صابر گل عنبری بعد التطورات المفاجئة التي شهدتها شبه الجزيرة الكورية خلال الفترة الماضية، والتي توّجت باللقاء التاريخي الذي جمع بين الزعيمين الأمريكي والكوري الشمالي، اتجهت الأنظار نحو إيران ومصير الاتفاق النووي الموقع معها في يوليو 2015. فهناك من حذر من مصير مماثل لأي اتفاق ثنائي أو متعدد الأطراف تشكل واشنطن أحد أطرافه بعد انسحابها من اتفاقيات دولية مثل اتفاق باريس للمناخ وكذلك الصفقة النووية مع طهران، وأيضا هناك من تحدث عن احتمال تكرار التجربة نفسها مع إيران، والوصول إلى نتيجة متشابهة تنهي الخلافات والعداء بينهما. قبل الخوض في غمار الموضوع لابد من التأكيد أن ما سهّل التفاهمات الحاصلة بين الأمريكيين والكوريين الشماليين، هو التشابه الكبير بين شخصيتي دونالد ترامب وكيم جونغ أون، حيث كلاهما يتمتعان بشخصية نرجسية بنكهة ديكتاتورية جعلتهما يفهمان لغة وفكر بعضهما البعض ما ساهم في التوصل إلى تلك التفاهمات. فبعد أن نشبت الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا لم تشهد الإدارة الأمريكية رئيسا مثل ترامب مقرّب إلى عائلة "كيم" الحاكمة بفكره وشخصيته. ثمة أوجه الاختلاف والتشابه بين الملفين الإيراني والكوري الشمالي. نقاط الاشتراك زهيدة لا تتجاوز أمرين، الأول وجود عدو واحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية والثاني وجود قضية نووية، أما الفوارق كثيرة تطغى على الاشتراكات، وهي تجعل من الصعب بمكان أن تتكرر نفس التجربة والنتيجة مع إيران. أما أوجه الاختلاف والفوارق هي: 1ـ طبيعة مختلفة للأزمتين، حيث أن الأزمة مع كوريا الشمالية تختزل في قضية واحدة وهي برنامجها النووي، إن تم التوصل إلى حل نهائي بشأنه، تنتهي هذه الأزمة برمتها، سواء في شبه الجزيرة الكورية أو مع الولايات المتحدة الأمريكية، أما الأزمة مع إيران معقدة ومتداخلة مع أزمات إقليمية أخرى، ولها ملفات وأبعاد كثيرة ولا تقتصر على الملف النووي فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى الملفين الصاروخي والإقليمي. لذلك الاتفاق على القضية النووية، لم ينه الأزمة مع إيران، وانفرط عقده لأنه لم يغطي بقية الملفات. 2ـ يوجد متغير إقليمي هام في ما يخص كل ما يرتبط بإيران، وهو الكيان الإسرائيلي الذي يحتل حيزا كبيرا وأساسيا في جميع الملفات المثارة مع طهران، بينما مثل هذا المتغير لا يوجد في شبه الجزيرة الكورية. بسبب موقف إيران العدائي من هذا الكيان، يظل الأخير حاضرا في جميع هذه الملفات سواء النووي، أو الإقليمي، أو الصاروخي. ثم أن الرئيس الأمريكي ترامب يستمع جيدا إلى النصائح الإسرائيلية في كلما يخص الملف الإيراني بكل تشعباته، ساعيا إلى استرضاء اليمين الإسرائيلي. 3ـ أوراق قوة بيونغ يانغ لا تقارن بما تمتلكها طهران، حيث أن الأولى تمتلك ورقة واحدة متمثلة في القدرة النووية التي قبل كيم جونغ أون التنازل عنها مقابل ضمانات أمنية، واقتصادية وتطبيع العلاقات مع واشنطن. أما أوراق إيران لا تقتصر على البرنامج النووي وإن كان أقل تطورا من مثيله الكوري الشمالي، وإنما تتعدى ذلك إلى العلاقات الخارجية، والموقع الجيواستراتيجي، والامتدادات والأوراق الإقليمية. فبينما إيران لها نفوذ إقليمي واسع في المنطقة المحيطة بها، ولها أذرع إقليمية، الدور أو النفوذ الإقليمي لكوريا الشمالية في شرق آسيا شبه معدوم ويكاد يذكر. 4ـ الحل الذي تبنته واشنطن لمعالجة الأزمة مع كوريا الشمالية وقبلت به الأخيرة، ارتكز على تدمير مكتسباتها النووية، وما تقترحه الإدارة الأمريكية على طهران وجاء على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو في "إستراتيجية ما بعد الاتفاق النووي" يشبه هذا الحل تماما، حيث تسعى هذه الإدارة إلى تصفير جميع مكتسبات إيران نوويا، وإقليميا، وصاروخيا، ها ما رفضته طهران. 5ـ لا مجال للمقارنة بين العلاقات الخارجية للبلدين، إذ أن علاقات كوريا الشمالية مع الخارج كانت شبه معدومة ما عدى مع روسيا والصين ودول أخرى، ما جعل بيونغ يانغ تعيش عزلة تامة خلال عقود كاملة، أما إيران وبالرغم من أنها عاشت العزلة الدولية في فترات زمنية وعلاقاتها متأزمة مع محيطها العربي والغرب، لها علاقاتها وروابطها الخارجية، ما تعطيها هامش المناورة. التفاهمات أو الاتفاق المبدئي بين واشنطن وبيونغ يانغ لا ترتكز إلى أسس متينة مثل الاتفاق النووي الذي استند إلى قرار دولي من مجلس الأمن، وكان له جدول زمني محدد، وتفاصيل معروفة، مع ذلك أسباب كثيرة قد تحول دون أن تلقى هذه التفاهمات مصير الاتفاق النووي. أهم تلك العوامل هي: أولا، الرئيس ترامب يريد أن يصنع من نفسه رئيسا أسطوريا وفذا يدخل التاريخ العالمي، وهو يريد أن يحقق هذا الهدف عبر تسوية ثلاثة ملفات عالمية رئيسة من منطلق القوة وحلول أحادية الجانب، أي الملف الفلسطيني، والملف الكوري الشمالي، والملف الإيراني. دشّن هذه المرحلة من البوابة الكورية، لذلك من غير المرجح أن يخل ترامب بها ويعرقلها من خلال نقض ما توصل إليه مع الزعيم الكوري الشمالي. ثانيا، من أهم الأسباب التي دفعت ترامب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، أن هذا الاتفاق ارتبط ارتباطا وثيقا بالرئيس أوباما الذي يكنّ له ترامب كل العداء، ويسعى إلى تدمير إرثه بكل معالمه، أما فيما يتعلق بالصفقة مع كيم جونغ أون والتي ترتبط بسمعته النرجسية، من المستبعد أن يقدم على شيء مماثل. ثالثا، رجل الأعمال دونالد ترامب يطمح لغزو أسواق بيونغ يانغ من جهة، والزعيم الشاب لكوريا الشمالية يريد إنهاء عزلة بلاده، وبناء اقتصاده من جهة أخرى، ما يشكل دافعا قويا لدى الرجلين للحفاظ على ما يتوصلان إليه. رابعا، تطبيع العلاقات الأمريكية الكورية الشمالية جزء من التفاهمات الحاصلة بين البلدين، وذلك من شأنه إلى جانب بقية العوامل آنفة الذكر أن يضمن مستقبل هذه التفاهمات، أما التطبيع بين طهران وواشنطن لم يكن جزء من الصفقة النووية، ولم يعقبها أيضا، أي أن الأزمة بين البلدين ظلت قائمة وقابلة للانفجار والتصعيد في أي لحظة. في المجمل أن استنساخ التجربة مع كوريا الشمالية ليس مغريا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب فحسب، بل لناشطين إيرانيين أيضا، الذين بعثوا رسالة إلى المسؤولين مطالبين فيها بفتح باب التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية وعدم تفويت "الفرصة السانحة" حسب قولهم. أما هذا الاستنساخ ليس سهلا إن لم يكن غير ممكن، لتعقيدات وتشعبات الأزمة مع إيران، ذُكر بعضها، ثم أن صناع القرار الإيرانيين ليسوا مستعدين لتقديم التنازلات التي يطلبها الرئيس ترامب الذي أرسل إشارات إلى طهران للتفاوض مباشرة معها، وأنه من غير المرجح أن يقبل بنتائج الحوار الإيراني الأوروبي حتى لو حققت جميع المطالب الأمريكية، مادامت إدارة ترامب ليست طرفا في هذا الحوار. دوائر صنع القرار الإيراني التي رد بشكل حاد للغاية على رسالة نخب إيرانيين، ترى أن الدخول في هذا المسار ليس لصالح إيران، ويمثل بداية النهاية للثورة ومبادئها، حيث يؤسس لخط تنازلي وتراجعي يبدأ بتغيير السياسة الخارجية الإيرانية بما يفتح الباب للاعتراف بالكيان الإسرائيلي مستقبلا، ويسحب منها أوراقها الإقليمية رويدا رويدا، إلى أن يصل الأمر إلى تغيير النظام الإيراني نفسه حسب اعتقادهم.
الآراء