الحمدُ لله الذي أكمل لنا الدين، وأتَمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلام دينًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد الذي أرسلَه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعدُ: فإن أحكام الإسلام قد جاءتْ شاملةً ومناسبةً لجميع نواحي الحياة، وصالحةً لكلِّ زمان ومكان. وإنَّ مبادئ الإسلام تسمو على كل المبادئ، والقيم التي وضعها الناس من عند أنفسهم؛ لأن مبادئ الإسلام تشريع من لدن حكيم عليم، بما يصلح الناس في الدنيا والآخرة، وهذا ظاهر لكل منصفٍ تأمَّل أحكام الإسلام؛ فالشريعة الإسلامية المباركة هي عدل الله ورحمته سبحانه بين جميع عباده، لقد ذاق الناس على اختلاف جنسياتهم وعقائدهم الدينية في ظل إنسانية الحضارة الإسلامية - طعمَ الحرية والعدل والمواساة ما لم تذقْه البشرية في أي حضارة أخرى. إنَّ أهل السنة وسط في رعاية حقوق الإنسان؛ فهم يحترمون الإنسان بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو دينه، ويُمكن أن نوجزَ وسطيةَ أهل السنة في الأمور التالية:

(1) أهل السنة يحافظون على حق الإنسان في الحياة؛ التزامًا بقول الله تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" [الأنعام: 151].

قال الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الآية نهي عن قتل النفس المحرَّمة، مؤمنةً كانت أو معاهدةً إلا بالحق الذي يوجب قتلها (تفسير القرطبي - جـ5 - صـ 133).

(2) أهل السنة يحرصون على تحقيق العدل مع جميع الناس؛ امتثالًا لقول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء: 58].

(3) أهل السنة يحافظون على كرامة الإنسان في حياته وبعد موته: قال في حق الإنسان: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" [الإسراء: 70]؛ قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم، وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كما قال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" [التين: 4]؛ أي: يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه - وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه - وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا، يفقه بذلك كله وينتفع به، ويُفرِّق بين الأشياء، ويَعرِف منافعها وخواصها ومَضارّها في الأمور الدنيويَّة والدينيَّة.

قوله: "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ "[الإسراء: 70]؛ أي: على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي "البحر" أيضًا على السفن الكبار والصغار. قوله: "وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ "[يونس: 93]؛ أي: من زروع وثمار، ولحوم وألبان، من سائر أنواع الطعوم والألوان، المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها، مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي. قوله: "وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" [الإسراء: 70]؛ أي: من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات؛ (تفسير ابن كثير - جـ5 - صـ 97).

(4) أهل السنة يحافظون على حقوق الإنسان في وقت الحرب: مقتولةً في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان؛ (البخاري حديث 3015/ مسلم حديث 1744).

(5) أهل السنة لا يغدرون بالعهد، ولا يُمَثِّلون بجثث الأحياء أو الأموات من أعدائهم؛ امتثالًا لوصية نبيهم صلى الله عليه وسلم. روى أبو داود عن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحثُّنا على الصدقة وينهانا عن المثلة؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود للألباني - حديث 2322). (المثلة: أي: التنكيل بأجسام الأحياء والأموات؛ كقطع الأيدي والأقدام، وفقء العين، والإحراق بالنار، وغير ذلك).

روى مسلم عن بريدة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا (طفلًا صغيرًا)" (مسلم - حديث 1731). قوله: "ولا تغلوا"؛ أي: لا تخونوا في الغنيمة. قوله: "ولا تغدروا"؛ أي: لا تنقضوا العهد.

(6) أهل السنة يحرصون على حسن معاملة الأسرى في الحروب، وضمان حياتهم حتى يتم اتخاذ القرار النهائي بشأنهم؛ امتثالًا لقول الله تعالى: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا" [الإنسان: 8، 9].

(7) لا يأسرون الرهبان ورجال الدين من الأعداء، إلا إذا كانت لهم مشاركة حقيقية في المعركة أو في التخطيط لها: قال محمد بن إسحاق: حدثني نبيه بن وهب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى (في غزوة بدر) فرقهم بين أصحابه، وقال: "استوصوا بالأسارى خيرًا"، قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى، قال: فقال أبو عزيز: مَرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، قال: وكنت في رهطٍ مِن الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا: "ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها"، قال: فأستحيي فأردها على أحدهم، فيردها عليَّ ما يمسها؛ (سيرة ابن هشام - جـ2 - صـ251).

(8) أهل السنة يُحافظون على نظافة البيئة رعايةً لحقوق جميع الناس الذين يعيشون داخل المجتمع الواحد، بصَرْف النظر عن جنسياتهم أو ألوانهم أو دينهم، وأهل السنة يفعلون ذلك اقتداءً بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم التي تحثهم على نظافة البيئة ومحاربة التلوُّث، وانتشار العدوى والأمراض بين جميع أفراد المجتمع. روى مسلم عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا اللعانين"، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم"؛ (مسلم - حديث 68).

قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: المراد باللاعنين: الأمرين الجالبين للعن الحاملين الناس عليه والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن: يعني عادة الناس لعنه فلما صارا سببًا لذلك أضيف اللعن إليهما (مسلم بشرح النووي - جـ3 - صـ161). قال الخطابي وغيره من العلماء رحمهم الله: المراد بالظل هنا مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلًا ومناخًا ينزلونه ويقعدون فيه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الذي يتخلَّى في طريق الناس"؛ فمعناه: يتغوَّط في موضع يمر به الناس (مسلم بشرح النووي - جـ3 - صـ162).

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.