كما ماجت المنطقة العربية ببركان ثورات الربيع العربي ماجت كذلك بصعود نجم الإسلاميين في كل انتخابات جرت بعد صحوة الشعوب العربية هذه، فما من انتخابات حرة ونزيهة في مجملها جرت في البلاد العربية إلا وكان للإسلاميين نصيب الأسد فيها.
غير أن موجة الانتصارات الانتخابية للإسلاميين لم تقتصر على دول الربيع العربي فحسب، وإنما امتدت لتشمل دولاً لم يمسها هذا الربيع بشكل كامل -ربما بعد-؛ والمغرب مثال على ذلك.
بدأ صعود الإسلاميين بالفوز الذي حققه حزب "النهضة" في تونس؛ والذي حقق ما نسبته 41% من إجمالي أصوات الناخبين؛ ثم انتقل إلى المغرب بفوز حزب "العدالة والتنمية" بنسبة 27%؛ لينتهي المشهد الحالي بانتصار إسلاميي مصر بحزبَيْهم "الحرية والعدالة" التابع لجماعة الإخوان المسلمين و"النور" التابع للتيار السلفي؛ محققَيْن مجتمعَيْن حتى الآن ما نسبته 73%؛ وتتبقى المرحلة الثالثة والأخيرة للانتخابات.
وقد كثر التساؤل عن أسباب هذا الفوز ودلالاته وإرهاصاته القادمة على المنطقة بأسرها، وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في النقاط التالية:
أسباب فوز الإسلاميين
1- أول أسباب فوز الإسلاميين من وجهة نظري يكمن في أنه هذه المرحلة هي مرحلة الإسلاميين؛ فقد شهدت المنطقة العربية منذ أوائل الثمانينات موجة عودة للمرجعية الإسلامية بعد فترة تنقل بين التيارات اليسارية بكافة تنوعاتها وتعدداتها.
ولست هنا مع من حاول قراءة انتصار الإسلاميين بأن المجتمعات العربية مجتمعات يغلب عليها التدين الفطري، بدليل أن التيارات اليسارية عمت المنطقة العربية وشملتها خلال الستينات والسبعينات، وكانت هذه المجتمعات العربية (المتدينة فطريًّا بحسب زعمهم) منخرطة حتى النخاع في هذه التيارات. ففوز الإسلاميين من وجهة نظري جاء متسقًا مع موجة الانتماء للإسلام التي عمت المجتمعات العربية منذ الثمانينات.
2- ينبثق من النقطة السابقة سبب آخر لانتصار الإسلاميين هو أنهم الوحيدون الذين لم ينالوا الفرصة ليتولوا زمام أمور بلادهم؛ فقد جربت المنطقة العربية كافة التيارات والمذاهب الفكرية والثورية والمحافظة، ولم ينل الإسلاميون هذا الشرف بعد، والمحاولة الوحيدة لتولي الإسلاميين السلطة كانت فوز "الجبهة الإسلامية للانقاذ" في الانتخابات التشريعية بالجزائر عام 1991، وهو الفوز الذي لم يهنأوا به؛ إذ سرعان ما انقض الجيش على الحكم، ولاحق الجبهة واعتقل قياداتها.
عدم منح الإسلاميين فرصة إدارة شئون البلاد كان سبباً من أسباب اختيار الشارع العربي لهم في بعد منحه حق التصويت بحرية ونزاهة وحيادية.
3- أحد أسباب فوز الإسلاميين كذلك يرجع إلى الحكومات العربية ذاتها؛ فكم ممارسات القمع والاعتقال والحظر والتضييق التي مارستها الحكومات العربية تجاه الحركات الإسلامية منحت هذه الحركات مصداقية لدى الناخب العربي، هذه المصداقية التي ما أن وجد الناخب العربي الفرصة للتعبير عنها إلا عبر عنها بكل وضوح.
غير أن هناك فرقًا يجدر ذكره هنا؛ وهو أن إسلاميي المغرب ومصر عانوا من الإقصاء الجزئي، وسُمح لهم في أحيان بالتواجد والتحرك والعمل، وكان لهم حضور واضح في المشهد السياسي في كلٍّ من المغرب ومصر.أما "النهضة" التونسي فقد عانى من الإقصاء التام عن التواجد في أي منحى من مناحي الحياة في تونس.
حدث هذا مع الإسلاميين في الوقت الذي لم يتعرض فيه غيرهم من العلمانيين والليبراليين -في أغلبهم- لمثل هذا المنع أو التضييق، وهو ما أعطى الإسلاميين مصداقية لدى الشارع العربي تجلت في انتخابه لهم.لقد لعبت الحكومات العربية المستبدة دوراً أساسيًّا وفاعلاً في نجاح الإسلاميين.
4- سبب آخر رجح كفة الإسلاميين على غيرهم يتمثل في الحضور القوي لهم داخل مجتمعاتهم.
مع ملاحظة وجود فروقات جلية في هذا بين إسلاميي البلدان الثلاثة؛ إذ يستثنى من ذلك جزئيًّا حزب "النهضة" في تونس؛ لأنه كان مقصيًّا إقصاءً تامًّا في عهد بن علي، لكنه كان متواجداً في مجتمعه على فترات طويلة قبل بن علي؛ وذلك مذ كان الحزب يُعرف بـ"الجماعة الإسلامية" عند تأسيسه، ثم حين تغير الاسم إلى "حركة الاتجاه الإسلامي"، ثم إلى "حركة النهضة".
وفي المغرب مال تواجد "العدالة والتنمية" إلى دعم حقوق الشعب المغربي، ومناصرة كل ذي حقٍّ منهم في مواجهة الحكومة، والوقوف في وجه فساد هذه الحكومة ومن يرتبط بها، وهذا الجانب طغى على الجانب الخدمي نظراً لارتباط ذلك بكون "العدالة والتنمية" حزباً وليس حركة شعبية في أساس نشأته.
أما إسلاميو مصر؛ فالوضع مختلف هنا بشكل كبير؛ لأنهم -والإخوان منهم بشكل أساسي- حركة شعبية متواجدة بأفرادها وكياناتها الصغيرة داخل المجتمع حتى لو كان كيانها الرئيسي محظورًا.
والحق أن إسلاميي مصر قدموا على مدار سنوات طويلة خدمات متنوعة للناس في مدن مصر وقراها، من خلال الجمعيات الخيرية، والمستوصفات الطبية، والمجموعات الدراسية، والأنشطة الرياضية، إضافة إلى تقديم المساعدات للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، وغير ذلك من خدمات.إلى جانب ذلك النشاط الدعوي الكبير لهم في المساجد والجامعات والمدارس؛ والذي أكسبهم أنصارًا، ومنحهم تواجدًا في مجتمعهم.
هذا الحضور القوي للإسلاميين في مجتمعاتهم أكسبهم زخماً وقوة فاعلة في مجتمعاتهم بصرف النظر عن وجود انتخابات من عدمه؛ بينما لا يرى المواطن العربي الأحزاب الأخرى إلا في فترة الانتخابات؛ وهو فارق جِدُّ كبير.
5- الصورة الذهنية لعبت دوراً كبيراً في ترجيح كفة الإسلاميين في الانتخابات؛ فالتزام الإسلاميين بتعاليم دينهم، وحرصهم الدائم عدم ارتكاب ما يخالف أحكام الإسلام منحهم ثقة لدى المواطن العربي بأن الذين يخشون الله تعالى لا يمكن أن يشاركوا في الفساد بأي شكل كان.
يضاف إلى هذا الصورة الذهنية للأحزاب العلمانية والتيارات الليبرالية والتي ارتبطت بالانحلال والفساد الأخلاقي حتى وإن كانت غير حقيقية، كل هذا منح الإسلاميين قصب السبق في الانتخابات.
6- جاهزية الإسلاميين وخبرتهم في العملية الانتخابية مكنتهم من التفوق على غيرهم، ويستثنى من ذلك السلفيين في مصر نظرًا لقلة خبرتهم في هذا المجال.ومع حسن تنظيم الإسلاميين وقدرتهم الجيدة على إدارة العملية الانتخابية تحقق لهم ما أرادوا. فـ"الحرية والعدالة" أو جماعة الإخوان مصر على سبيل المثال كانت القوى المعارضة الأساسية للحزب الوطني الحاكم آنذاك في كل الانتخابات التي خاضتها الجماعة، وفي آخر انتخابات شبه نزيهة جرت في عام 2005 حصل الإخوان على 88 مقعدًا مقابل ست مقاعد فقط لحزب الوفد ذي التاريخ السياسي الكبير.
وفي المغرب تدرج "العدالة والتنمية" من فوزه بثمانية مقاعد في عام 1997، إلى حصوله على 42 مقعداً في انتخابات 2002، ثم زاد الحزب من نصيبه في انتخابات 2007 وحلَّ ثانيًا حاصداً 47 مقعداً.وحزب "النهضة" التونسي شارك -قبل إقصائه- في انتخابات 1989 ونجح في الحصول على 13% من أصوات الناخبين.
7- لعب العلمانيون والليبراليون دوراً لا بأس به في فوز الإسلاميين، وبرز ذلك بشكل أكثر جلاء في مصر، بل أزعم أنه كان سببًا رئيسيًّا في تحقيق السلفيين هذه النتيجة غير المتوقعة؛ وهو ما سأعلق عليه لاحقاً.
إن ضعف الكيانات العلمانية والليبرالية، وسوء تنظيمها، وعدم وجود قواعد شعبية لها، وافتقاد تواجدها الفعلي في الشارع لدرجة أن المواطن العربي لا يراها إلا في فترة الانتخابات، أعطى الضوء الأخضر للإسلاميين كي يتصدروا الصورة. بل إن في إجابات هؤلاء على أسباب خسارتهم ما يؤكد أنهم يستحقون أن يخسروا؛ إذ عللوا خسارتهم بأنهم حاولوا الترويج بأنفسهم في شهور بينما ينشط الإسلاميون منذ سنين، وهو ما يرد عليه تحقيق السلفيين مكاسب انتخابية كبيرة وهم حديثو العهد بلعبة السياسة والانتخابات.
كما برر العلمانيون والليبراليون خسارتهم بأن الإسلاميين استخدموا الدعاية الدينية لتضليل الكثير من الناخبين الأميين والفقراء، وفي إجابتهم هذه سبب خسارتهم حين تشرح سلوكهم السياسي تجاه جمهورهم وتوفر دليل فهم أسباب فشلهم الذريع حين يرون أن معظم الناخبين هم مجموعة من السذج في نظرة طبقية مقيتة نحو الناخبين.
أما فوز السلفيين غير المتوقع في الانتخابات المصرية فيمكن إرجاع ذلك إلى تواجدهم في الشارع المصري، صحيح ليس بحجم التواجد الإخواني إلا أنهم لهم تواجد قوي في مناطق عديدة بمصر، كما أنا الحشد الذي قام به السلفيون تحت مسمى الحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر ساعد على تجميع أتباعهم والمقربين منهم ومشاركتهم في هذه "المعركة". فالعلمانيون والليبراليون منحوا الإسلاميين راية الريادة في الانتخابات العربية.
الامتحان الحقيقي
إن فوز الإسلاميين في الانتخابات اعتُبر امتحاناً لديمقراطية الشعوب العربية، وللأسف فشلت النخب المثقفة غير الإسلامية في الامتحان حين رفضت نتائج الانتخابات ولم تتقبل الهزيمة بشرف.
كما أن فوز الإسلاميين في الانتخابات امتحان للإسلاميين أنفسهم، بعد أن واجهتهم الانتخابات بلحظة الحقيقة، وضعتهم على المحك، وهو امتحان عسير جدًّا، ولا بد من إعطائهم الفرصة ليمارسوا الحكم؛ وليظهروا إمكاناتهم ومدى قدرتهم على حل مشاكل شعوبهم؛ فإذا نجح الإسلاميون في ذلك، وتمسكوا بالديمقراطية، وحكموا بالعدل، فقد حققوا الغاية المنشودة منهم.
وإن فشلوا فستُسحب منهم الثقة، وسيُسقطهم الشعب في أول انتخابات قادمة، وهذه هي الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة.
وعلى من نجح في الانتخابات من غير الإسلاميين أن يتعلم إلى المعارضة المستنيرة، وأن يكون -رغم الاختلاف- يداً تبني ولا تهدم.
إن أسباب فوز الاسلاميين في تونس والمغرب ومصر هي ذاتها، وهي كذلك الأسباب نفسها التي ستؤدي إلى فوزهم في الكويت والأردن وفلسطين واليمن، وفي أي بلد عربي ستجري فيه انتخابات حرة ونزيهة، لأن المقومات واحدة، ما لم يفشل من نجح فيُفشل من بعده لا قدَّر الله.
ومن يدري فلربما نرى تعاوناً بين الإسلاميين الفائزين لتحقيق مصالح مشتركة بينهم.. أحلام؟؟ ربما.. لكنها يمكن أن تصبح واقعاً يعاش.
فيا أيها الإسلاميون.. التركة ثقيلة.. وشعبكم متجه إليكم ينظر كيف تعملون.. ولا عذر لكم بعد اليوم
الآراء