إن سنة رسول الله صلی الله علیه وسلم کانت ولا تزال مصدرا ثانیا من مصادر التشریع والتطبیق الفعلي لأحکام القرآن وتشریعاته وکانت حتی الیوم ینبوعا فیاضا وأسوة حسنة للدعاة والسالکین في مسار الدعوة. وإذا کان النبي قدوة کاملة في کافة جوانب الحیاة وأن الله تعالی یقول في شأنه: "لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَهٌ حَسَنَهٌ لِمَنْ کَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآَخِرَ" [الأحزاب:21] لهذا من الضروري أن نتعامل مع سنة النبي المطهرة تعاملا أکثر دقة وعمقا حتی نکون ناجحین في أخذ دروسها واتخاذ آلیاتها من أجل تنظیم الحیاة الفردیة والاجتماعیة واجتیاز الخلافات والمشاکل. إن قضیة الخلافات وجذورها وسبل حلها خطیرة بین الدعاة ویجب أن یهتموا بها اهتماما بالغا وکثیرا ما تکون القضیة مثیرة للتحدي مفتقرة للتدقیق فیها والباثولوجیا الصحیحة لتفادي آثارها السلبیة.

من هنا نواجه السؤال الأول وهو ما هي البنی التحتیة الشرعیة لحل الخلافات بین الدعاة؟ ونعني بالدعاة هؤلاء الذین یعتبرون نخبة المجتمع من حیث العقیدة والسلوک والأفکار؛ وهذه القضیة من أهم القضایا وأدقها في مجال النشاط الدیني وتتطلب مراجعة دقیقة حتی یتم الوصول إلی نتائج أفضل بالنظر إلی جذور الاختلاف وتحقیق وحدة الصف والکلام. ثم علینا أن نوقد من سیرة النبي العطرة مصباحا علی طریق الدعوة والدعاة وفي هذا المقال سندارس ثلاثة مواقف للنبي الکریم مع بعض أصحابه حتی نفهم طریقة تعامله الحسن لحل الخلافات ونأخذ بعین الاعتبار المبادئ الثابتة التي اتخذها صلی الله علیه وسلم.

الموقف الأول: تقسیم الفيء في یوم حنین

في هذه القضیة احتج عدد من الأنصار علی طریقة تقسیم الفيء وأساؤوا من إعطاء النبي صلی الله علیه وسلم حصة کبیرة منها لقریش ولبعض القبائل الأخری بینما أن الأنصار لم ینالوا بشيء منها. فقالوا في أنفسهم: إن هذا لأمر عجیب! یقول صاحب الرحیق المختوم:

"لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله قومه. فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.

فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم؛ فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: ألا تجيبونني يا معشرالأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل؛ قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك.

أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا".

اتخذ رسول الله في حل هذه المشکلة طریقة واضحة وشفافة وهي بحاجة أن نفکر فیها قلیلا حتی نتعلم منها کیفیة إدارة الخلافات وتحویل التهدیدات إلی الفرص. وهذه القضیة مهمة جدا لأن أي عامل تسبب في زعزعة الثقة بین القیادة والأتباع إذا لم تحل فورا سیجلب أضرارا من الصعب تدارکها. وأما الدروس المستفادة من هذا النوع من تعامل النبي مع أصحابه:

1- الاستماع التام لآراء الآخرین وعدم تحقیرهم أو التحیز المتسرع: سمع الخبر من سعد بن عبادة للمرة الأولی ثم جمع الأنصار حتی یناقش القضیة من قریب لأن القائد لا ینبغي له أن یکتفي في الحکم بالمعلومات التي تلقاها بل علیه أن یقوم بالتنویر اللازم. الانفتاح والتسامح من أهم صفات القائد: لم یسخط النبي ولم ینزعج بل قبل احتجاجهم مع الانفتاح ولم یعتبره تقلیصا للثقة بالقیادة طالما یتم ضمن نطاق الشرع.

2- الالتزام بالأدب والتواضع: في المحاورة التي دارت بینهم بدایة خاطبهم النبي ثم ذکّرهم نعم الله علیهم حتی أذعنوا الأنصار لفضل الله علیهم؛ وهکذا فإن أدب الحوار یسرع حل المشاکل.

3- ذکر فضائل طرفي النزاع کبدایة للحوار: بدایة سلط الضوء علی القضایا المشترکة ثم قام بالنقاش حول النقاط الخلافیة لأن التطرق إلی الخلافات والترکیز علیها سیعصب حل المشکلة.

4- الإسراع في تسوية المنازعات: قام النبي بعقد اجتماع فور تلقي قالة الأنصار.

5- الإیجابیة وصراحة العبارة: دخل السعد النبي لیبلغه المشکلة ولما سأله النبي عن رأیه في القضیة أجابه بصراحة أنه یری کالأنصار وأنه رجل منهم ولم یترک مجالا للإبهام؛ کلما سادت مناخ الصداقة والنزاهة وسیطرت علی العلاقات بین القیادة والشعوب فسیکون حل الخلافات أسهل بکثیر.

الموقف الثاني: قصة صلح الحدیبیة

في صلح الحدیبیة کان معظم الصحابة مستائین من هذا القرار ویعتبرون شروط قریش جائرة ولکن کیف تعامل النبي مع هذه القضیة؟

1- دراسة الحوادث والرؤیة المستقبلیة: إن جمیع شروط قریش کانت جائرة بالنسبة للمسلمین ولکن رسول الله کان یفکر علی وعي وبصیرة وتدبیر حسن حیث کان بإمکانه أن یستفید منها في سبیل الدعوة وهناک نزلت الآیة: "إِنَّا فَتَحْنَا لَکَ فَتْحًا مُبِینًا" وقد سمّی الله هذا الصلح "فتحا مبینا" وهذا ینبئ عن موقف النبي الصحیح.

2- النظر إلی جوانب القضیة بأکملها: قال عمر بن خطاب محتجا رسول الله: أو لست رسولا من عند الله؟ فأجابه النبي بهدوء: بلی؛ أو لسنا مسلمین؟ قال: بلی؛ أو لیسوا مشرکین؟ قال: بلی؛ ثم استمر عمر: لماذا خضعنا لهذه المذلة؟ قال: أنا عبد الله ورسوله ولا أخالف أمره قط ولا یخزیني قط. فیرد النبي علی کافة أسئلة عمر بن خطاب بالبهجة الهدوء ویذکره ثوابت الدین ومبادئه من أجل الحفاظ علی وحدة صفوف المسلمین.

3- الاستشارة: حین اقترحت أم سلمة حلا قبله النبي قائلة له: یا رسول الله اخرج وافعل ما شئت وإذا رأوک خالعا ملابس الإحرام سیتابعونک. فخلع رسول الله ملابس الإحرام وذبح أضحیته وحلق رأسه ولما رأءه المؤمنون أسرعوا طائعین هکذا أن التزامه بالتشاور أدی إلی حل المشکلة.

4- إیجابیة أتباعه: ولما دخل عمر أبا بکر وقال له: ألیس هو رسول الله؟ قال: نعم؛ قال: أو لسنا مسلمین؟ قال: نعم؛ قال: أو لیسوا هؤلاء مشرکین؟ قال: نعم؛ قال: فلماذا نخضع للمذلة في الدین؟ قال أبوبکر: یا عمر أطع أمر رسول الله لأني أشهد أنه رسول الله؛ قال عمر: فأنا أیضا أشهد أنه رسول الله. هنا علی الجندي المسلم أن یسمع ما یقول أخوه المسلم ویستسلم.

الموقف الثالث: فتح مکة

کلنا یعلم ما حدث لحاطب بن أبي بلتعة یوم الفتح؛ إنه تجسس لصالح المشرکین وقام بإفشاء الأسرار العسکریة وهذا یعتبر خیانة عظمي وفقا لمعاییر الیوم ویتم علیها أشد العقوبات ولکن کیف تعامل النبي مع القضیة وما هي الدروس المستفادة منها؟

1- الدراسة الشاملة وعدم الاعتماد علی الشکوک: استمع النبي لحاطب وأعطاه المجال لیفصح عن رأیه علی الرغم من عدم الحاجة إلیه ولکن النبي یعلمنا أن نسمح للمتهم حتی یدافع عن نفسه ویقول ما یرید.

2- قبول الأعذار مع الجدیة: إذا اعتذر شخص وقبله القائد یجب أن یوفر له فرصة للمراجعة ولا یغلق أمامه جمیع الأبواب.

3- عدم النسیان لحسن سمعة الأشخاص: إذا أخطأ شخص یجب أن یحدد مدی خطاه وعثرته وإذا کان ذا سابقة حسنة ینبغي التغافل عن خطئه شریطة أن لا یکرره مرة أخری؛ یجب أن یهتم بأوجه الضعف لدی الأشخاص وعدم التوقع منهم أن یکونوا ملائکة معصومین. هذه کانت أنموذجا من کیفیة تعامل رسول الله مع أخطاء أتباعه ربما لا تکون قابلة للصفح بالنسبة لنا ولکن رسول الله تعامل معها بحسن تدبیر واستطاع أن یحول دون خلافات وإشاعتها ویبدلها بفرصة حسنة ذهبیة.

المصادر:

1- صفیّ ‌الرّحمن مبارکفوري، الرحیق المختوم.

2- سیرة ابن هشام.

3- خضري بک، نور الیقین.

4- سعید حوی، الرسول.

5- رمضان بوطي محمد سعید، فقه السیره.