تطوع البعض للدفاع عن بعض الدعاة المشهورين والذين لاذوا بالصمت الآن وآثروا العافية، بعد أن ملؤوا الدنيا ضجيجا ونقدا باسم النصيحة للرئيس الشرعى المختطف، علانية دون مواربة، وأوهموا الناس أن هذه شجاعة العلماء وأن هذا من صدعهم بقولة الحق التى لا بد من إسماعها لولاة الأمر، أما الآن فلا نسمع لهم همسا؛ لأن ممارسة الشجاعة فى قاموسهم مرهونة بعدم الإيذاء.
أقول: تعلل البعض لسكوتهم وتجنبهم الخوض فى التعليق على الأحداث والتصريح بالرأى فيما هو ماثل فى الواقع المصرى، فشبهوا موقفهم بموقف كرام الصحابة أمثال محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، الذين لم يخرجوا فى القتال الذى دار بين سيدنا على وسيدنا معاوية بعد مقتل سيدنا عثمان رضى الله عنهم جميعا، وآثروا عدم المشاركة.
لقد أبى هؤلاء إلا أن يفتنوا الناس بين الحين والآخر بشبهات وترهات، فجعلوا من مشايخهم آلهة لا تُنتقد ولا تُنصح ولا تخطئ ولا تُقوَّم ولا يُنكر عليها.. وعندهم رد جاهز لكل موقف من مواقف مشايخهم، وتأويل حاضر لكل مسلك، فإذا تكلموا فهو صدع بالحق، وإن سكتوا فهو عين الحكمة، وإن برروا فهو من محاسن التأويل، وإن خذلوا الأمة فى مواطن تحتاج فيها إلى مواقف الرجال فهم حريصون على وحدة المسلمين.
ونسوا أن للإمامة تبعة وضريبة، وغفلوا عن الحكمة التربوية فى شأن القدوات المتصدرين التى تقول: إمامى أمامى.
كنت وما زلت مقتنعا بقول الشيخ محمد عبد الله دراز فى مقدمة تحقيقه للموافقات للشاطبى: "ليست الشهرة دليل فضل، وليس عدمها دليل نقص، فكم من صالح استتر وكم من عاطل ظهر".
إن المحن كاشفات، والابتلاءات ممحصات، ويأبى بعض المشاهير من الدعاة إلا أن يصدروا لنا ضعفهم عن قول الحق باسم الإسلام، باحثين عن كل شارد وشاذ من أشباه الأدلة للتدليل على سلامة موقفهم، وشرعية مسلكهم، طارحين المحكمات والقاطعات من الأدلة، مزينين مواقفهم الخانعة باسم الفقه، مغلفين أراجيفهم باسم الحكمة، موصفين خنوعهم للمستبد باسم الابتعاد عن الفتن، داعين إلى تمكين المنقلب والسير فى ركابه باسم الاستقرار.
للأسف بعض المشاهير يفضلون الإسلام الذى لا شوكة فيه، وكان ارتباطهم بالدعوة على أن يكونوا وجهاء باسمها، وأن يتصدروا المجالس بالانتساب لها، وأن يتسنموا سدة الصدارة فى الرخاء بالتمسك بها.
إنهم يريدون إسلاما لا شوكة فيه، لا يحسنون السير إلا فى الطرق المعبدة، فإذا ما قابلتهم عثرة فى الطريق ليُختبر صدق دعواهم تنكبوا الطريق ورجعوا للخلف دُر كما يقال فى طوابير التدريب.
لا يعرفون من الجهاد إلا جهاد الحج والعمرة، وهو جهاد الكبير والضعيف والمرأة، كما ورد فى صحيح السنة.
فقد روى النسائى وأحمد من حديث أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة: الحج، والعمرة " حسنه الألبانى.
وقد روى الطبرانى فى المعجم الكبير عن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني جبان، وإني ضعيف. قال: «هلم إلى جهاد لا شوكة فيه، الحج» صححه الألبانى فى صحيح الجامع الصغير، وفى إرواء الغليل فى تخريج أحاديث منار السبيل.
وفى الحج والعمرة عند هؤلاء مناسبة دينية طيبة لإظهار العلم، ووسيلة للظهور على الشاشات، وفرصة لإظهار التدين والالتزام بالسنن، ومناسبة للإكثار من الأتباع والأشياع.
وقد جاءنا من خبر الدعوات أنها لا تقوم على الرخص أو الضعف أو الجبن أو إيثار النفس بدل بذلها لله ولدينه.
لقد ولَّى زمان الوجاهة باسم الدعوة، ولو أن واحدا من هؤلاء وقف لله موقفا حاسما، ورفض الانقلاب، ووفى ببيعته للرئيس الشرعى المنتخب، وانحاز إلى إرادة الأغلبية من الشعب، وصدع بالحق، ثم اعتقل عدة شهور أو أعوام أو نُفى خارج البلاد أو حتى قُتل فى سبيل الله شهيدا وهو يمارس أفضل الجهاد كلمة حق عند منقلب جائر.. لو أنه فعل ذلك لكان أبلغ تأثيرا فى الأمة من عشرات الخطب ومئات المحاضرات والدروس والمقالات التى صدعوا رؤوسنا بها خلال الأعوام الغابرة. والحكمة تقول: "عمل رجل فى ألف رجل خير من كلام ألف رجل فى رجل".
إن الذين يلتمسون الأعذار لمشايخ خذلوا الأمة فى مواطن النصرة بحجة أن ما نحن فيه فتنة وأنهم يقتدون ببعض الصحابة الذين اعتزلوا القتال الدائر بين على ومعاوية أقول لهم: هذا المسلك يكون متوجها إذا كان الأمر غير بين، وكانت المسألة اجتهادية ملتبسة كما كان الحال بين الصحابة بعد مقتل سيدنا عثمان، ولا يستطيع المسلم أن يميز الطائفة الباغية، وهذا ما قاله ابن بطال فى شرحه لصحيح البخارى فيما إذا اختلفت طائفتان على التأويل فى الدين، ولم يتبين البغى من أحدهما – ففى هذه الحالة - يجبُ القعود عنهما وملازمة البيوت، ولهذا تخلف محمد بن مسلمة، وسعد بن أبى وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وحذيفة وجماعة عن تلك المشاهد؛ لأنه لم يتبين لهم ما قام فيه المقتتلون، وأخذوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "تكون فتن القاعد فيها خير من القائم".
فهل ما نحن فيه فتنة؟ وهل ما تراه الأعين قتالا بين طرفين يمتلكون سلاحا؟ أم أن هناك قاتلا مسلحا فى طرف ومقتولا أعزل فى طرف آخر؟ وهل ما زال البعض لديه عذر فى القعود عن نصرة المظلوم ودفع القاتل الظالم بقدر ما يستطيع؟ وهل يستوى الانقلاب والشرعية؟ وهل أنصار الشرعية وأتباع الانقلاب فى صراعهما اليوم مثل المسلمين من أتباع على ومعاوية رضى الله عنهم جميعا فى صراعهم بالأمس؟ وهل القضية الدائرة اليوم بين الانقلاب وأذنابه من جانب والشرعية وأنصارها من جانب آخر محل اجتهاد لا يستبين الناس فيها وجه الحق، فيسع بعضهم الوقوف مع الانقلاب ويسع البعض الآخر الانضمام لمعسكر الشرعية، بينما يسع فريق ثالث اعتزال المشهد كما وسع الصحابة فى زمانهم إزاء ما وقع بين معاوية وعلى رضى الله عن الجميع؟!
الأمر هنا مختلف لأن الطائفة الباغية واضحة وضوح الشمس فى رابعة النهار ..
وليس يصح فى الأذهان شىء ... إذا احتاج النهار إلى دليل.
ولذلك قال ابن بطال: "فأما إذا ظهر البغى فى إحدى الطائفتين لم يحل لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية لقوله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [سورة الحجرات: 9]، ولو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغى لبطلت فريضة الله تعالى".
قال ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى شرح صحيح البخارى: "ذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين".
وقد رد الطبري على مروجى دعوى الاعتزال فى وقت الجد فقال: "لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف، لما أقيم حد ولا أبطل باطل ولوجد أهل الفسوق سبيلا إلى ارتكاب المحرمات من أخذ الأموال وسفك الدماء وسبي الحريم بأن يحاربوهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا: هذه فتنة وقد نهينا عن القتال فيها وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء".
ومع ذلك لم نقل قتالا بل فقط التأييد بالكلمة، النصرة بالموقف، لأن الاحتجاجات سلمية، ولأن الشعب الذى يواجه آلة القمع العسكرية بصدره العارى قال كلمته واتخذ قراره الاستراتيجى لثورته قائلا: سلميتنا أقوى من الرصاص.
إن الأمر أوضح من أن يكون موضع اجتهاد والتباس.
أما إن كانت هذه الرموز الدعوية ضعفت عن نصرة الحق والوقوف مع المظلوم، فعلى الأقل لا تصفق للباطل أو تؤيده، ولا تظهر فى صورة معه، ولا تذهب إلى المشاركة فى أية مناسبة تضفى عليه شرعية أو تقوى موقفه، وكذلك يجب عليها أن تسارع إلى نفى ما قد يشاع عن تأييدها لصاحب الباطل، ولا يسعها فى هذه الحال السكوت.
هذه زكاة العلم والتصدر للمجالس، وضريبة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فليس التصدر للمجالس فى أدبيات الدعوة مجالا للوجاهة والمباهاة فى وقت الرخاء.
يا ليتنا نراكم اليوم فى صفوف المظلومين المقهورين وليس غدا، فتكثروا سواد العلماء العاملين وتختصروا طريق التضحيات على الشعب الذى سالت دماؤه أنهارا، وتبعثوا الهمة فى أتباع لكم فتنوا بصمتكم فركنوا كما ركنتم، ولاذوا بالصمت والتقوقع كما لذتم، وتركوا إخوانهم فريسة للقاتل المستبد ليفتك بهم، واكتفوا بالمشاهدة والفرجة ريثما يؤول الأمر والغلبة لأحدهما ثم يحددون مسلكهم.
أما من اعتبروا ما نحن فيه فتنة فأقول:
من معانى الفتنة فى لغة العرب الاضطراب وبلبلة الأفكار، وهى الحالات التى لا يتبين فيها الحق من الباطل، حالات الالتباس والاختلاط.. الحالات التى تحار فيها العقول ويلتبس عليها الأمر ويشتبه فلا تهتدى لوجه الحق فيه.
فهل ما نحن فيه من هذا القبيل؟ هل يستوى القاتل والمقتول؟ هل يستوى الظالم والمظلوم؟ هل يستوى من يدافع عن الحق بصدره العارى وحنجرته الصوتية مع من يسكت صوته إلى الأبد بمدفعه؟ هل يستوى من يمسك لافتة ليعبر عن رأيه مع من يقابله بطلقاته النارية؟ هل يستوى من يعظم حرمة الدماء مع من لا يبالى بالحياة والأحياء؟ هل من يسفك الدم المحرم يحتار الإنسان أين يضعه أفى صفوف المظلومين أم الظالمين؟ هل من يغتصب النساء والبنات يحار العقل فى تصنيفه؟ هل من يقمع إرادة الشعب بالقوة العسكرية لا يهتدى الإنسان فى توصيفه؟ هل من يحتكم إلى القوة لمواجهة العزل لا يعرف من لديه بقايا عقل أو دين من يكون؟ هل من يعتدى على إرادة الجماهير ويهدر رأيها وكلمتها عبر الصناديق محتكما إلى القوة مازال محل خلاف أهو محق أم مبطل عند البعض؟ هل ما زال البعض يرى هذا اضطرابا وبلبلة وأمرا محيرا تحار فيه العقول؟ (فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46].
عجبت لكم!! ابحثوا لكم عن مهرب آخر تبيضون به وجوهكم غير دعوى الفتنة.. ابحثوا لكم عن لعبة أخرى تلعبون بها غير اللعب باسم الدين.. كونوا صرحاء ولا تحملوا الإسلام جناية ضعفكم الشخصى، وتصدروه لنا على أنه رأى الدين.
الآراء