هناك ذنوب وجرائم تصيب الذريَّات والأعقاب وتتنزَّل وكأنَّها أمراض جينيَّة، بحيث تصل إلى أجيال ما كان يتوقع أن تصل إليها، وقد قال (جل شأنه) في آكل الربا: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا﴾ (النساء:9)، فإذا كنت خائفًا على ذريتك أن تصاب بالفقر والعذاب والخوف والمعاناة والتشرُّد والسقوط في الحرام؛ فاتق الله أنت في نفسك، وقف عند حدوده، ولا تتعدى تلك الحدود، فإنَّك إن تعديتها أورثت ذراريك وأحفادك وإن نزلوا أمراضًا ما كنت تتوقع أو تظن أنَّها سوف تنزل إليهم.

كثير من الناس يستهترون في هذه الأمور، ويرون أنَّ ذنوبهم لا تصيب سواهم، وأنَّهم سيحاسبون وحدهم عليها، ولكن التاريخ مشحون بأخبار أقوام أكلوا أموال الناس بالظلم وبالربا واعتدوا على أعراضهم؛ فدفعوا ثمن ذلك من أعراض أنفسهم وأموال ذرياتهم، وأحاقت مظالمهم بأبنائهم وأحفادهم؛ ولذلك جاء في الأثر: "من خاف على عقبه وعقب عقبه؛ فليتق الله"، وقد ابتلي الناس في مختلف أدوار التاريخ بأشخاص قساة، ذوي جرأة على الظلم، وإقدام على الاعتداء، ظلموا غيرهم، وعتوا عن أمر ربهم، وأبادوا أممًا أخرى، ونكلوا بها، واستأصلوا شأفة أمم وأبادوها؛ فكانت عاقبتهم البوار، وقال (جل شأنه) في مثل هؤلاء: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:45).

لم يكن العذاب والتعذيب ممارسًا في صدر الإسلام، ولقد أوقف رسول الرحمة ونبي المرحمة من أرسله الله رحمة للعالمين كل تلك الأشكال، ومنذ أربعين عامًا عقد مؤتمر طريف بإشراف وزارة العدل في المملكة العربيَّة السعوديَّة، كان المؤتمر عن حقوق المتهم، فاخترت الكتابة في أهم محور من محاوره وهو: "حقوق المتهم في مرحلة التحقيق"، وقدمته لهيئة المؤتمر؛ فرحبت به وقبلته، دون قراءة على ما يبدو؛ لأنَّني كنت ـ آنذاك ـ أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة، وبدأ المؤتمر وألقيت بحثي فيه، وقامت قيامة فريقين من الحضور، في مقدمتهم رجال التحقيق، وضبَّاط الشرطة، والقضاة، وكادوا يسطون بي، ويفتكون بي لولا لطف الله (تعالى)، فقد كان الاتجاه السائد ـ آنذاك ـ لدى بعض المحققين والقضاة أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أباح مس المتهم بالشدة وتعذيبه إذا ظن القاضي أو وكيل النيابة أنَّه يخفي شيئًا لم يصرح به، وقد يدينه، واستدلوا على ذلك بحديث هو من جملة الأحاديث المرويَّة في غزوة خيبر، ففي تلك الغزوة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف أن حُيي بن أخطب اليهودي كان بمثابة وزير مالية لخيبر واليهود، يحفظ أموالهم ويدبرها، ويقترح عليهم سياساتهم الماليَّة التي من شأنها أن تنمي أموالهم.

 ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أنَّه عندما غزى خيبر أنَّ أموال يهود قد أودعت غالبيَّتها عند حيي بن أخطب، وحين فتح الله عليه خيبر طلب من الصحابة أن يبحثوا عن حيي ويأتوا به، ولما جاؤوا به ووقف بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: يا حيي أين المال الذي لديك؟ قال: يا أبا القاسم أهلكته النفقة ـ أي صرفته كله ـ ولم يعد عندنا مال، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف، والعهد قريب والمال وفير؟ ثم يقول الحديث أنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) غمز علي والزبير ـ وما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غمَّازًا ولا لمــَّازًا ـ كأنَّه أشار إليهما أن يأخذوه إلى مقبرة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد علم أنَّ حيي قد أخفى المال فيها، ويهددونه أو يمسونه بالشده ـ أي يعذبونه ـ حتى يقر ويعترف ويسلم لهم المال.

إنَّ في الحديث مشكلات حديثيَّة في المتن وفي السند، لا تجعله مما يمكن الاستدلال به على هذا الأمر المرفوض جنسه ونوعه بآيات صريحة وأحاديث صحيحة، وبيَّنت بعض ما كنت أراه علة في ذلك الحديث في سنده ومتنه، ولكن لأنَّ الحديث قد أورده ابن القيم في الطرق الحكميَّة فقد تشبث القوم به، واعتبروا مجرد ذكره في كتاب ابن القيم تزكية له وتوثيقًا كفيلًا بإزالة سائر ما ادعي من علل فيه.

المهم، أنَّني ناقشت هذا الحديث، وبيَّنت أنَّه حتى لو صح فإنَّه لا يبيح التعذيب للمسلمين من قبل جهات التحقيق المسلمة؛ لأنَّ حيي ابن أخطب كان يهودي وخيبر كانت في حالة حرب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا صح أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أذن بمس حيي بالشدة حتى يعترف فلا ينبغي أن يعمم ذلك على المسلمين، ويحوَّل التعذيب إلى سنَّة من السنن، وكيف يأمر بالتعذيب من نزل عليه قوله تعالى: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية:22)، ﴿.. وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ..﴾ (ق:45)، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ..﴾ (البقرة:256)، ﴿.. أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:99)، ﴿.. أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود:28)، إلى آخر الآيات.

ما إن ذكرت ذلك وأوضحته إلا وصدرت أصوات من مختلف أنحاء القاعة تحاول إسكاتي، كانت كلها أصوات قضاة ومحققين، ولم يفت بعض هؤلاء أن يتجاوز حدود الأدب معي، ليسمعني عبارات: من أنت حتى ترفض هذا الحديث؟ وكيف ترفض ما وثقه ابن القيم؟ ووو إلى آخر هذا النوع من الإسفاف.

المهم، رفع أحدهم يديه بالدعاء عليَّ، فقال: أرجو الله أن يبتليك بالقضاء؛ لتعلم أنَّ القاضي الذي يأذن بتعذيب متهم لا يعذب المتهم بل يعذب القاضي نفسه معه، فالمتهم بإصراره على الإنكار قد يحرم القاضي أو المحقق من نومه، ويجعله يبيت ساهرًا معه في سجنه يحاوره ويداوره لعل كلمة تفلت منه.

وأنوي أن أعيد نشر بحثي هذا في وقت قريب، فنشره لعله يكون مفيدًا لبعض الناس ويكون فيه من الدفاع عن الإسلام وقيمه في العدل والحرية والمساواة بين الناس.

يا قومنا: إنَّ من يحذركم وينهاكم عن تعذيب قطة، ويعتبر أن تعذيب امرأة لقطة كان سببًا في دخولها إلى النار، لا يمكن أن يأذن لكم بتعذيب البشر، والمتهم بريء حتى تسبت إدانته، وإذا ثبتت إدانته فإنَّ في القانون عقوبات منصوصة ينبغي أن توقع عليه، وليس للمحقق أي حق في معاقبة المتهم قبل أن تثبت إدانته.