صابر كل عنبري عاد التصعيد مرة أخرى بين طهران وواشنطن، لكن بلون آخر، أكثر قتامة، يختلف عن ألوانه السابقة، وبأدوات أكثر خطورة من قبل. هو تصعيد عملي وليس كلامي، يترجم تصاعد نبرة التهديدات والتهديدات المضادة التي عبرت عنها التصريحات والمواقف الكلامية للجانبين على مدى الشهر الأخير، الذي دخل فيه التوتر بينهما مرحلة جديدة، على ضوء قرارات وتصرفات أمريكية تصعيدية، وأخرى إيرانية مضادة لها. حرب خافتة تقول واشنطن من جهتها إنها لا تريد الحرب، وطهران أيضا تؤكد أن الحرب ليست واردة في حساباتها، لكن ما يجري بين الطرفين في المنطقة، هذه الأيام، ليس إلا حربا خافتة في مقياس صغير أو مواجهة عسكرية خجولة، وإن رفض الطرفان اعتبارها حربا بالمعنى المتعارف عليه دوليا. فالهجمات على ناقلات النفط وإسقاط إيران الطائرة الأمريكية المسيرة العملاقة من طراز "غلوبال هوك"، الخميس الماضي، تعني بصريح العبارة أن حربا ما تجري في المنطقة. هنا، ليس مهما كثيرا من يقف وراء الهجمات على ناقلات النفط، أكانت إيران كما تقول الإدارة الأمريكية، أو الأخيرة نفسها أو أطراف ثالثة كما تعلن طهران، لكن المهم أنها هجمات تأتي في سياق المواجهة الإيرانية الأمريكية، ولا ينظر إليها إلا في هذا الإطار. كما أنه بالنسبة لإسقاط الطائرة، المهم أن إيران قد أسقطت طائرة أمريكية، سواء في أجواءها أو الأجواء الدولية. تكمن الخطورة في أن التوتر بين أمريكا وإيران انتقل إلى تنفيذ "أفعال حربية"، أي أن سياسة حافة الهاوية التي يمارسها الجانبان، قد اقتربت بالفعل إلى الهاوية. هنا قد يسأل السائل الحائر عن سرّ كل هذا "التهور" لإيران، والحسابات التي تقف وراءه. قد يقول إن إيران باتت تلعب بالنار بإسقاطها الطائرة الأمريكية وإن دخلت أجواءها. وقد يوجّه هذا السائل أسئلة كثيرة، منها أن إيران لماذا ترفض استجداء ترامب للتفاوض، عسى أن يخفف من أعباء الضغوط الاقتصادية الهائلة؟ ممر إجباري الإجابة بسيطة، وهي أن هذا ليس تهورا وإنما ممر إجباري، فرضته على إيران، السياسات الأمريكية المتهورة وغير الدبلوماسية، خاصة بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، مما أدى إلى ضيق الممرات والمسارات السياسية، وجعل الفصل للميدان وتطوراته وهنا تكمن الخطورة. إيران تعاملت على مدى عام مع تداعيات هذا الانسحاب "الثقيلة" وفق قاعدة "الصبر الإستراتيجي"، لكنها شعرت على أعتاب الذكرى السنوية الأولى منه خلال الشهر الماضي، أن سياستها هذه قد فهمت بالخطأ من جانب أمريكا وفي الوقت نفسه، من جانب بقية شركاء الاتفاق النووي، وتحديدا الأوروبيين، لذلك قررت أن تبتعد قليلا وبشكل محسوب عن هذه القاعدة، وتتجه نحو قاعدة أخرى، يمكن تسميتها باتخاذ وضعية الهجوم، وهي القاعدة التي يفرضها الولوج في الممر الإجباري. لماذا ترفض إيران استجداء ترامب للتفاوض، عسى أن يخفف من أعباء الضغوط الاقتصادية الهائلة؟ لذلك يمكن في هذا السياق، النظر في القرارات "المرحلية" الإيرانية بتقليص تعهدات نووية، ودخول المرحلة الأولى منها حيز التنفيذ وسط تصاعد نبرة التهديدات بأن المرحلة الثانية أيضا تحصيل حاصل في السابع من الشهر المقبل ما لم تنفذ أوروبا مطالبها المتمثلة في تمكينها من بيع النفط وتسهيل معاملاتها المالية. الصفقة النووية، كانت مصلحة إيرانية، كما مصلحة أوروبية وبقية شركاء الاتفاق، وكانت تريد طهران الاستمرار فيها، لكنها اليوم بفعل انهيار أحد عاموديها الأساسيين، بعد عودة العقوبات، وعدم قيام بقية الشركاء بشيء يعوض عنها، تحولت الصفقة إلى "خسارة إيرانية"، إذ أن إيران تمسك بالعامود الوحيد المتبقي، بمفردها، أي تستمر في تنفيذ التعهدات النووية، لكن من دون اي مقابل. بالتالي فإن تقليص التعهدات النووي بالتدرج، الذي يؤدي عمليا إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، حتى وإن أكدت طهران أنها باقية فيه، هو من مستلزمات الممر الإجباري أيضا، دفعتها واشنطن بعقوباتها وبقية شركاء الاتفاق بمماطلاتهم في تنفيذ تعهداتهم إلى ذلك. رسائل إيرانية كما أن تصعيد حلفاء إيران في المنطقة، وبالذات الحليف الحوثي اليمني، ضد كل من السعودية والإمارات، أيضا يأتي في سياسة تطبيق قاعدة "وضعية الهجوم". إيران تقول اليوم إن أساس التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية، هي حربها الاقتصادية عليها، وأن "المنطقة لن تنعم بالأمن ما لم تتوقف هذه الحرب"، هذا ما أكد عليه أكثر من مسؤول إيراني بشكل أو آخر، خلال الآونة الأخيرة، أي أن الرسالة الإيرانية واضحة، وهي أن لا السعودية ولا الإمارات ولا المصالح الأمريكية في المنطقة في أمن وأمان، ما لم تتوقف هذه الحرب الاقتصادية التي تشارك فيها هذه الدول أيضا. تأتي هذه الرسالة الإيرانية، بعد أن وصلت طهران إلى قناعة بأن لا التحركات أو الوساطات الإقليمية والدولية ولا التفاوض المنشود أمريكيا، لن تأتي بما يخفف من وطأة الحرب الاقتصادية الأمريكية، وأن دخولها في أي مفاوضات سيزيد من الضغوط ولن يوقفها، بالتالي قررت أن تواجه الضغوط الأمريكية بضغوط مضادة، والأفعال الأمريكية بأفعال مضادة، وهي مطمئنة إلى حد كبير أن حربا "لن تحدث"، فتستغل الثغرات الموجودة لدى صناع القرار الأمريكي، على ضوء الاستحقاقات الأمريكية الداخلية، وفي مقدمتها الانتخابات الرئاسية القادمة، بغية أن تحصل من خلال الضغوط المضادة والرسائل المفشرة التي ترسلها على ما لن تحصل عليها بالمفاوضات أو الوساطات. رسالة واشنطن بالمجمل، رسالة واشنطن هي أن تختنق طهران بصمت من دون حرب، ورسالة الأخيرة أنها لن تسمح بذلك وإن أدى الأمر إلى حرب، بين هذا وذاك، رسائل ضغط تتبادل وأفعال حربية تتزايد في سياق تصعيد مضبوط، لكن لا أحد يضمن أن لا يخرج الوضع عن السيطرة ولا يتجه نحو مواجهة شاملة، ولو عجز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رد على إسقاط الطائرة المسيرة خلال هذه المرحلة، مع تقديمه تبريرات لا تقنع إلا نفسه. تصعيد حلفاء إيران في المنطقة، وبالذات الحليف الحوثي اليمني، ضد كل من السعودية والإمارات، أيضا يأتي في سياسة تطبيق قاعدة "وضعية الهجوم". اليوم ترامب المشغول بحملته الانتخابية، قد استنفد جميع أوراقه في مواجهة طهران، إلا "ورقة الحرب" التي أظهر موقفه من إسقاط طائرة التجسس، أنه ليس في وارد حساباته القيام بهذه المجازفة الكبيرة، في هذا التوقيت الحساس بالنسبة له ولتكلفتها العالية، لذلك قد حان دور إيران لتكشف عن أوراقها من خلال ممارسة "ضغوط مضادة"، بالتالي من المرجّح أن نسمع عن هذه الضغوط الإيرانية أكثر فأكثر خلال المرحلة المقبلة، إلا اذا أوجد ترامب مخرجا للمستنقع أو الممر الإجباري الذي أوقع نفسه فيه بفعل انسحاب من الاتفاق النووي، من خلال تخفيف الضغوط الاقتصادية على إيران، بما يرضي الأخيرة، وتحول دون ممارستها سياسة "حافة الهاوية"، يتهرب ترامب من استحقاقاتها.