16/09/2015 00:00 ص بقلم: وائل قنديل لا أظن أن الصارخين في البرية، على العروش العربية، كي تهبّ لإنقاذ الأقصى، يتوقعون رداً أو استجابة، أو حتى صدى لصرخاتهم. هم يصرخون بحكم العادة، كلما امتدت نيران العربدة الصهيونية لحرق الأقصى وإهانة المقدسات، ويعرفون أن "وفاة العرب" ثابتة وموثقة بشهادات معتمدة، منذ أطلق نزار قباني صيحته المجروحة "متى يعلنون وفاة العرب". يعلم المواطن العربي أن نخباً سياسية وعسكرية، معظمها وصل إلى الحكم، نمت وتكوّنت على قاعدة تقول إن الاستمرار على مقاعد السلطة في بلاد العرب يتطلب نوعاً من الرضا الإسرائيلي. لذا، هو يدرك أن العواصم العربية لن تحرّر الأقصى، بل الأقصى هو الذي سيحرّر العرب جميعاً، من العجز والبلادة والتبعية والتفاهة. أذكر أنه في عام 2009، حين كانت مصر مشتعلة بكلام عن توريث الحكم لجمال مبارك، أن معارضاً محترفاً شاباً، لعب دور المنافس لابن الكنز الاستراتيجي، سئل، في حوار صحافي، عن العلاقة مع إسرائيل، حال وصوله إلى الحكم، فردّ على النحو التالي: "نريد أن نغلق باب الحروب، ونفتح الأبواب للتقدم والسلام والحب والتعاون والتنمية الحقيقية، والحل هو دولتان على أن تكون القدس عاصمة دينية لكل العالم". كان الزعيم الصغير يبني نظريته على أن المستبدين العرب الجالسين على مقاعد الحكم يعملون على استمرار الصراع مع إسرائيل، لكي يضمنوا الاستمرار في السلطة، وهذا الكلام قد يحمل بعض الوجاهة، ويلامس بعض الحقيقة، غير أن ذلك الذي يعد نفسه معارضاً للنظام، لم يفعل أكثر مما يفعله النظام، ملاطفة واشنطن وتل أبيب بعبارات ملساء عن حل الدولتين، والعاصمة الموحدة المفتوحة لكل العالم، وهي رؤية للأقصى والمقدسات لا تختلف كثيراً، أو قليلاً، عما تردده أصوات إسرائيلية. النظام العربي، بسلطاته ومعارضاته الاصطناعية، كما وصفته سابقاً "يتماهى إلى أبعد درجة مع مفردات الدبلوماسية الأميركية والغربية ومحدداتها، فيما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط، علمته تجربة السجن أن أميركا، والغرب، قد تغض الطرف أحياناً وكثيراً عن مسائل الديمقراطية والحريات، فهي تستخدمها وقت اللزوم، لتطويع من تريد، أو ابتزازهم، والحصول منهم على أهدافها المحددة مسبقاً، لكنها لا تتسامح إطلاقاً مع أي خروج عن الأدوار المرسومة للجميع على مسرح إدارة الصراع العربي الإسرائيلي. يمكنك أن تتشدد، ولكن تحت سقف معين، والويل لمتجاوزي هذا السقف. انظر مصير صدام حسين وغيره ممن بقوا يعتبرون إسرائيل عدواً. انظر حولك واسأل نفسك: من للأقصى الآن؟ ستجد كبرى عواصم العرب باتت شوارعها وميادينها محرمةً على كل من يفكر في التظاهر ضد الإجرام الإسرائيلي، وستجد قوميين وناصريين، لا يجرؤون على إبداء مجرد الامتعاض من قرار السلطة المدعومة إسرائيلياً بإعادة افتتاح سفارة العدو في القاهرة، كلهم فرحون باختراع العدو الجديد الذي يوفر لهم مهرباً من مرايا التاريخ والثقافة والتربية الوطنية، فراحوا يحاربون "الإخوان" بكل الهمة والحماسة، والجلوس تحت أحذية نظام يعلمون أنه يحيا في كنف العدو الإسرائيلي. ولو وسعت الدائرة، ستجد الصورة ذاتها، بأبعاد أكبر، إذ استراح الرسميون العرب للتوصل إلى اختراع "داعش والحرب على الإرهاب"، ما يوفر لهم المجال الأرحب، للتحلل من كل التزامات التاريخ والجغرافيا، فتصير إسرائيل الشريك في الحرب على الإرهاب، وليست العدو، ولسان حالهم ينطق "نهادن الاحتلال كي نحارب الإرهاب". وفي وضعية كهذه، من الطبيعي أن تهدر القوة العربية في الحرب العربية على سيناء وعلى عدن ومأرب وعلى سرت وبنغازي، ويصير تحرير "عين العرب كوباني" مقدماً على إنقاذ الأقصى، وأن يصل الانهيار بمن كان يسمى "زعيم المقاومة" لأن يوجه كل طاقاته للحيلولة دون سقوط الجزار الطائفي في سورية الذي قتل وشرد وأصاب من السوريين عشرة أضعاف ما فعلته آلة الحرب الصهيونية، ويعلن بلا خجل أن الطريق إلى القدس يمرّ بالزبداني. من للأقصى الآن؟ السيسي الذي يعده الصهاينة هدية السماء لحلمهم؟ أم بشار الأسد الذي يفرّغ الأرض السورية من السوريين، أم نجيب ساويرس، رجل البيزنس الذي يصر على لعب دور المهرج السياسي، باقتراح الاستثمار في المقدسات الواقعة تحت الاحتلال تارة، وشراء الجزر المتوسطية للاستثمار في تهجير الشعب السوري تارة أخرى؟ أم محمد دحلان، وكل "الدحلانات" الصغيرة المنتشرة بكثافة، كالثعالب داخل أحراش الربيع العربي، خدمة للثورات المضادة، أم هؤلاء الذين إذا قاومت "حماس" استشاطوا غضباً، وقالوا تحتكر المقاومة، وإذا دعتهم للمقاومة، قالوا إنا ها هنا قاعدون، متكلمون، متقعرون. هذا الارتباط الوثيق بين معاداة الربيع العربي وموالاة الاحتلال الإسرائيلي يؤكد، مجدداً، أنه لن يفلح للعرب ربيع، لا تكون فلسطين في القلب منه، ولن ينجح مشروع لمواجهة الاحتلال لا تكون الديمقراطية على رأس أولوياته.