد تجاه الاستفتاء، على رأسها يأتي القلق من أن انفصال الإقليم عن العراق سيفتح الباب مشرعة لتقسيم هذا البلد، مما يقزم دور إيران ونفوذها هناك، حيث أن طهران لا ترغب أن يختزل هذا النفوذ في الإقليم الشيعي مستقبلا فحسب، لأن العراق موحدة جغرافيا يحكمها المتحالفون مع طهران، هو المطلوب إيرانيا ويعطي لنفوذها في البلد أبعاد إقليمية استراتيجية وستكون لها انعكاسات إيجابية في أكثر من اتجاه على مجمل الدور الإقليمي الإيراني، لكن تحجيم هذا النفوذ واختزاله في كانتون جغرافي خاص بالعراق دون البقية، سيفقد طهران سندا إقليميا مهما ولاسيما في العالم العربي.
ومن جانب آخر، غير أن التأييد الإسرائيلي لعملية الاستفتاء في كردستان العراق لم يأت في مصلحة الكرد أنفسهم والاستفتاء، لأنه يحمل في طياته قلاقل كبيرة للإيرانيين، في ظل أحاديث قديمة حديثة عن وجود علاقات بين قادة أكراد والإسرائيليين بغض النظر عن مدى صحتها. هنا العامل الإسرائيلي أيضا يؤرق إيران أكثر من تركيا التي ترتبط بعلاقات سياسية مع الكيان الصهيوني.
بالمجمل إيران التي خسرت مساحات شاسعة من أراضيها في حقب تاريخية عديدة في عصر الملوك على مر التاريخ، لن تسمح بوقائع على حدودها يمكن أن تهدد وحدة أراضيها في عهد الثورة. بعد أن أعلن مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان في شباط 2016 عن توجه الكرد لإجراء الاستفتاء حول الاستقلال، شهدت السياسة الإيرانية في التعامل مع هذا المستجد الذي اعتبرته طهران استفزازيا مراحل عديدة، بدأت بالتحذير الهادئ من هذه الخطوة، ثم توظيف علاقات التحالف مع القوى والأحزاب الكردية لإجهاض المشروع، أما بعد أن كان ذلك غير مجد، أخذت تنتهج طهران سياسة التصعيد خلال الأيام الماضية لثني الإقليم عن إجراء الاستفتاء، سواء على مستوى لغة الرسائل التي أوصلها مسؤولون إيرانيون في لقاءاتهم الأخيرة مع قادة الإقليم، أو في تحريك الأوراق العراقية التي تمتلكها إيران. وفي السياق ذاته، تقول مصادر إن اللواء قاسم سليماني وجه خلال لقائه مؤخرا برئيس الإقليم وقادة كرد رسائل شديدة اللهجة، كانت مختلفة عن رسائل سابقة في اللغة والمضمون، إذ أنها جاءت في البعدين في سياق تصعيدي واضح وملحوظ. تؤكد تلك المصادر أن اللواء حذر بشدة أنه حال الإصرار على الاستفتاء، فإن إيران لديها من الخيارات ما ستتخذها لمواجهة ذلك.
بشكل عام، فيما يتعلق بتطورات الموقف الإيراني تجاه الإصرار الكردي على الاستفتاء خلال الفترة المقبلة، المتوقع أن يتواصل تصعيد اللغة مصحوبا بتحريك الأوراق العراقية دون إجراءات إيرانية على الأرض في الوقت الحاضر. وجاء في هذا الصدد، تحرك قوات الحشد الشعبي بأسلحتها الثقيلة باتجاه مناطق التماس مع قوات البيشمركة الكردية في أكثر من منطقة كرسالة تحذيرية شديدة تحمل تهديدات مباشرة للإقليم بالخوض في الحرب غير مباشرة معه إن أجرى الاستفتاء.
أما إن جرى الاستفتاء فعلى الأغلب نشهد إجراءات إيرانية على الأرض دون مستوى الحرب، مثل إغلاق الحدود البرية والجوية وفرض حصار على الإقليم. كما أنه لا يستبعد أن تزداد الهجمات الإيرانية على مناطق حدودية داخل إقليم كردستان العراق خلال فترة ما بعد الاستفتاء ضد مواقع لأكراد إيرانيين معارضين دون وقوع اشتباكات مباشرة مع قوات البيشمركة الكردية للحيلولة دون وقوع الحرب. لأنه لا أظن أن تكون الحرب على الإقليم خيارا مفضلا لدى طهران، لما يحمل ذلك من مخاطر وارتدادات على المناطق الكردية الإيرانية، إذ من شأن الحرب على إقليم كردستان العراق أن تفجر الأوضاع في مناطق تواجد الأكراد في عموم المنطقة.
كما أن إيران لا تريد أن تقوم بما يمكن أن يتسبب بأضرار استراتيجية لأواصر الارتباط الحضاري مع الأكراد، لأن علاقات الكرد مع إيران ليست علاقات الجيرة فحسب، وإنما تضرب بجذورها في عمق التاريخ، وأنها تتجاوز الانحدار من عرق واحد إلى اشتراكات ثقافية كثيرة في الوقت الحاضر، تجمع الكرد بالإيرانيين عموما والفرس خصوصا، أكثر مما يجمعهم بالعراقيين والأتراك. هذا الرادع الحضاري حاضر بقوة في الحسابات الإيرانية فليس من السهل التضحية بهذه العلاقة الحضارية الوثيقة.
الخلاصة أن دوافع الإيرانيين لرفض الاستفتاء أكثر من الأتراك، بالرغم من أن إيران ليست كتركيا محاصرة بالتوترات والأزمات مع الأكراد في سوريا والعراق وتركيا نفسها، كما أن ثمة كوابح معتبرة تمنع حرب مباشرة على الإقليم لثنيه عن إجراء الاستفتاء، أما أن إيران بحكم علاقاتها التحالفية الوطيدة مع الحكم العراقي والتي منحتها نفوذا واسعا في العراق، لديها متسع من الخيارات العراقية التي تمكّنها من مواجهة مرحلة ما بعد الاستفتاء إن جرى، بأدوات غير إيرانية للحيلولة دون ترجمة نتائجه، دون اللجوء إلى ما هو الأحلك والأكثر خطورة. وأخيرا، ما يمكن قوله أن إيران ستفضل أن يكون ردها على إجراء الاستفتاء بالاشتراك والتنسيق مع تركيا والحكومة العراقية، وعدم اللجوء إلى إجراءات أحادية الجانب بعيدا عن ذلك.
أما السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه بقوة، أنه هل سيحقق هذا التصعيد في مواجهة الاستفتاء مبتغاه، أم يواجه به مزيد من التعنت والتشدد الكردي؟ أم أن الإقليم سيتراجع عن الاستفتاء مقابل امتيازات كبيرة وضمانات محلية، وإقليمية ودولية؟ الاحتمال الأخير وارد، مع ذلك علينا أن ننتظر، والأيام المقبلة ستقدم إجابات شافية حول ذلك.
الآراء