الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.

(وبعد)

تكوين شخصية المسلم المتكاملة:

يسعى الإسلام إلى أهداف كبيرة، أهداف تتعلَّق بالفرد، وأهداف تتعلَّق بالأسرة، وأهداف تتعلَّق بالمجتمع، وأهداف تتعلَّق بالأمة، وأهداف تتعلَّق بالإنسانية كلِّها.

أما ما يتعلَّق بالفرد، فيسعى الإسلام بتشريعاته وتوجيهاته، بأوامره ونواهيه، بقوانينه التشريعية وبوصاياه الأخلاقية، يسعى إلى تكوين شخصية الإنسان المسلم، وشخصية الإنسان المسلم شخصية متكاملة، وشخصية متوازنة.

ما معنى التكامل في شخصيَّة الإنسان المسلم؟ الإنسان المسلم متكامل الشخصية، تتكوَّن شخصيته جسميًّا وروحيًّا، وعقليًّا وخُلقيًّا، وعاطفيًّا واجتماعيًّا، واقتصاديًّا وسياسيًّا، تتكوَّن شخصيته من هذه النواحي كلِّها.

عناية الإسلام بالجسم:

يُعنى الإسلام بالجسم، الجسم الإنساني، على حين هناك ديانات، وهناك فلسفات تقاوم الجسم، هناك ديانات تتقرَّب إلى الله بإشقاء الجسم! كلَّما عُذِّب الجسم كلَّما ارتقت الرُّوح، يظهر هذا في البوذية الوثنية، ويظهر هذا في المانويَّة الفارسية، ويظهر هذا في الرهبانيَّة النصرانية، ويظهر هذا في الفلسفة الرواقيَّة اليونانية، ويظهر هذا في ديانات وفلسفات شتَّى.

أَتعِب الجسم، عذِّب الجسم؛ لتصفو الروح، وترتقي إلى العالم الملاكي، أو عالم الملأ الأعلى.

الإسلام لا يقرُّ هذا، ويرى أن الجسم جزء من الكيان الإنساني، حينما خلق الله آدام أبا البشر، خلقه من طين، أو من تراب، أو من صلصالٍ من حمإٍ مسنون. أي خلق جزءًا منه أرضيًّا، وهو هذا الجسم. الجسم بمثابة الغلاف لكيان الإنسان الحقيقي، ولكن هذا الجسم جزءٌ من كيان الإنسان، ليختلف عن الملائكة. الملائكة روحٌ خالصة، ليس فيهم عقل ولا غريزة ولا تكليف ولا هذه الأشياء، لهم عقل، ولكنه ليس العقل العملي المتَّصل بعمارة الأرض، ولهذا علَّم الله آدم الأسماء كلَّها، فلما عرضهم على الملائكة وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:32، 33].

تكوين آدم غير تكوين الملائكة، خلقه الله كيانًا مزدوجًا، فيه من طين الأرض، وفيه من رُوح الله، لهذا كان الجسم الإنساني يمثِّل هذا الطين الذي خلق الله منه ابن آدم.

ومن هنا عُنِيَ الإسلام بالجسم، عني بنظافة الجسم، عني بصحة الجسم، عني بقوة الجسم، عني برياضة الجسم، وسمع الناس في الأمر الديني لأول مرَّة: "إن لبدنك عليك حقًّا"([1]). ومن حقِّ البدن عليك: أن تطعمه إذا جاع، وأن ترويه إذا ظمئ، وأن تريحه إذا تعب، وأن تقوِّيه إذا ضعف، وأن تداويه إذا مرِض، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وما أنزل الله داء إلا جعل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله([2]). ولذلك شرع الإسلام الطبَّ والتداوي من أجل العناية بالأجسام.

النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان من أقوى النَّاس جسمًا، وأصحابُه من حوله كانوا من أقوى الناس أبدانًا، وكانوا يمارسون الرياضات التي يعرفها الناس في ذلك الزمن، السباحة، والرماية، وركوب الخيل، وألعاب الفروسية، وكلَّ ما أمكنهم يمارسونه.

الإسلام لا يتبرَّم من الرياضة:

ولذلك نجد الإسلام لا يتبرَّم بالرياضة، أو يضيق بالرياضات، بل بالعكس الإسلام يشجِّع على الرياضات المختلفة، إلا ما اصطدم بتعاليمه، ربما يتوقَّف في بعض الرياضات، مثل الملاكمة بلا حدود، مثل الأشياء التي فيها كشف للعورات أمام الآخرين. الإسلام لا يضيق برياضة النساء، لا مانع أن تتعلَّم المرأة السباحة، تسبح ما تشاء، ولكن بحيث لا يراها الرجال، تلعب ألعاب ما يسمُّونه (الجمباز) وغيرها من الرياضات، ولكن المشكلة في تصوير هذا ونقله إلى الرجال.

الإسلام يُرحِّب بالرياضات كلِّها، لا يحبُّ الأجساد العليلة، لا يحبُّ الأجسام المترهِّلة، من الأوصاف التي وصف بها النبي صلَّى الله عليه وسلم قرون الأمة إذا ساء حالها: أن يظهر فيهم السِّمَن، السِّمن وترهُّل الأجسام. عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" - قال عمران: لا أدري أذكر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد قرنين أو ثلاثة – ثم قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إن بعدكم قومًا يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يُستشهَدون، وينذرون ولا يفُّون، ويظهر فيهم السِّمَن"([3]).

الإسلام يريد أمة قوية:

الإسلام يريد أمة قويَّة، والأمة القوِّية تبدأ بالفرد القوي، "والمؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف"([4]). كان في العرب رجل مصارع معروف اسمه رُكانة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم وطلب منه أن يصارعه، فإذا صرعه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم أسلم وإذا لَّم يصرعه فليس على حقٍّ، فصارعه النبي صلَّى الله عليه وسلم وصرعه، وكان الرِّهان على شاة من الغنم. ولكن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يأخذ منه الشَّاة وقال له: "لا نجمع عليك أن نصرعك ونغرمك، خذ غنمك"([5]).

الإسلام يريد القوَّة، الشخصية الإسلامية لا بدَّ أن تكون شخصية قويَّة في كلِّ شيء، وبداية القوَّة الجسم.

المسلم مطلوب منه عبادات، هذه العبادات تتطلَّب الصحَّة والقوَّة، مطلوب منه السعي على المعيشة، وهذه تتطلَّب القوَّة، مطلوب منه الجهاد في سبيل الله، وهذه تتطلَّب القوة، ولذلك يسعى الإسلام إلى تكوين الجسم الصحيح السليم القوي، ولكن هذا ليس كافيًا. ليس المهم أن تكون عندنا أجساد قويَّة وليس ورائها نفوسًا قويَّة، كما قال الشاعر العربي أبو الفتح البُستي:

أتطلب الربح فيمـــا فيه خســران :: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان :: أقبل على النفس واستكمل فضائلها

الإنسان ليس بجسمه فقط، الله تعالى قال عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]

وقال العرب:

وما يُدريك ما الدَّخل :: ترى الفتيان كالنخل

طويل مثل النخلة، ولكنه فارغ من الداخل، خاويًا لا رُوح فيه ولا إيمان فيه، ما قيمة هذه الأجسام؟ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يومًا مع أصحابه، وصعد عبد الله بن مسعود قارئ القرآن وعالم الصحابة ومن السَّابقين الأولين، صعد على شجرة فبدت ساقاه، نحيفتان نحيلتان، فضحك الصحابة من حموشة ساقيه، من دقَّة ساقيه، كأنَّها عصا، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "أتضحكون من دقَّة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"([6])! المسألة ليست بالأجسام الضخمة، الساقان النحيلتان النحيفتان أثقل عند الله في الميزان من جبل أحد.

وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة" وقال: "اقرءوا، {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]"([7]). طويلٌ عريض ضخم، ولكن لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة، لا يُقام لهم وزن عند الله عزَّ وجلَّ، إنما يُوزَن الرجال بشيء أعظم من الأجسام ومن الجثث، ماذا في هذا الجسم؟ ماذا في هذا الجسم من رأس يعقل، ماذا في هذا الجسم من قلب يؤمن؟

أساس تقويم الشخصية التي يريدها الإسلام: 

ولذلك كان الأساس والمدار في تقويم الشخصية الإنسانية التي يريدها الإسلام ويحرص عليها الإسلام أمران أساسيان.

الأول: العقل، هو الذي يُخاطَب به الإنسان، الله تعالى حينما يأمر وينهى ويُخاطبنا، إنما يُخاطب فينا العقول التي تفهم، المجنون لا يُخاطَب، والصبيُّ الذي لا يُميِّز لا يُخاطَب، إنما يُخاطَب الإنسان العاقل، العقل هو أساس التكليف، ومن هنا حرص الإسلام على تكوين الشخصية المسلمة التي ترفض التقليد الأعمى، إنما أضلَّ الناس طوال القرون، أنهم اتبعوا آبائهم وأجدادهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، حتى لو كانوا ضالِّين جاهلين تتبعونهم، هذا هو التقليد الأعمى، هناك مَن اتَّبع الآباء والأجداد، وهناك مَن اتَّبع السادة والكبراء، {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67]، مشَوا وراء سادتهم وملوكهم، كما قيل: الناس على دين ملوكهم.

ومن الناس مَن ألغى عقله، ومشى وراء العوام والجماهير، كما جاء في الحديث: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"([8]).

الإسلام يربِّي العقلية غير المقلِّدة:

هكذا يربِّي الإسلام الإنسان على استقلال الشخصية، لا يكون تبعًا لغيره، لا يفكِّر برأس غيره، لا يفكِّر برؤوس الأموات، لا يفكِّر برؤوس الماضين، لا يفكِّر برؤوس الآخرين، يفكِّر بعقله هو، الله سيسأله هو يوم القيامة عن حياته، وعن دينه، وعن أموره كلِّها، فلا بدَّ أن يتَّخذ قراره بنفسه، بعقله، بملء إرادته وحريَّته.

يربي الإسلام الإنسان على هذه العقلية غير المقلِّدة، التي تنظر وتتفكَّر: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} [يونس:101]، {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} [الأعراف:185]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20، 21]، ينظرون في الأنفس والآفاق، وفي كلَّ شيء، في التاريخ، في الماضي، في الحاضر، في السموات، في الأرض، على الإنسان أن يُعمِل عقله. وكما قال بعض السلف: تفكُّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة([9]). وكما قال الأستاذ عباس العقاد: التفكير فريضة إسلامية. له كتاب بهذا العنوان، وهو عنوان صحيح. 

لماذا كان التفكير فريضة إسلامية؟ لأن الله أمر بالتفكُّر، وأمر بالنظر، وأمر بالتدبر، وما دام هذا أمر من الله عزَّ وجلَّ فهو فريضةً إذن. {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، {مَثْنَى وَفُرَادَى} مثنى يعني أنت وصاحب أو قريب لك تتفكَّران معًا، وفرادى أنت ونفسك، ثم تتفكَّروا، {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} يعني مخلصين في طلب الحقيقة، هذا ما يأمر به الإسلام.

الإسلام يرفض الظنون في مقام تكوين العقائد والحقائق، {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36]، ويعيب على المشركين والنصارى وغيرهم اتِّباع الظنِّ، لا يريد اتِّباع الظنون في مقام طلب الحقيقة، إنما يجب أن نطلب اليقين بأدواته، اليقين يطلب بأدواته بمقدِّمات يقينية توصِّل إلى اليقين، هذا ما يريده الإسلام، لا يريد عقائد تُبنَى على الظنون، على مجرَّد الوجدان، على مجرَّد التقليد، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. 

أول دين يُطالِب الناس بالبرهان في قضايا العقيدة هو الإسلام، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ..}، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148]، {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:134]، هذا ما يريده الإسلام، يريد تكوين العقليَّة العلميَّة.

ــــــــ 

[1]- متفق عليه : رواه البخاري في  الصوم (1975)، ومسلم في  الصيام (1159)، كما رواه أحمد (6832)، والنسائي في الجنائز (2391)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

[2]- سبق تخريجه.

[3]- متفق عليه : رواه البخاري في الشهادات (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة (2535).

[4]- رواه مسلم في القدر (2664)، وأحمد (8791)، عن أبي هريرة.

[5]- رواه عبد الرزاق في جامع معمر (20909)، عن عبد الله بن الحارث.

[6]- رواه أحمد (3991)، وقال مخرجوه : صحيح لغيره، وأبو داود الطيالسي في مسنده (353)، وصححه الألباني في الصحيحة (3192)، عن ابن مسعود. 

[7]- متفق عليه : رواه البخاري في  التفسير (4729)، ومسلم في  صفة القيامة (2785)، عن أبي هريرة.

[8]- رواه الترمذي في البر والصلة (2007)، وقال : هذا حديث حسن غريب، والبزار (2802). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6271)، عن حذيفة.

[9]- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه في الزهد (35728)، عن أبي الدرداء.