مثل المؤتمر الوطني العاشر لحركة النهضة الذي انعقد قبل أيام قليلة محطة أساسية ومهمة لمستقبل التيار الإسلامي التونسي وفي مسار التطور الفكري والسياسي لهذه الحركة، من الجماعة الإسلامية أواسط السبعينيات إلى الاتجاه الإسلامي بداية الثمانينيات إلى حركة النهضة سنة 88.

فقد نشأت النهضة في أواخر السبعينيات كتيار ثقافي دعوي بقيادة الشيخين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو، لتتخذ بعدا سياسيا متزايدا فيما بعد سواء من جهة الخطاب والتفكير أو من جهة الدور في الساحة العامة. خلال هذه الرحلة الطويلة والمتعرجة التي مرت بها حركة النهضة والتي تقرب من الأربعة عقود تقريبا من مسيرتها الفكرية والسياسية مرت بمراحل وأوضاع مختلفة تراوحت بين الانفتاح النسبي والمحدود من جهة نظام بورقيبة ومن بعده بن علي، إلى المواجهة الدامية معهما.

وقد كانت حقبة التسعينيات وما تلاها من أكثر المراحل قسوة على حركة النهضة التي توزع آلاف من قادتها ومنتسبيها بين السجون والمنافي، قبل أن تغير الثورة التونسية التي أطاحت بنظام بن علي معطيات المشهد السياسي التونسي جذريا فتتقدم النهضة إلى تحمل شؤون الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011. حركة النهضة ظاهرة سياسية اجتماعية حرية بالدرس والمتابعة وهي تقدم مختبرا عمليا لإمكانيات التطور الذي يمكن أن تعرفه الحالة السياسية الإسلامية في مناخ ديمقراطي مفتوح، مما يثبت بأن التيارات الإسلامية تتفاعل وتتأثر بطبيعة البيئة السياسية التي تشتغل ضمنها.

ولعل أهم التحولات التي يشهدها حزب النهضة يمكن تلخيصها في العناصر التالية:

أولا، تحول النهضة من حركة معارضة سياسية جذرية في مواجهة نظام شمولي إلى حزب يتحمل جزءا من أعباء الحكم بعد الثورة فرض عليها تغييرا نوعيا في سلوكها السياسي وسلم أولوياتها. لم تعد النهضة مجرد حركة احتجاج همها حماية نفسها وتجييش الرأي العام ضد الحكم بقدر ما غدت معنية بحماية كيان الدولة والمساهمة في البناء والاستجابة لمطالب الناس وترجمة همومهم العملية في التنمية والشغل وتحسين ظروف العيش والارتقاء بالتعليم والصحة ومواجهة المخاطر الأمنية وغيرها من التحديات والمشكلات.

فرض هذا الوضع الجديد على النهضة التعديل التدريجي في هويتها السياسية من حركة معارضة جذرية إلى حزب حاكم أو مساهم في الحكم، فمنطق الحكم يختلف بالضرورة عن منطق الاحتجاج والمعارضة، كما أن دور المعارضة السياسية في النظام الديمقراطي يختلف عن المعارضة الاحتجاجية في النظام السياسي التحكمي أو الشمولي.

نشأت النهضة في نوع من التنافي الحاد مع دولة الاستقلال لاعتبارات تاريخية معروفة إلا أن هذه الهوة أخذت تضيق تدريجيا بعد الثورة في إطار عملية مستمرة من الاعتراف المتبادل، حيث كفت الدولة عن النظر إلى النهضويين باعتبارهم يمثلون خطرا على كيان الدولة واستقرارها مثلما تخلى الإسلاميون التونسيون عن النظرة العدائية للدولة وأصبحوا جزءا من معادلة الحكم والاستقرار العام في البلد. هذا يعني أن النهضة لم تعد معنية بمعارضة الدولة بقدر ما هي معنية بالإصلاح والتطوير عبر الدولة نفسها.

ثانيا، تتجه النهضة إلى نوع من التخصص الوظيفي في المجال السياسي مع ترك بقية المناشط الدينية الدعوية للمجتمع المدني في إِطار من الاستقلالية الكاملة. طَبِيعَة المتغيرات الحاصلة في المشهد السياسي التونسي بعد الثورة، فضلا عن المقتضيات الدستورية التي تمنع الْجَمْع بين العمل الجمعياتي والحزبي، تدفع باتجاه هذا التخصص والتمايز. هذه المسألة عملية تتعلق بمبدأ النجاعة والفاعلية في إطار تقسيم وظيفي للأدوار المجتمعية، ولا علاقة لها بما ذهب إليه البعض من أنه سير نحو العلمنة الخفية أو الظاهرة.

ما تسعى إليه النهضة هو أجراء تقسيم وتمايز في الوظائف تفرضه طَبِيعَة المجتمعات الحديثة التي تتسم بالتركيب والتعقيد. في مناخ ديمقراطي مفتوح ليس هناك ما يفرض على النهضويين الجمع بين السياسي والنشاط الاجتماعي الخيري والنشاط الديني والدعوي، إذ من الأفضل للجميع أن يقوم كل طرف بدوره على الوجه الأكمل بنوع من الاستقلالية الوظيفية. هذه التجربة لها سوابق في بلدان عربية وإسلامية أخرى نحت إلى التمييز بين الحركة الأم والحزب، كما هو الأمر في المغرب والجزائر والأردن واليمن وغيرها.

ربما الفارق الوحيد هو أن هذه التجارب اتجهت إلى الفصل بين الحزب والحركة الأم، في حين أن النهضة خيرت التمايز الطبيعي المجتمعي في إطار تقسيم واضح للأدوار بين ما يدخل في إطار الحزب، وما يدخل في أدوار المجتمع المدني أو الأهلي وما يدخل في إطار وظائف الدولة.

إن التجربة التاريخية الإسلامية تزخر بخبرة طويلة وثرية في مجال العمل الأهلي الخيري والاجتماعي والديني في إطار وجود مؤسسات مستقلة عن الأمراء والسلاطين حفظت للمجتمعات المسلمة توازنها واستقرارها العام في ظل تقلبات السياسة وصراعات الأسر الحاكمة. اليوم ثمة حاجة عملية للاستفادة من هذه التجربة التاريخية في إطار حديث، في ظل صعود جماعات العنف والإرهاب المتدثرة بعباءة الإسلام، مما يتطلب أكثر من أي وقت مضى وجود مؤسسات دينية وتعليمية فاعلة ومستقلة عن الأحزاب السياسية توفر المناعة المطلوبة أمام الشباب من خطر الانجراف إلى ثقافة التطرف والعنف وتعمل على إشاعة ثقافة الاعتدال والوسطية الإسلامية.
أما الذين يتساءلون ويُثيرون الهواجس والمخاوف حول قضية العلمنة وما شابهها فهم ينسون معطى أساسيا ومهما وهو أن خيار العلمنة أو موقع الدين في الحياة العامة لا تحدده الأحزاب السياسية بقدر ما تحدده الصيرورة الاجتماعية والثقافة العامة. هذه القضية تتعلق في الواقع بمبدأ النجاعة العملية أكثر مما تتعلق بقضايا إيديولوجية من قبيل العلمانية والإسلام. أما شمولية الإسلام فلا تقتضي بالضرورة شمولية الحزب أو الحركة، إذ كل يأخذ بنصيبه من رصيد الإسلام وقيمه الروحية بقدر الجهد والطاقة وبما تتيحه ظروفه الموضوعية. التجربة العملية بينت أن التخصص السياسي هو الأقدر على الإيفاء بالغرض من جهة التركيز والكفاءة والعبرة هنا بالمقاصد والأهداف لا بالوسائل.
نحن في حركة النهضة متشبثون بمرجعيتنا الإسلامية العامة ولكن في إطار هوية إسلامية منفتحة ومتفاعلة مع مشاغل الناس وهموم العصر، استمرارا مع تراث الإصلاحية الإسلامية عامة الذي شدد على أهمية التوليف بين ثوابت الهوية الإسلامية وما ثبت نفعه من تراث الحداثة. إذ التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمين اليوم هو كيف يمكنهم أن يعيشوا إسلامهم ولكن في إطار عصرهم وزمانهم؟
ينبغي للمهتمين بما يحدث في النهضة الانتباه هنا إلى أن التطورات التي تشهدها تمثل استجابة عملية للواقع التونسي الجديد الذي يفرض علينا في النهضة التكيف مع المتغيرات الحاصلة في المشهد المحلي، ومن ذلك انتفاء القيود المانعة لسائر المناشط العامة وغياب السلطة التحكمية للدولة التسلطية. فما الذي يوجب في مثل هذا السياق الجمع الشمولي بين مجالات متعددة؟
التجربة التي نخوضها محلية وبخصوصيات تونسية ولا تنسحب بالضرورة على بقية التجارب في المنطقة، فلكل بلد أوضاعه ومشاكله الخاصة. الخيار الذي انتهجناه يظل محكوما بدوافع عملية في المقام الأول أكثر من الاعتبارات الإيديولوجية، أي بتوخي النجاعة العملية وإحداث التوازن المطلوب بين أدوار الأحزاب والمجتمع المدني والدولة.
الزمن في النهاية وحده هو الكفيل بالحكم على هذه التجربة ومدى صوابها، فلا تتسرعوا بالحكم عليها بالسلب أو الإيجاب.