• • من الثابت أن قواعد المنهج الإلهي استقرت في الحياة، وتبيّـنت خطوطه ومعالمه "لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأنفال:42] منهج لا غموض فيه ولا إبهام.. إنما هو الضلال عن علم، والانحراف عن عمد، والالتواء عن قصد، والتقصير عن إصرار.

• ولقد نبتت على أرض البيان شتى العلوم، ولن يكون عسيراً أن نبصر معالم المنهج القرآني في الحياة، وإنا لواجدون ذلك من خلال الصورة الواضحة للشخصيّـة الإسلاميّـة التي حملت أمانة هذه الهداية، وكلما قامت الأدلة في منهج السير في هذا الطريق، قامت الحجة على ضرورة الاستمساك بالمنهج الربانيّ كما حدّده القرآن الكريم، سلوكاً وقوة، ومنهجاً وحكماً.

• ولابد أن ندرك أن القرآن الكريم لا يمنح كنوزه لمن يستكثر به لمجرد المعرفة، إنما يمنح لمن يقبل عليه بروح المعرفة المنشئة للعمل، والمسلم الذي يرجو الله واليوم الآخر، عليه أن يعيش حياته في رحاب كتاب الله، ولو وفّـق لتطايرت من نفسه الحجب، ولأدرك قيمة الحياة في هذا الهدى، ولكانت الدنيا كلها وسيلة لا غاية، وإذا به يحيا في سلطان الحق، ويتركز وجوده في قلبه وروحه، فيغدو لأمر الله ونهيه واقع في قرارة نفسه يبلغ القمة، وتلك حالة يمكن كسبها بعرض الروح والقلب على كتاب الله.

• يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله أهلين من الناس، فقيل: من أهل الله منهم؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وهنا نبصر أنصار الحق ودعاته، وجنده وحماته.. أصحاب البصائر والأبصار.. الذين يتطلعون إلى آفاق النور والإخاء، والإيثار والفداء، والبذل والعطاء، والحب والنقاء، والود والصفاء، ليعيشوا في هذه الرحاب الرفافة الندى والظلال.

• ما أحوجنا أن نعيش في رحاب القرآن الكريم حكماً ونهجاً وكتاباً هادياً ومرشداً وملهماً في رمضان وفي سائر الشهور، لقد أبصرنا الخير في المصحف الهادي ومنهجه، وتيقنا أن ما عداه خسران مبين.

• إننا عانينا ونعاني من ويلات البعد عن كتاب الله، والإسلام منا قريب، ونعاني من حرب مستعرة ضد الإسلام، والإسلام في متناول أيدينا لو نشاء.. فأيّ صفقة خاسرة، تلك التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وأيّ صفـقة خاسرة، تلك التي نشتري فيها الضلالة بالهدى؟

• إننا نملك إنقاذ أنفسنا والبشريّـة من ويلات المادية الطاغية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان.. بيد أنا لا نملك ذلك قبل أن ننـقذ أنفسنا، وقبل أن نفيء إلى رحاب هذا القرآن الكريم الذي يهدي إلى صراط مستقيم، مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها وفطرة الكون ونواميسه التي تصرفه، ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات.

• إنه منذ لحظة نزول الوحي بهذا الكتاب العظيم عاش الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة.. عاشوا يتطلعون إلى الحق في كل أمرهم، كبيره وصغيره.. يحسّـون ويتحرّكون، ويتوقّـعون أن ينزل عليهم من الله وحيٌ يردّهم عن الخطأ، ويقودهم إلى الصواب.. ويحدّثهم بما في نفوسهم، ويفصل في أمرهم، كانت فترة عجيبة حقّـاً.. استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة فـترة لا يتصوّر حقيقتها إلا الذين عاشوها وشهدوا أحداثها، وأحسّـوا رحمة الله تـنقل خطاهم في الطريق.

• وتلك مسافة هائلة لا تُقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض.. مسافة في الضمير، لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر، ولا يماثلها بعـدٌ بين الأجرام والعوالم.. مسافة بين التلقّـي من الأرض والتلقّـي من الوحي، بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي.. بين الجاهليّـة والإسلام، والذين عاشوا هذه الفترة، وذاقوا حلاوة الاتصال، هم الذين عرفوا مذاقها، وشعروا بقيمتها، وأحسّـوا وقع فقدانها حين انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربّـه.

• يروي مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبوبكر رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيّـجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها.

• لقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة.. وهي كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهل يواصل المسلمون إقبالهم على كتاب الله تلاوة وتدبراً وعملاً بأوامره ونواهيه؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا.