أن تكون صادقاً في الانتساب للحق قولاً وعملاً فأنت صاحب رسالة أياً كانت مهنتك وأياً كان موقعك، وأياً كان اسمك ونسبك. وصاحب الرسالة يتميز في كل العصور عن أقرانه، وربما يستشعر الغربة في بيئته ويستنكر بعض أصحابه سلوكه ومنهجيته. ـ ففي زمن زراعة الأحزان ، وغلبة الهموم وتكالب المحن تراه يعمل ليل نهار على غرس فسائل الفرحة، وإنشاء مشاتل السعادة، وإشاعة الطمأنينة، والاستبشار بفرج الله القريب ولطفه العجيب.

ـ وفي أجواء صناعة اليأس ، والاستسلام للإحباط، وإشاعة القنوط، ونشر الكأبة تراه باذلاً كل جهد لديه في غرس اليقين، وصناعة الأمل في غد أفضل ومستقبل أرحب. وحماية للمعتقد، وصيانة للثوابت، وإعلاء كلمة الحق بحسن التعبير عنها وصدق الانتساب إليها.

ـ وفي زمن جفاف شجرة الأخّوة، وقسوة خريفها، وتصلب عروقها، وتساقط أوراقها ينطلق ليروي ظمأها بالتعالي على الإحن، ويسقى جذورها بخالص المحبة وصادق العفو وجميل الصفح، ويمطرها بندى الكلمات الطيبة، ويدفع عنها الآفات بإمساك لسانه عن إخوانه، وصم آذانه عن إخفاقاتهم، وغض بصره عن عيوبهم، وبذل طاقته في ستر عوراتهم، وتقليل الفجوات، مع بذل النصيحة ما وجد لها مسلكاً.

ـ وفي أيام تفشي آفة الاختلاف، وانتشار أسباب التنازع والافتراق، وصناعة التحزب، والنفخ في كير الفتنة، تجد صاحب الرسالة يجمع ولا يفرق، يتغافل ولا يغفل ، يلوذ بباب ربه سائلاً العصمة من الزلل والحماية من الفتن .

ـ وفي أوقات تحول أكثر المجتمع إلى عمال هدم لا بناء، وأدوات تحطيم لا ترميم، وآلات تفكيك وتدمير لا تجميع وتشبيك ، يظل صاحب الرسالة بنّاءً لا يُنقض جداره بعد تشييده، دؤوباً لا يعرف الكلل، عالي الهمة لا يعرف الاستسلام ولا الانحناء ، موقن بأنه إذا أغلق عليه باب فتح الله له أبوابا ، مستصحباً دائماً حديث حبيبه صلى الله عليه وسلم : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا..

وإذا سالت من أين تلك الطاقة التي يستمد منها في تلك الاجواء صاحب الرسالة قوته، ويعزز بها صموده ليعبر تلك المفازات الصعاب، والعقبات الكأداء؟

أجيبك قائلاً:

ـ ثقة السالك في ربه سبحانه وليست في مجهوده وبذله ، ثقته في صدقه لا في اسمه ونسبه ، ثقته في تأييد خالقه وعظيم قدرته وحكيم تقديره، وليس في جماعته وعشيرته وحزبه، ويقينه الجازم بأن أخر صف في الحق أحب إليه من الترأس في الباطل.

ـ إن ثقة صاحب الحق تتمثل في قيمة الحق الذي ينتسب إليه ، وليس في كثرة وإمكانات الداعين إليه، فالحق لا يمكن أن يتحول إلى باطل، والنور لا يتحول يوما إلى ظلمة.

ـ ثقة السالك في أنه يحمل رسالة الله من أجل رضاه لا من أجل سلطة أو جاه ، ورضاء الله سبحانه لا يحجبه سجن ولا سجان، ولا يمنعه حاجب ولا سلطان، إنما هو ممنوح لمن صدق ، مضمون لمن بذل وأخلص.

ـ ثقة السالك في يقينه بأن كلمة الحق وإن طال جفاف شجرتها إلا أن أصلها ثابت لا يعتريه الزلل، وفروعها في السماء لا تنالها يد العابثين، ولا تصل إليها سلطة الطغاة المستبدين.

ـ ثقة السالك تنبع من إدراكه أن الدنيا ليست للمحاسبة ولكنها للتسابق والمسارعة، فلا يحزن على ما فاته منها، ولا يفرح بما أوتيه فيها، فعيناه تتطلع إلى هناك حيث النعيم الدائم الذي ليس بعده شقاء، والطمأنينة الكاملة التي لا يعتريها فزع، والسعادة السابغة التي لا يشوبها شقاء. فمهما خسر المرء في تلك الدار لم يخسر شيئاً بعد، ومهما فاته في تلك الدار فما فاته شيء بعد، وكذلك مهما كسب في تلك الدار لم يكسب حقيقة بعد، ومهما حقق من إنجازات وانتصارات فالمكسب الحقيقي والفوز الأبدي لم يحن بعد، إنما المكسب والخسارة هنالك، وهنالك فقط عند قوله تعالى: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور) آل عمران 185.

وإن الحياة الحقيقية ليست تلك التي نعاني فيها وإنما الدار الآخرة هي الحياة الدائمة الخالدة الباقية: قال تعالى: (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون).