لعله من نافلة القول إن تدشين الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة السداسية الدولية 5+1 (أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا زائد ألمانيا)، الذي تم توقيته بعناية ليتوافق مع ذكرى مغادرة الشاه لإيران يوم 16 كانون الثاني/يناير 1979، وليأتي أيضا فيما السجال محتدم داخل إيران حول من يحق له الترشيح للانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الخبراء، بما يشير إلى تأثيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية على إيران داخلياً، أي في جميع الأصعدة. وحتى قبل الخوض في تأثير سريان الاتفاق النووي على الإقتصاد الإيراني، وهو مفتاح كل الدهاليز المعقدة المؤدي إلى باقي تضاريس الرواق الإيراني المفعم بالحيوية والحراك، يبقى التأثير السياسي الذي يمكن للإتفاق أن يتركه على إيران والحراك السياسي والاجتماعي والتيارات السياسية المختلفة فيها، هو الطاغي هذه الأيام كونه عاملاً هاما جدا في التوازن السياسي في البلاد. وعشية هذه الانتخابات الحاسمة والتي وصفها رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام أكبر هاشمي رفسنجاني بالمصيرية (سرنوشت ساز)، تصطف التيارات السياسية في إيران على صفين رئيسيين يتوزع بينهما طيف واسع من الأجنحة والتيارات الفرعية وبعضها يناقض الصفين لكنها تتحالف أو تأتلف مرحلياً وهما: المعتدلون ومعهم بالطبع الاصلاحيون والليبراليون الإسلاميون والليبراليون العلمانيون، فيما يصطف في الجانب الآخر الاصوليون المتشددون المدعومون من الحرس الثوري وبيت المرشد والمؤسسة الدينية التقليدية، ورؤوس المتشددين في الجامعة الدينية. تعليق أم رفع؟ ولقد بات واضحا منذ الوهلة الأولى أن «تعليق العقوبات» وليس «رفع العقوبات» هو الذي يحكم الداخل الإيراني في تفسيره لما جرى، من واقع أن تدشين الاتفاق النووي، جاء ليدعم تيار المعتدلين وخصوصا الرئيس حسن روحاني، وأن بقاء الرئيس في منصبه وتخطيه ما يردده بعض خصومه باللجوء إلى «عبوره» أي إسقاطه بذرائع شتى، وفوزه أيضا بدورة ثانية في الانتخابات الرئاسية المقبلة لسنة 2019 ، هو شرط من الغرب غير مسجل في «صفقة النووي»، أشار إليها الاتفاق نفسه بإمكانية العودة مجددا إلى فرض العقوبات على إيران إذا تخلت عن تعهداتها، بما يعني إذا جاء المتشددون، ومن هنا يمكن تفسير إصرار واشنطن على فرض عقويات جديدة على إيران بسبب برنامجها الصاروخي بعد تجربة صاروخ عماد الباليستي، في رسالة دعم قوية لروحاني ولتيار المعتدلين قبل الانتخابات. فقد شهدت إيران أواخر العام الماضي ولأول مرة نقاشا بين مؤسسي النظام فيها حول تغيير الولي الفقيه دستوريا رغم أنها مادة مثبتة في صلاحيات مجلس الخبراء. وتفاوتت النقاشات حول من يخلف خامنئي من رجال الدين المعروفين في الحوزة العلمية بعد وفاته ولهذا ينتظر الاجتماع المقرر قريبا لمناقشة هذا الموضوع بعد الانتخابات، وهذا الأمر قد يضاعف المخاطر التي سيواجهها النظام مستقبلا. فالرئيس حسن روحاني حذر من إنقلاب داخلي في مجلس خبراء القيادة بسبب اقصاءات مجلس صيانة الدستور، وقال مع وزير خارجيته محمد جواد ظريف إن العقوبات يمكنها أن تفرض من جديد. ما يعني أن روحاني قد يتحرك في دائرة العقوبات مجددا، خصوصا وان روحاني حذر أيضا من ان البلاد تواجه خطرا كبيرا فيما يتعلق بالنقاشات الدائرة حول انتخابات مجلس خبراء قيادة الثورة، بشكل قد يعيد شبح العقوبات الدولية على إيران ما بين 6 إلى عشر سنوات مقبلة من جديد. المعتدلون ويبدو للوهلة الأولى أن تطبيق الاتفاق وحتى المفاوضات وطريقة إدارتها، رجحت حتى الآن كفة المعتدلين والإصلاحيين المقموعين بشدة، والذين تم منع الكثير من مرشحيهم (حتى الآن) من خوض الانتخابات المقبلة بالرغم من وجود مخاوف «غير مبررة إطلاقاً» من أن عودة الأرصدة المالية المجمدة المفرج عنها، ستعزز سطوة الأصوليين المتشددين، وستتيح للأجهزة الأمنية المتمثلة بالحرس الثوري والباسيج من بسط سيطرتها على الأمور. وتوقعت صحيفة «شرق» أن الاتفاق النووي يرجح كفة المعتدلين والإصلاحيين خصوصا وأنهم هم من دعموا روحاني في حملته الانتخابية وكانوا من المطالبين بإغلاق ملف العقوبات الدولية. إلا أنه قد يكون مبكرا أن نشهد تغييرا ملحوظا رغم أن الأحداث التي شهدتها إيران خلال الأشهر الماضية منذ التوصل للإتفاق النووي مع المجتمع الدولي أظهرت مدى تفوق التيارات المعتدلة وترجيح الكفة لصالحهم. ويؤكد تقرير نشره مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني) مؤخرا، وكذلك الأحداث الهامشية التي شهدتها إيران في الآونة الأخيرة وتحركات غلاة المحافظين والأصوليين المتشددين المعارضين للإتفاق، أن نفوذ المتشددين آخذ بالانحسار، ولم يعد لهم الوزن ذاته الذي كانوا يتمتعون به قبل وصول روحاني لسدة الرئاسة في اب/أغسطس 2013 . ويمكن ملاحظة بعجالة وحتى مع إستمرار هيمنة المتشددين المغالين في التشدد على مجلس صيانة الدستور والقضاء والبرلمان، حصول إنهيار في جدار المتشددين دفعهم إلى التصرف بعصبية، ومنع نحو ثلاثين محافظا للمحافظات الإيرانية من الترشح إلى الانتخابات، وإقصاء معظم المتقدمين لخوض الانتخابات والابقاء على نحو الثلث فقط، وقد شمل الاقصاء إصوليين أيضا ما يعني أن التشتت والارتباك هما سيدا الموقف في صفوف المتشددين وأنصارهم وكان واضحا منذ البداية. مفاجأة صادمة فالأصوليون المتشددون لم يضعوا في حسبانهم توصل حكومة روحاني والدبلوماسية الخارجية المتمثلة بوزير خارجيته محمد جواد ظريف لاتفاق نووي مرض على الأقل للشارع الإيراني. فهم تفاجأوا وصعقوا من الاتفاق منذ الأيام الأولى، وهذا ما دفعهم شيئا فشيئا للعزلة التامة لفترة ما، تماما مثل ما حدث أثناء الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في صيف 2013 التي فاز فيها الرئيس الحالي حسن روحاني، فتوصل إيران للإتفاق النووي مع مجموعة 1+5 كان وقعه أثقل بكثير من خسارتهم في الانتخابات الرئاسية،لأن الترحيب الذي لاقاه الاتفاق بين جيل الشباب الإيراني المتعلم صدم المتشددين. إلا أنه ومع مرور الوقت وانحسار اندفاع الشارع مع فرحة الاتفاق النووي، بدأ الاصوليون في إعادة ترتيب صفوفهم بحشد طاقاتهم وفتحوا جبهة جديدة معلنة ضد الاتفاق النووي. أول ظهور لهذه التحركات ظهرت تزامنا مع تدفق الوفود الاقتصادية والدبلوماسية للدول الغربية التي أظهرت رغبة جامحة بفتح صفحة جديدة مع إيران جديد، فقد كانت «حفلات» الاعدام لتجار المخدرات والمدانين بالقصاص وجرائم القتل المتسلسلة، وبعض المتهمين بتفجيرات أمنية، تنفذ ويعلن عنها رغم معارضة الرئيس لاحراجه!. فبعد أكثر من عقد من الزمن شهدت فيه علاقات إيران السياسية والاقتصادية مع الغرب بروداً، ها هو الشعب الإيراني بمختلف أطيافه الشعبية والسياسية يرحب بالاتفاق الذي حرك ماكينة الاقتصاد والصناعة الإيرانية نحو الأمام محطمة بذلك الجمود ومعيدة الأمل للشارع الإيراني. ولم يكن هذا الشارع الإيراني وحده ، من رحب بالاتفاق، فالرأي العام الدولي الذي يرفض استخدام الخيار العسكري مع إيران لحل أزمتها النووية، دعم الاتفاق النووي، وقد صدم ذلك أكثر المتشددين في إيران الذين كانوا يبحثون بالأساس عن عدو خارجي يعلقون على شماعته فشلهم المستمر، خصوصاً الغرب وبالأخص «الشيطان الأكبر» الولايات المتحدة. جبهة المعارضة واحدة كشف تدشين الاتفاق النووي أن متشددي الاصوليين شعروا بخيبة أمل كبيرة من نجاح فريق روحاني، وهم كانوا سببا في فرض العقوبات على إيران خلال فترة قيادتهم المفاوضات الماراثونية بعد آب/أغسطس 2005 عندما قام الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بإزالة الأختام عن منشآت تخصيب اليورانيوم التي وضعت في تفاهم تم في عهد الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي العام 2003، ولهذا تم استبعادهم عن المفاوضات بعد مجيء روحاني الذي أبقى في فريقه على مهنيين وإن كانوا من التيار الاصولي، بل واستطاع توظيف خبراتهم لصالح هدفه نحو حل الأزمة النووية. مزايدات كانت المفارقة أنه تم لأول مرة مساءلة وإستجواب فريق المفاوضين النوويين إبان تولي الرئيس روحاني سواء في البرلمان أو عبر إثارة الرأي العام الداخلي، بينما وخلال السنوات الست من قيادة سعيد جليلي لفريق المفاوضين النوويين وهو المحسوب على متشددي الاصوليين، لم تجر مساءلته رغم جميع الإنتقادات التي كانت توجه إليه في طريقة تعامله مع الملف النووي. وكان الموقف الذي تبنته كتلة التيار الاصولي في مجلس الشورى الإسلامي من المفاوضات النووية وإصرارهم على مساءلة فريق المفاوضين وإستجوابهم، مختلفا تماماً عن موقفهم في فترة أحمدي نجاد. فمنذ تولي أحمدي نجاد إلى حين إنتهاء فترة الرئاسية في 2013 لم يتم طرح أي تساؤلات جدية لأي من أعضاء فريق المفاوضين أو حكومته آنذلك، رغم زعمهم المستمر بأنهم ينشدون الدفاع عن المصالح القومية ومبادئ الثورة الإسلامية وأنهم أشد حرصا من غيرهم على مصالح الشعب. بعد التوصل للإتفاق النووي مباشرة، تجمع ما يقارب من 150 طالبا جامعيا أمام مجلس الشورى الإسلامي في طهران وأقاموا هناك مخيم إحتجاج على الاتفاق النووي، من دون أن يحصلوا حتى على تصريح من الجهات المختصة. ولاقت تلك التحركات المعترضة، تغطية إعلامية واسعة عن طريق عدد كبير من الصحف والمواقع الأصولية وأخرى تابعة للحرس الثوري والباسيج . وهذا كله لم يلفت إنتباه الشارع الإيراني الذي يميل بطبيعته للمعتدلين. ورغم ذلك فشل الاصوليون المتشددون في حشد الرأي العام إلى جانبهم، وأثر ذلك إلى حد كبير على توازن القوى وترجيح كفة المطالبين بإقامة علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي بعيداً عن التوترات والصدامات. فشل المتشدد فشل المتشددون الأصوليون في وضع موانع وعقبات أمام تقدم الحكومة نحو الإنفتاح الذي ينشده المواطن الإيراني، من شأنه تحسين الأوضاع الاقتصادية، وكان لافتا أنهم فشلوا أيضا في جر الشارع الإيراني إلى مواجهة مع الحكومة بمحاولة إستغلال حادثة التدافع في منى أثناء مراسم الحج عندما هاجموا الحكومة منذ الوهلة الأولى التي وردت فيها أنباء وقوعها. عموماً.. لا يزال التيار الأصولي عدا بعض رموزه المعتدلين مثل رئيس البرلمان علي أكبر لاريجاني، يجد صعوبة في تقبل توصل الحكومة للاتفاق النووي، والذي سيحد من نفوذ هذا التيار في المجتمع الإيراني وفي الأوساط السياسية في الداخل، وهذا ما يخشى منه الأصوليون، خصوصا وأن الجو العام في الشارع الإيراني والمجتمع الدولي يتجه كما يبدو، نحو محاربة كافة أنواع التطرف، في ظل الظروف العالمية والإقليمية خصوصاً في منطقتنا. نجاح محمد علي