إيران باعتبارها لاعبا أساسيا في سوريا، وحليفا لأحد أطراف الأزمة السورية المستفحلة، كانت تتابع عن كثب، العملية التي أطلقتها تركيا مساء السبت العشرين من يناير الماضي في شمال سوريا، وملابساتها وتطوراتها. رسميا، عبرت الخارجية الإيرانية على لسان الناطق باسمها "بهرام قاسمي" عن قلقها الشديد حيال هذه العملية، مطالبة الدولة التركية بوقف الهجوم في أسرع وقت، لأنها "يمكن أن يؤدي إلى تقوية الجماعات التكفيرية الإرهابية في المناطق الشمالية لسوريا مجددا وتشعل نار الحرب والدمار في هذا البلد من جديد". حسب قوله. الموقف الإيراني الرسمي لم يكن حادا ضد تركيا، وبالرغم من إبداء هذا القلق، إلا أنه لم يرتق إلى مستوى التنديد والاستنكار، وحاولت طهران أن تصب جام غضبها على الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، فبعد أن طالب المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والسيادة الوطنية لسوريا، أكد أن «جذور الأزمة السورية تعود إلى الممارسات غير المسؤولة والتدخلات غير الشرعية للقوات الأجنبية وخاصة التابعة للحكومة الأمريكية وبعض الأنظمة الطامعة في المنطقة ومنها الكيان الصهيوني». يتحدث البعض عن وجود مقايضة سرية، بين إيران، وروسيا وتركيا، أي "إدلب مقابل عفرين"، مستشهدين بالتزامن بين الحدثين، وكذلك المصالح والحساسية المشتركة التي تجمع بين إيران وتركيا حيال القضية الكردية في المنطقة. لا أظن أن إيران كانت طرفا في هذه المقايضة التي تمثل مغامرة غير محسوبة لمستقبل السياسة الإيرانية في سوريا، وإن حصلت بالفعل صفقة كهذه، فكانت على الأغلب بين تركيا وروسيا وفق معادلة "عفرين ـ إدلب ـ سوتشي" دون إيران، وقد تُلحق إليها أيضا قضية كفريا والفوعة لاحقا، إرضاء لها. بالرغم من التقارب الذي حصل بين إيران وتركيا، ولاسيما بعد الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في 2016 وبعد الأزمة الخليجية منذ الخامس من يونيو/حزيران 2017، والمرونة التي تشهدها السياسة التركية تجاه الأزمة السورية خلال الفترة الماضية، وتخفيف حدة خطابها تجاه النظام السوري، إلا أن ثمة أسبابا تجعل إيران أن تقف في موقف معارض شديد للهجوم التركي على شمال سوريا، أهمها: أولا، تركيا منذ اليوم الأول من الأزمة السورية التي بدأت عام 2011، تقف في جبهة معادية لإيران في سوريا، من خلال دعمها المعارضة السورية طيلة السنوات السبع الماضية، وإن خفّ هذا الدعم بشكل أو آخر خلال الفترة الماضية، بعد الاستدارة نحو الحليف الروسي، وتطورات حلب بعد أن استعادت قوات النظام السوري وحلفائه السيطرة عليها في ديسمبر 2016. هذا التموضع التركي في سوريا في جبهة معارضة لسياسات طهران رغم تلك التغيرات، لم ولن يكن لصالح إيران لا في الوقت الحاضر ولا في المستقبل، ومشاركة البلدين في مباحثات أستانة وجولاتها الثمانية، وكذلك مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، لم تلغ هواجس إيران تجاه السياسة التركية في سوريا، ولم تقلل منها، وربما ما حصل مؤخرا ضاعفها. ثانيا، بالرغم من التوتر الذي يسود العلاقات التركية الأمريكية، وتأكيدات أنقرة أنها قامت بالحملة ضد عفرين بعد تنامي الدعم اللوجستيي الأمريكي للأكراد في شمال سوريا، ما يشكل خطرا على أمنها القومي كما تقول، إلا أن طهران مازالت ترى أن مجمل السياسة التركية وبالذات في سوريا، ليس بعيدا عن السياسة الأمريكية، رغم تباين المصالح بين السياستين في القضية الكردية. كما أن تأرجح الاستدارات التركية خلال هذه السنوات بين الشرق والغرب وضع صانع القرار الإيراني أمام علامات استفهام كبيرة حول الوجهة النهائية لهذه الاستدارة. ثالثا، ثمة مخاوف ترتاب الإيرانيين من الأهداف التركية الخفية غير المعلنة من العملية، والتي حسبما تقول مصادر تتجاوز إلى ما بعد عفرين، ومحاربة من تعتبرهم أنقرة إرهابيين، ما قد يشكل خطرا وتهديدا على المعادلة التي أحدثتها المكاسب العسكرية الكبيرة التي حققها الحلف الإيراني خلال العامين الأخيرين. هذه المعادلة أرست واقعا سياسيا أخرج قضية تنحي بشار الأسد من جدول أعمال قوى دولية وإقليمية، بعد أن كان ذلك حديث الساعة لسنوات عديدة، بل على عكس ذلك، أصبح البعض يتحدث اليوم عن بقائه وينصح معارضيه بقبول ذلك، حسبما قال عادل الجبير وزير الخارجية السعودي في اجتماع مع المعارضة السورية في أغسطس 2017، وهذا بالأحرى يعني تبني موقف إيران تجاه الأزمة السورية إلى حد كبير. رابعا، ما أغضب الجانب الإيراني أيضا أن تركيا لم تنسق معه العملية مسبقا، وهذا التجاهل يتعارض مع ما اتفقت عليه طهران، وأنقرة وموسكو في مباحثات أستانة حسب ما تقوله مصادر إيرانية، حيث اتفقت الأطراف الثلاث أن تطلع مسبقا بعضها البعض على تحركاتها العسكرية، وهذا لم يحدث في عملية "غصن الزيتون" التركية، والاتصال الذي أجراه رئيس أركان الجيش التركي "خلوصي آكار" بنظيره الإيراني "محمد باقري" جاء بعد يومين من بدء العملية. وقيام الخارجية التركية مساء السبت 20 يناير 2017، باستدعاء السفير الإيراني إلى جانب ممثلي البعثات الدبلوماسية الأمريكية والروسية وغيرها لاطلاعهم على عملية عفرين لا يسمن ولا يغني. حيث أن اطلاع السفير الإيراني على العملية جاء بالتزامن مع اطلاقها وهذا ليس اطلاعا مسبقا. خامسا، إيران ترى في أي عمل عسكري في سوريا لا يتم بدعوة وإذن من الحكومة السورية والتنسيق معها بمثابة انتهاك للسيادة السورية المستباحة أصلا في كل حد وصوب، وبما أن تركيا لم تنسق عمليتها في الشمال مع النظام السوري، رغم إعلانها عن إرسال رسالة خطية نفتها دمشق، تعتبر طهران الحملة بأنها غير شرعي وتدخل في الشأن السوري. رغم ما سبق، لاعتبارات عديدة، إيران لم ترغب في التصعيد سياسيا ضد تركيا في الوقت الحاضر، واكتفت بالتعبير عن القلق والمطالبة بإنهاء العملية ضد عفرين فورا، إلا أن ما حدث ميدانيا في تلة العيس وبلدة الحاضر في ريف حلب الجنوبي خلال الأيام الماضية حيث استهدفت ارتال من القوات التركية من قبل الجيش السوري وحلفائه، كان يمثل رسالة عسكرية مباشرة لأنقرة، بأنها حال سعت في توسيع نفوذها العسكري في الأراضي السورية، ستواجه مثل هذه الهجمات، وربما يتطور الأمر إلى حرب استنزاف للقوات التركية. اليوم مختلف وسائل الإعلام الإيرانية، ولاسيما الإعلام المحافظ ينتقد الحملة التركية، متهما تركيا بتشكيل جيش من "الإرهابيين والتكفيريين"، وتسييرها نحو الأراضي السورية تحت ذريعة محاربة فصائل كردية تعتبرها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني. لعل تركيا كانت تظن أن وقوفها إلى جانب طهران ضد التدخلات الخارجية في الاحتجاجات التي شهدتها مؤخرا مدن إيرانية، واشتراكها مع إيران في الموقف من الملف الكردي، يمنحها هامشا من المناورة والحرية في العمل العسكري داخل سوريا، لكن الرياح الإيرانية لم تجر كما تشتهي السفن التركية. كما أن التطمينات التركية بأن العملية في شمال سوريا لا تستهدف الأكراد كقومية، ووجود عناصر كردية في الفصائل السورية المقاتلة إلى جانب الجيش التركي، وكذلك إطلاق عنوان "غصن الزيتون" على العملية، لم تلق قبولا لدى الكرد الإيرانيين كغيرهم من الكرد في المنطقة، الذين عبروا عن استنكارهم وغضبهم للعملية التركية من خلال نوابهم في البرلمان الإيراني، وكذلك علماء الدين، وناشطين مدنيين. وفي هذا السياق، يبدو أن إيران تكسب الأكراد اليوم بقدر ما تخسرهم تركيا، فعلى سبيل المثال، وبالتزامن مع "غصن الزيتون" التركية، شهدت العلاقات المتوترة بين بغداد وأربيل انفراجات كبيرة، لعبت فيها طهران دورا محوريا. ثم في الوقت نفسه، بعد يوم من إطلاق تركيا عملياتها ضد القوات الكردية في شمال سوريا، استضافت العاصمة الإيرانية رئيس حكومة كردستان العراق نيجرفان بارزاني على رأس وفد رسمي لمدة ثلاثة أيام، التقى خلالها مع كل من الرئيس الإيراني حسن روحاني وأمين سر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني ومسؤولين آخرين. رغم وجود هواجس ومخاوف مشتركة تجمع بين الموقفين التركي والإيراني حيال المسألة الكردية في المنطقة، إلا أن مقاربة الطرفين وسياساتهما تجاه هذه القضية مختلفة إلى حد كبير، كما أن إيران لها نفوذ سياسي واسع بين الكرد في عموم المنطقة، لا يقارن به النفوذ التركي، فعلى سبيل المثال، وفي إقليم كردستان العراق، تركيا ركزت على النفوذ الاقتصادي أكثر من السياسي خلال العقود المنصرمة، ولم تنجح في ترجمة ذلك سياسيا، أما إيران بالرغم من أن نفوذها الاقتصادي في الإقليم ضئيل ولا يقارن بتركيا، لكنها ركزت خلال تلك العقود على إرساء نفوذ سياسي، كانت له مردودات واضحة، حيث مكنّها مؤخرا بعد أزمة الاستفتاء من دفع الأكراد إلى التراجع عند حدود 2003، بقليل من الضغط العسكري الذي مارسته بغداد، لكن بقوة النفوذ لدى أحزاب كردية. الخلاصة أن موقف إيران من تطورات شمال سوريا يتخلص في لاءات ثلاث، لا للتدخلات الأمريكية، ولا للتدخل العسكري التركي في الشأن السوري، ولا لكيان كردي مستقل. في الوقت نفسه تعلن طهران أنها تتفهم أيضا المخاوف التركية من المساعي الأمريكية في شمال جارتها السورية، أما يبدو أنها لا تريد أن يستبدل خطر احتمال تشكيل هذا الكيان بخطر مماثل متمثل في تعاظم التواجد العسكري التركي في الأراضي السورية، وتنامي قوة فصائل سورية في شمالها، ما قد يؤسس لمعادلة مستقبلية في هذه المنطقة ولاسيما في حلب، تكون لها ارتدادات وتبعات على الوضع السوري برمته لاحقا.