عندما يكون الحديث عن الصفات والشمائل التي يتحلى بها الإنسان، على مستوى الأفراد أو الجماعات، فإن هناك حدوداً فارقة بين «الصفات اللصيقة» وبين «الصفات المكتسبة».. فأن يكون الإنسان طويلاً أو قصيراً.. أسود أو أبيض أو أصفر.. مرسل الشعر أو أجعده.. عربياً أو أعجمياً.. شرقياً أو غربياً.. من سكان الشمال أو الجنوب... إلخ، فهي جميعها - وأمثالها - «صفات لصيقة» لا يتفاضل فيها أو بها إنسان عن إنسان أو أمة على أمة، لأنها صفات جليّة وطبيعية، لا دخل للإنسان في الاتصاف بها، ولا حيلة له في تغييرها، حتى إذا أراد لها التغيير.
ولذلك، فليس من العدل ولا من الحكمة أن يتفاضل الناس بهذا النوع من الصفات، وإلا كان ذلك تكليفاً للناس بما لا يطاق، وبما لا يستطيعون إليه سبيلاً: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)(البقرة:286).
أما الصفات التي يتم فيها وبها التفاضل بين الناس فهي «الصفات المكتسبة»، التي يخضع اكتسابها، والتفاوت في درجاتها للإرادات والطموحات والقدرات والمهارات، وذلك من مثل «الإيمان» و«التقوى»، و«محاسن الأخلاق»، و«البراعة في العلوم والفنون والآداب»، وفي «المهارات» التي تصنع العلوم والفنون في الممارسات والتطبيقات.. فبهذه «الصفات المكتسبة» يتمايز الناس، أفراداً وجماعات، ويتفاضلون ويتسابقون على درجات سلم «الخيريّة»، لأن اكتساب هذه الصفات والتسابق في ميادينها هو مما يستطيعه الكافة، بحسب ما لديهم من عزائم وإرادات وقدرات ومهارات، وبقدر ما يبذلون في ذلك من مجهودات وتضحيات.
عدل إلهيولهذه الحقيقة البدهية، وجدنا العدل الإلهي يحدثنا عن أن التكريم - تكريم الخالق سبحانه وتعالى - إنما كان لمطلق بني آدم.. «فالخلق» صفة لصيقة بجميع بني آدم، والنفخ فيهم من روح الله وهو سر التكريم عام يستوي فيه الجميع، وكذلك «التسخير» الإلهي لكل قوى الطبيعة للإنسان مطلق الإنسان هو من القضاء الحتم الذي شاءته الحكمة الإلهية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70})(الإسراء).
وتحت هذا التكريم العام يأتي التفاضل والتفاوت والتمايز في الصفات الإنسانية المكتسبة، ومنها «التقوى» و«العلم» مثلاً فيقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13})(الحجرات)، فالخلق من ذكر وأنثى، وتقسيم الخلائق إلى شعوب وقبائل، هي من الصفات اللصيقة.. أما التفاضل بالتقوى فهو مما يكتسبه الإنسان، وتتفاوت فيه الدرجات والقدرات، وكذلك الحال مع «العلم»؛ (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ {9})(الزمر).
خيريَّة مشروطة
ولهذه الحقيقة من حقائق العدل الإلهي، كان حديث القرآن الكريم عن خيرية الأمة الإسلامية، وعن أنها خير أمة أخرجت للناس حديثاً عن «خيرية مشروطة» باكتساب هذه الأمة المجموعة من «الصفات المكتسبة»، تتوقف خيريتها ومقادير هذه الخيرية، على ما حصَّلت هذه الأمة من هذه الصفات، وليس حديثاً عن «خيرية مطلقة»، تدعيها هذه الأمة بحكم العرق أو الجنس أو اللون أو الميراث أو التاريخ، أو أية صفة من «الصفات اللصيقة» التي لا فضل لها في تحديد معايير الخيرية ودرجاتها.
وإذا نحن ذهبنا إلى السياق القرآني، الذي تحدث عن خيرية الأمة الإسلامية، وتميّزها بهذه الخيرية عن غيرها من الأمم، نجد مصداق هذا المنهاج الذي تحدثنا عنه وحددناه.. ففي هذا السياق الذي تحدثت فيه آيات سورة «آل عمران» (102 - 110) عن هذه الخيرية، نجدها مشروطة باكتساب هذه الأمة الإسلامية، وتحقيقها وتطبيقها للعديد من القيم والمبادئ والشروط، وذلك من مثل:
1- أن تكون هذه الأمة «أمة مؤمنة» جامعة في إيمانها كل أركان الإيمان؛ الإيمان بالله، واليوم الآخر، وبدين الله الواحد، وبسائر الكتب والنبوات والرسالات، وذلك حتى لا تكون هذه الخيرية مجرد «منافع» دنيوية، يحسّنها العقل المجرد عن الشرع، بعيداً عن الانتماء لخالق الخير وواهبه للإنسان.
2- وأن ترتقي هذه الأمة كي تحقق الخيرية على غيرها من الأمم على سلم الإيمان، فتحقق مستوى «التقوى»، التي هي الضمير الحي المؤمن، الذي يتقي ويتجنب كل ما يغضب مولاه.. وللخيرية في هذا المستوى درجات، أعلاها أن تتقي الله حق تقاته؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102})(آل عمران)، وأدناها أن تتقي الله قدر المستطاع؛ (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {16})(التغابن)، وللاستطاعة هي الأخرى درجات يتفاوت في طلبها وتحقيقها المتقون.
3- وألا تكون هذه التقوى مقصورة على ذات الفرد التقي، لأن الإسلام دين الجماعة، وكثير من فرائضه وتكاليفه جماعية واجتماعية، لا تتأتى ولا تُقام إلا في وطن وأمة وجماعة واجتماع، حتى إن رهبانية الإسلام كانت الجهاد في سبيل الله، وليست العزلة الفردية التي تبغي الخلاص الفردي عن طريق إدارة الظهر للجماعة والمجموع، ولذلك كانت خيرية الأمة الإسلامية مرهونة بتحقيق فريضة التآلف والألفة والاتحاد والاعتصام بحبل الله.
4- أما الشرط الرابع لخيرية الأمة الإسلامية، فإنه شرط عام يشمل سائر فرائض العمل الاجتماعي العام، إنه شرط أن تكون هذه الأمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، مغيّرة للمنكر إذا وقع.
فإقامة العدل مع الذات ومع الآخر حتى لو كنا نكرهه، أو حتى نحاربه.
وإشاعة منهاج الوسطية الإسلامية الجامعة في الفكر والتطبيق.
وإقامة الشورى في الأسرة.. والمجتمع.. والدولة.
والتكافل الاجتماعي، الذي يحقق عدالة التوازن، والتوازن العادل بين شرائع المجتمع الإسلامي وطبقات، حتى تكون الأمة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وتحقيق قيمة الحرية المضبوطة بضوابط الشريعة الإلهية مع مختلف ميادين الحياة الفكرية والعملية.
والجهاد لنصرة المظلومين وتحرير المستضعفين في الأرض.
والتسابق على طريق الخيرات التي تحقق سعادة الناس في الدنيا والآخرة.
كل هذه الفرائض الاجتماعية وأمثالها هي بعض من التكاليف التي وضعها الإسلام تحت الفريضة العامة والجامعة: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».. وهي التي أناطها بكل المكلفين رجالاً ونساء؛ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71})(التوبة).
وبإقامة هذه الفرائض الاجتماعية، والاتصاف بثمراتها، تتحقق خيرية الأمة الإسلامية، بل إن غيبة هذه الفرائض الاجتماعية وصفاتها يسلب من الناس حتى معنى «الأمة - الجماعة»، وليس فقط صفة «الخيرية»؛ لأنهم يكونون عندئذ مجرد «أفراد» مبعثرين، وليسوا «أمة» من الأمم!
صفات الخيرية
عن ذلك كله تحدث القرآن الكريم، عندما عرض لخيرية الأمة الإسلامية، وشروط هذه الخيرية، وصفات الأمة التي هي خير أمة أُخرجت للناس.. فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {106} وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {107} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ {108} وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {109} كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110})(آل عمران).
فجميع الصفات التي تحقق خيرية الأمة الإسلامية إذا أردنا تكثيفها هي:
1- الإيمان الذي هو الشرط في حفظ الأعمال من الإحباط.
2- والعمل الصالح الذي تندرج كل شُعبه وتكاليفه وفرائضه تحت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).
وجميع شروط هذه الخيرية وصفاتها ومؤهلاتها «مكتسبة»، وأبواب ميادينها مفتوحة أمام سائر عباد الله، وليست صفات «لصيقة»، ولا هي حكر على من يتسمَّون بأسماء المسلمين، ويدّعون أنهم مسلمون، ففارق بين أن يكون الناس مجرد مسلمين، وبين أن يكونوا الأمة الإسلامية التي هي خير أمة أُخرجت للناس، بل إن الآية: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم) فأبواب الخيرية مفتوحة أمام الجميع، وهي موصودة أمام الذين أوصدوها باختيارهم عندما كفروا بالتوحيد، وفرقوا بين الرسل، وكتبوا الكتاب بأيديهم ثم قالوا هو من عند الله، وعندما (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ {79})(المائدة).
وقفة ذكية
ولقد وقف الإمام محمد عبده وقفة ذكية أمام اختلاف المفسرين في معنى «من» في آية (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104}).
وهل معنى «من» هو «البيان»، فتكون الخيرية لكل الأمة وعامتها؟ وتكون فرائض الدعوة إلى الخير (الإسلام)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبة على كل آحاد الأمة؟
أم أن يعني «من» هو «التبعيض»، فتكون فريضة الدعوة إلى الخير (الإسلام) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة بفئة بعينها، هي «الأمة الخاصة»، التي تتكون من الصفوة والنخبة والقيادات التي تختارها - لهذه المهمة - الأمة العامة؟
لقد وقف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وقفة ذكية أمام هذا الاختلاف الشهير بين المفسرين لمعنى «من» في هذه الآية.. وانتهى بعد الشرح والتفصيل إلى الرأي الذي يجمع بين التفسيرين، فنحن بإزاء جماعة المسلمين أمام أمتين، أو أمة ذات مستويين:
1- المستوى العام للأمة العامة.. والدعوة إلى الخير (الإسلام) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلها كمثل الإيمان بالله فريضة على كل واحد من أفراد هذه الأمة، بحسب المقدرة والاستطاعة، والإمكانات التي لدى كل فرد من الأفراد.
2- والمستوى الخاص للأمة الخاصة، ذات المؤهلات الأعلى والقدرات الأكبر في النهوض بهذه الفريضة، واختيار هذه الأمة الخاصة وانتخابها وكذلك مراقبتها ومحاسبتها وتغييرها، لكن هناك فرائض واجبة على الأمة الإسلامية بالمعنى الشامل والعام.
وفي هذا التفسير الجامع يقول الأستاذ الإمام:
«وإذا كان فرد من أفراد المسلمين مكلفاً بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمقتضى الوجه الأول في تفسير الآية: (على أن «من» بيانية)، فإنهم مكلفون بمقتضى الوجه الثاني (على أن «من» للتبعيض)، أن يختاروا أمة منهم تقوم بهذا العمل لأجل أن تتقنه وتقدر على تنفيذه.. فإقامة هذه الأمة الخاصة فرض عين يجب على كل مكلف أن يشترك فيه مع الآخرين، ولا مشقة في هذا علينا، فإنه يتيسر لأهل كل قرية أن يجتمعوا ويختاروا واحداً منهم أو أكثر، أن يختاروا جماعة يصح أن يطلق عليهم لفظ الأمة، ويعملوا ما تعمله بالاتحاد والقوة ليتولوا إقامة هذه الفريضة فيها، كما يجب ذلك في كل مجتمع إسلامي، سواء كان في الحواضر أو البوادي، فإن معنى الأمة يدخل فيه معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم، حتى في إقامة هذه الفريضة عند تشعب الأعمال فيها، كأنهم شخص واحد.
قوة واتحاد
وهذه الأمة يدخل في عملها الأمور العامة التي من شأن الحكام، وأمور العلم وطرق إفادته ونشره، وتقرير الأحكام، وأمور العامة الشخصية، ويشترط فيها العلم بذلك، ولذلك جعلت أمة، وفي معنى الأمة القوة والاتحاد، وهذه الأمور لا تتم إلا بالقوة والاتحاد، وأعمال هذه الأمة لا تتم إلا بأمور كثيرة، منها:
1- العلم التام بما يدعون إليه.
2- والعلم بحال من توجه إليهم الدعوة.
3- ومناشئ علم التاريخ العام.
4- وعلم تقويم البلدان.
5- وعلم النفس.
6- وعلم الأخلاق.
7- وعلم السياسة.
8- والعلم بالفنون والعلوم.
9- ومعرفة الملل والنحل.
10- والعلم بلغات الأمم التي تراد دعوتها.
ثم إن كون الأمة الخاصة منتخبة من الأمة العامة يقتضي أن تكون للعامة رقابة وسيطرة على الخاصة، تحاسبها على تفريطها، ولا تعيد انتخاب من يقصر في عمله لمثله، فالأمة الصغرى المنتخبة (بفتح الخاء) تكون مسيطرة على أفراد الأمة الكبرى المنتخبة (بكسر الخاء)، وهذه تكون مسيطرة على الأمة الصغرى، وبهذا يكون المسلمون في تكافل وتضامن.. فهاهنا فريضتان:
إحداهما: على جميع المسلمين.
والثانية: على الأمة التي يختارونها للدعوة.
إرادة وعمل
ولا يفهم معنى هذا حق الفهم إلا بفهم معنى لفظ الأمة، وليس معناه «الجماعة» كما قيل، وإلا لما اختير هذا اللفظ.. والصواب أن الأمة أخص من الجماعة، فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم ووحدة يكونون بها كالأعضاء في بنية الشخص، والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه الأمة لهذا العمل هو أن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها، وإشعارها ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتى إذا رأوا منها خطأ أو انحرافاً أرجعوها إلى الصواب.
وقد كان المسلمون في الصدر الأول، لا سيما زمن أبي بكر (51 ق. هـ - 13هـ/ 573 - 634م) وعمر (40 ق هـ - 23 هـ/ 584 - 644م) على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالأعمال العامة، حتى كان الصعلوك من رعاة الإبل يأمر مثل عمر بن الخطاب، وهو أمير المؤمنين، وينهاه فيما يرى أنه الصواب.. فالخلفاء على نزاهتهم وفضلهم ليسوا بمعصومين، وقد صرح عمر بخطئه ورجع عن رأيه غير مرة...»(2).
وبهذا التفسير الجامع لمعاني حرف «من» - البيان والتبعيض - تكون أعباء الخيرية وتكاليفها، وكذلك ثمراتها وفضائلها عامة في الأمة الإسلامية، بالمعنى العام للأمة، وبالمعنى الخاص المتمثل في الصفوة والنخبة والريادات والقيادات، فلا تكون الخيرية حكراً على فريق دون غيره من الفرقاء.>
الهوامش:
(1) الإمام محمد عبده «الأعمال الكاملة» ج5، ص 45، 55، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة، طبعة دار الشروق، القاهرة سنة 1993م.
(2) المصدر السابق: ج5، ص 95، 56.
(3) المصدر السابق: ج5، ص45.
الآراء