يريد الله تعالى من أفراد هذه الأمة الوصول إلى الكمال أو مقاربة الكمال، من حيث الظاهر والباطن، ومن حيث كل ما يمكن أن يحقق الكمال للإنسان ويدرأ عنه الفساد والخبث والأضرار، ولذلك أمر الله تعالى الأمة ـــ أفراداً وجماعات ـــ أن تحقق طهارة الظاهر والباطن، وأن لا يكتفوا بإحداهما عن الأخرى، فلا تغني واحدة منهما عن الأخرى؛ إذ الإسلام كامل شامل جامع للظهار والباطن. وقد بيننا في الخطبة السابقة أن الإسلام والشريعة قائمة على فكرة الزوجية والشفع، وقد جاءت التشريعات كلها مراعية لهذا الجانب في الكون كله، وبخاصة في الإنسان الذي لا يتحقق له البقاء إلا من خلال الزوجية. فأوامر الله تعالى ونواهيه موجهة للظاهر والباطن، وقد تحدثنا عن طهارة الباطن من القلب والروح والنفس والعقل ووجوب ذلك في الخطب السابقة، وإننا نتحدث اليوم عن طهارة الظاهر ونظافته. إن الظاهر يجب أن يكون طاهراً نظيفاً، ويجب على المسلم أن يكون نظيفاً في بدنه وثيابه ومكانه، وقد أمر الله تعالى في ثالث سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بطهارة الثياب، حيث قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، وهذه هي تربية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لتطهير باطنه وظاهره وتنظيفهما من الأمراض والأرجاس والأنجاس الحسية منها والمعنوية.

وكما أن التقوى لباس الباطن والداخل فكذلك للظاهر لباس خاص به، يجب على المرء أن يبذل كل جهده في تحقيق طهارة ونظافة وسلامة هذا الظاهر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَيُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا"، وسفساف الأمور هي التي تخدش كرامة الإنسان وتخرم مروءته وتدنس شرفه، وقال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، فَنَظِّفُوا عَذِرَاتِكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ".

ما أحوجنا نحن المسلمين إلى مثل هذه التربية، ومع الأسف الشديد لا يلتزم كثير من المسلمين بمثل هذه التربية وهذه الأوامر، وبخاصة في يوم الجمعة الذي له خصوصية عند المسلمين، حتى اعتبر بعض الفقهاء أن الاغتسال يوم الجمعة واجب، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء الآخرين بأي وسيلة، فقد يكون الإيذاء برائحة الفم والعرق وقد يكون برائحة الثياب، وقد يكون بأكل الثوم والبصل دون طبخهما، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلهما من حضور الجماعة لما في ذلك من إيذاء الملائكة والمصلين، قال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ قَالَ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ".،

وفي ذلك دلالة عظيمة على اعتناء الإسلام واهتمامه بالنظافة والطهارة، وليس المقصود بالطهارة والنظافة أن نرتدي ثياباً باهظة الأثمان أو جديدة. الإسلام يريد من المسلم أن يكون شامة بين الناس، جميلاً بين الناس، نظيفاً في هندامه، مرتباً في شكله، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه:" أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ فَقَالَ أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ وَرَأَى رَجُلًا آخَرَ وَعَلْيِهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ".

إن الله تعالى قرن محبته للتوابين مع محبته للمتطهرين، دلالة على ربط الظاهر بالباطن، ووجوب طهارتهما، وعدم الاكتفاء بواحد منهما عن الآخر. إن تخلفنا عن الغرب ليس في مجال التقنيات ولا في مجال الصناعات فحسب، بل إن تخلفنا في مجال الأخلاق والسلوك أضحى واضحاً جلياً، ونحن أمة جعل دينُها الطهارة نصف الدين والإيمان، قال صلى الله عليه وسلم:" الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ"، ثم ما الحكمة من فرض الصلوات الخمس، وفي الغالب يكون معها الوضوء خمس مرات؟ أليس دلالة على وجوب الطهارة والنظافة؟ إننا قد قررنا سابقاً " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" ولنا أن نقيس على ذلك فنقول:" لو نظف باطنه وداخله لنظف ظاهره وخارجه. إن الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى هذه التربية الإسلامية الأخلاقية العظيمة، فديننا دين الجمال والجلال والقدوة، يكون المسلم فيه قدوة للآخرين في كل شيء، وقد ورد في حديث ثابت:" طَهِّرُوا هَذِهِ الْأَجْسَادَ طَهَّرَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ يَبِيتُ طَاهِرًا إِلَّا بَاتَ مَعَهُ مَلَكٌ فِي شِعَارِهِ لَا يَنْقَلِبُ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ فَإِنَّهُ بَاتَ طَاهِرًا".

كم أحزن حيث أمر بجوار حديقة حينا، وبخاصة صباح يومي الجمعة والسبت فأرى النفايات ملقاة في كل مكان، تعبث بها الرياح، وتنقلها من مكان إلى آخر، وحاويات القمامة لا تبعد عن أماكن جلوس رواد الحديقة إلى أمتاراً، وقد مرَّ ذات يوم غير مسلم يسألني: أهذه هي أخلاق المسلمين؟ فقلت: لا والله، ما هذه بأخلاق للمسلم. كما أن للنفس تربية خاصة بها فكذلك للجسد تربية خاصة به، وقد جاء في السنن:" آخَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَجَاءَ سَلْمَانُ يَزُورُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَإِذَا أُمُّ الدَّرْدَاءِ مُبْتَذَلَةٌ فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ، وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَرَحَّبَ بِسَلْمَانَ وَقَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: أَطْعِمْ قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ قَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتُفْطِرَنَّ فَأَبَى يَأْكُلُ حَتَّى يَأْكُلَ مَعَهُ فَأَكَلَ مَعَهُ، ثُمَّ بَاتَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أَرَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنْ يَقُومَ فَمَنَعَهُ سَلْمَانُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ حَقًّا، أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ قَالَ: قُمِ الْآنَ إِنْ شِئْتَ ، فَقَامَا فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَكَعَا، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّلَاةِ، فَدَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِجَسَدِكَ حَقًّا مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ".

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه: "يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ قُلْتُ وَمَا كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ نِصْفَ الدَّهْرِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

ولقد شاهدت في حج عام 1975 ثلاثة من كبار فلاسفة بريطانيا أسلموا، وأتوا إلى الحج، فقام أحدهم ليكلمنا عن إسلامهم، فقال: كنا نقرأ القرآن الكريم ولا نفهم معانيه إلا بعد أن نقرأ ترجمة تلك المعاني باللغة الإنكليزية، فوجدناه ديناً عظيماً يأمر أتباعه بالنظافة والطهارة، وقد اعتبر ذلك عبادة وتقرباً، أما نحن فإننا نرى النظافة صحة وعلاجاً، ثم يتابع الحديث فيقول: ولما دنا موسم الحج قررنا أن نلبي نداء الله تعالى، وقلنا: سنمر على مدن الحضارات الإسلامية في تاريخها العريق، واختاروا ثلاث مدن أتجنب ذكرها، ثم قال: ما وجدنا في رحلتنا شيئاً عن النظافة، ولقد وجدنا من القذارة وعدم النظافة ما لا عهد لأحد به، ثم قال: حمدنا الله تعالى على أن هدانا للإسلام قبل أن نرى المسلمين. النظافة مطلوبة، وواجبة، ولا بد للمسلم أن يعتني بنظافة ظاهره وباطنه، فإن الله تعالى نظيف وطيب ولا يقبل إلا الطيب. الخطبة الثانية: إن للنظافة في الإسلام تصوراً لا يقتصر على رونق المظهر، بل يتعداه إلى الاعتناء بنقاء السريرة وصفاء المخبر، وحسن الجوهر، وسلامة الصدر.

وإن المتأمل في الآيات القرآنية والسيرة النبوية ليجد ترابطاً وثيقاً بين النظافتين، وتلاحماً كاملاً بين الطهارتين، فقد حرص الإسلام على أن يأخذ أتباعه بنظافة الحس مع نظافة النفس، وعلى الأخذ بصفاء القلب مع نقاء البدن، ووجوب سلامة الصدر مع سلامة الجسد. فحين يجمِّل الدين بواطننا بالهداية إلى الصراط المستقيم، فإنه في الوقت ذاته يجمِّل ظواهرنا بالنظافة والطهارة والخلق الحسن، وفي ذلك منتهى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. اللهم أصلح أحوالنا