صابر كل عنبري بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في الثامن من أيار/مايو الماضي، أعقبته مماطلة أوروبية في التعويض عن الخسائر الناجمة عن هذا الانسحاب، تجد طهران نفسها اليوم أمام واقع مرير وقرارات صعبة تتجه نحو اتخاذها في ظل شعورها بأن الصفقة النووية بدأت تتحول إلى اتفاق من جانب واجد على ضوء العجز الأوروبي في تقديم ضمانات كافية أو القيام بأفعال مرضية. نعم، الأوروبيون يعلنون بالليل والنهار تمسكهم بالاتفاق النووي، ويؤكدون على أهميته في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، والحد من انتشار الأسلحة النووية، لكن ما يحدث على الأرض ليس أنه لا يدعم هذا الموقف فحسب، بل يتعارض معه تماما. فبعد الإعلان الأمريكي بالانسحاب من الصفقة النووية، تعلن الشركات الأوروبية مغادرة الأسواق الإيرانية خوفا من العقوبات الأمريكية، بدء من توتال وآني وسيمنز وإيرباص وأليانتس وساجا ودنييلي ومايرسك، ومرورا بالبيجو و جنرال الكتريك و لوك أويل الروسية، ووصولا إلى شركة بوينغ الفرنسية ومصاف أوروبية أكدت عزمها وقف شراء النفط الإيراني بشكل تدريجي. أمام هذا الموقف، حاول المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران أن يرفع سقف التحدي ويصعد قليلا في إطار محدد، ففي كلمته الأخيرة في ذكرى رحيل مؤسس الثورة أراد من خلال استحضار أحداث تاريخية التأكيد على أن الخيار الأنجع لإيران هذه الأيام هو الصمود والوقوف في وجه الإملاءات الخارجية، ومن هذا المنطلق أصدر تعليمات لهئية الطاقة الذرية الإيرانية باتخاذ خطوات وإجراءات سريعة لانتاج 190 وحدة فصل تستخدم في عملية تخصيب اليورانيوم. أن تأتي هذه التعليمات على لسان أعلى رأس هرم السلطة في البلد، أريد منها أن تكون رسائلها الأكثر إيقاعا وتأثيرا لدى الجهة المعنية بها وهي أوروبا. إلى جانب ذلك أيضا، أعلن علي أكبر صالحي رئيس الهيئة عن خطوات إضافية أخرى، مثل زيادة قدرة إنتاج غاز اليورانيوم وصناعة وتركيب وتجميع معامل دارات أجهزة الطرد المركزي. ما أعلنته إيران من خطوات إلى الآن تندرج تحت سقف الاتفاق النووي، حيث أكد على ذلك المرشد نفسه وصالحي أيضا، وكذلك وزير الخارجية الفرنسي ومسؤولون أوروبيون آخرون. مع ذلك، أنها لا يتوافق مع مبدأ حسن النية، ومن هنا أرادت طهران إيصال رسالتها، فعلى ما يبدو لا ترى طهران اليوم ضرورة في الالتزام بهذا المبدأ، طالما بقية أطراف الاتفاق النووي لا يعملون بمقتضاه، وكما قال جان إيف لودريان أن هذه الخطوات تقترب من الخطوط الحمراء، لكنها مازالت في إطار الاتفاق. الغاية من وراء هذه الإجراءات والقرارات والتصريحات الإيرانية هو إرسال رسائل عدة للأوروبيين: الأولى هي التعبير عن امتعاض شديد لما تعتبره طهران مماطلة وتقاعسا عن القيام بما هو اللازم عمليا لانقاذ الاتفاق النووي، مما يجعله اتفاقا من جانب واحد. والثانية هي التأكيد أن إيران من خلال هذه الاستعدادات والتحضيرات تتجه نحو استخدام أوراقها التي طالما هددت بها حال انهار الاتفاق النووي بالكامل، وهي العودة إلى أنشطتها النووية السابقة، وربما أبعد منها، مثل الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، الذي لوّح به وزير الخارجية الإيراني قبل الانسحاب الأمريكي من الصفقة النووية. ترى إيران اليوم أنها بفعل المماطلة الأوروبية سواء كانت ناجمة عن عجز أو تعمد، أصبحت أمام ثنائي فرض العقوبات وبقاء الاتفاق النووي، حيث أشار إلى ذلك المرشد الإيراني بالقول إن بعض الأطراف الأوروبية تعتقد أنها ستخضع إيران للعقوبات، قائلا "هذا الحلم لن يتحقق، فإيران لن ترضخ للعقوبات ولن تتحمل البقاء تحت القيود النووية". ربما يقول المراقب إن هذا الضغط الإيراني على الأوروبيين قد يأتي بنتائج عكسية ويؤثر سلبا على الجهود التي يبذلونها لإنقاذ الاتفاق النووي. قد يفهم هذا في الوهلة الأولى، لكن عند التمعن في الأمر نجد أنه طالما الخطوات الإيرانية الأخيرة الضاغطة جاءت تحت مظلة الاتفاق النووي، دون أن تنتهكه، فالحديث عن التأثير السلبي أو النتائج العكسية ليس موضوعيا، إلا إذا تجاوزت لاحقا التزاماتها بموجب هذا الاتفاق. أما السؤال أنه هل سوف تعمل الترويكا الأوروبية بمقتضى الرسائل الإيرانية، في الإجابة عليه لابد من القول إن أوروبا اليوم في موقف لا يحسد عليه، حيث أنها لم يسبق أن تعرضت لإملاءات وابتزازات أمريكية كما يحصل اليوم، ليس بشأن الاتفاق النووي فحسب، وإنما على مختلف الأصعدة بدء من الانسحابات الأحادية الجانب من المعاهدات الدولية مثل إتفاقية باريس للمناخ، ومرورا بوضع الأوروبيين أمام حالة إحراج يرثي لها بالنسبة للصفقة النووية، ووصولا إلى شن حرب تجارية على أوروبا وغيرها عبر فرض رسوم جمركية جديدة. من الناحية السياسية، ثمة عوامل ضاغطة تدفع أوروبا باتجاه الوقوف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية لأن القضية لم تعد تنحصر في اتفاق مع طهران، بل اليوم إستقلالية وسيادة القارة الخضراء مستهدفة، فإن لم تدافع عنها أوروبا، عليها أن تستعد لما هو الأسوء ولمزيد من التبعية. وكما قال الرئيس الفرنسي الخميس الماضي "إذا لم نرد على القرارات الأمريكية الأحادية الجانب غير القانونية فإننا سنتخلى جماعيا عن سيادتنا". أما في الوقت نفسه، ثمة عوامل أمنية واقتصادية تكبّل الأيادي الأوروبية، حيث أن هذه الضفة الأطلسية لديها مصالح أمنية واقتصادية متشابكة مع الضفة الأخرى أي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي لا يمكنها التخلي عن الإتفاقيات الأمنية بسبب الجارة الروسية الشرقية. كما أن تشابك المصالح الاقتصادية يشكل عقبة كبيرة أمام أوروبا في ترجمة رغباتها السياسية بالوقوف في وجه واشنطن إلى أفعال على الأرض، لأن مثل هذه المواجهة ستكلفها كثيرا أمنيا واقتصاديا، وأنها تستدعي الحرب على الجبهتين، الأولى مع الشركات الأوروبية التي لم تنتظر قرارات صناع القرار الأوروبيين وبدأت بالانسحاب من طهران خوفا على خسارة مصالحها مع الولايات المتحدة، والثانية مع الأخيرة نفسها. بيدا أن الشعور بالعجز في خوض هذه المعركة دفع الأوروبيين إلى تقديم قائمة إعفاءات من العقوبات الأمريكية لشركاتهم في إيران، تشمل قطاعات الصحة، والأدوية، والطاقة، والسيارات، والطيران المدني، والبنية التحتية، والبنوك. لا يتوقع أن تتجاوب الإدارة الأمريكية مع الطلب الأوروبي الذي قدمه وزراء خارجية ومالية الترويكا الأوروبي مع مسؤولة السياسة الخارجية الأوروبية لنظرائهم الأمريكيين، لأنه ببساطة هذه الإعفاءات تغطي حوالي 90 بالمائة من المطالب الإيرانية من الترويكا الأوروبية، ما يتعارض مع القرار الأمريكي بفرض أقصى عقوبات على إيران في التاريخ. اذا من الواضح أن إدارة ترامب لن توافق على تلك الإعفاءات. هذه الاستنجادات الأوروبية لا تنقذ الاتفاق النووي بتاتا، وإنما انقاذه بحاجة إلى قرار أوروبي سيادي وجماعي ينتصر لاستقلالية وسياسة أوروبا، ما يترتب عليه الولوج في مواجهة سياسية وحرب تجارية ضروسة ضد الحليف الأمريكي، لكن في ظل الانقسام الأوروبي، وتماهي الأوروبا الشرقية مع واشنطن، يصعب اتخاذ مثل هذا القرار. اليوم مصير الاتفاق النووي أصبح مرتبطا بمصير الحرب التجارية بين ضفتي الأطلسي، حيث على ما يبدو أن الموقف الأوروبي من هذا الاتفاق كان حاضرا في مخيلة ترامب عندما قرّر شن هذه الحرب. فهل سيصبح الاتفاق النووي كبش فداء لتسوية أوروبية أمريكية تنهي حرب الرسوم الجمركية؟ الأسابيع والشهور القادمة ستجيب عليه. وأخيرا، إيران على ضوء هذا الواقع الصعب المتمثل في انهيار تدريجي الاتفاق النووي في ظل العجز الأوروبي في انقاذه، أمامها خياران، إما أن تنفذ تهديداتها وتعود إلى الأنشطة النووية التي سبقت الاتفاق بالرغم من مخاطر ناجمة عنها، أو أن تقبل بما هو متاح وباتفاق من جانب واحد درءا لتلك الأخطار. اليوم طهران من خلال خطواتها الأخيرة التي أشرنا إليها آنفا لوّحت بالتوجه نحو الخيار الأول. فهل سترفع خلال الفترة المقبلة سقف التحدي بما يتجاوز الاتفاق النووي؟
الآراء