قليلة هي الكتابات الإسلامية التي يمكن إدراجها تحت العنوان الحسّاس "النقد الذاتي"، والتي يمكن إرجاع الإقلال فيها، إلى ما تُقابل به - غالبا - في الأوساط الإسلامية من نفور شديد، وحساسية بالغة، وامتعاض كبير من تناول السلبيات وتشريح أسباب الخلل، ومظاهر القصور على الملأ، ورؤوس الأشهاد، إذ يغلب على "الصحويين" الميل الشديد إلى معالجة ذلك كله في الغرف المغلقة، وقصر مناقشته ومعالجته على الجلسات الخاصة. في هذا الكتاب "الصحوة الإسلامية.. صحوة من أجل الصحوة" تجاسر الأكاديمي السوري، المتخصص في فقه اللغة العربية، والباحث في الدراسات الفكرية والنهضوية والحضارية، الدكتور عبد الكريم بكار على دراسة وتحليل مظاهر الخلل والقصور في مسيرة الصحوة الإسلامية المعاصرة، بما يعرف عنه من رصانة علمية، وتحليل عميق، ورصد دقيق، وأفق واسع متحرر من قيود الانغلاق الذهني، والتعصب الحزبي

لكن الدكتور بكار في خضم دراسته ورصده وتحليله واقتراح ما يراه ضروريا لسد الثغرات، وتلافي النقص والخلل، غلبت عليه النزعة المتوجسة المترددة التي تدفع صاحبها لقول الشيء ثم تحمله على الفور للاستدراك على ما قال، وكأنها وهي تخط كلماتها بقلمها، تتراءى لها أشباح المعترضين الغاضبين، وقد انتفخت أوداجها غضبا ونفورا وامتعاضا. ذلك القلق والتردد والتهيب الذي اعترى الدراسة في كثير من فصولها، اعترف به المؤلف في آخر كتابه حينما قال:

"لا أخفي أنني كنت قلقا خلال كتابة هذا الكتاب، فأنا أود أن أنصح للصحوة، وأن أحاول الإسهام في جعلها على حال أفضل، وفي الوقت نفسه أحاول أن لا أحطم المعنويات، وأن لا أبذر بذور اليأس والإحباط، ولهذا فإني أرجو أن يُفهم النقد الموجَّه للصحوة على أنه دليل عظمتها وأهميتها؛ لأن الظواهر والأعمال التافهة أقل من أن يتوقف عندها أحد".
مصطلح الصحوة: بداياته وأطواره
أوضح الدكتور في مستهل كتابه أن "مصطلح (الصحوة) جديد نسبيا، إذ لم نعهد إطلاق هذا الاسم على أي حالة من حالات إقبال الإسلام وعودة المسلمين إلى دينهم في أي مرحلة من مراحل التاريخ في القرون السالفة، وقد ذهب بعض الكتاب إلى أن إطلاق هذا الاسم على الحراك الإسلامي في العصر الحديث لم يكن موفقا.."

أما وجه اعتراضهم على استخدامه، فيرجع إلى أن معنى (صحا) أفاق من سكره، والأمة لم تكن في حالة سكر حتى يقال: إنها الآن في حالة صحو، أو إنها تعيش صحوة.. لكن الدكتور بكار ناقش هذا الاعتراض بقوله "وهذا في الحقيقة واحد فقط من استخدام الجذر (صحا)، وإلا فإن العرب كانت تستخدم كلمة الصحو للدلالة على ذهاب السُّكر، وعلى ترك الصبا والباطل،... وكانت تطلقها كذلك على انقشاع الغيم عن السماء، وعلى هذا، فإن إطلاق كلمة (الصحوة) للدلالة على ما أشرنا إليه من عودة الناس إلى الإسلام لم يكن خطأ، فقد انقشع كثير من الجهل والطيش من عقول المسلمين، وتبدد الكثير من غيوم الضلال والغواية...".

اختار بكار للصحوة المعنى الاصطلاحي التالي: "الصحوة هي ذلك الإقبال على فهم الإسلام والعمل به والاحتكام إليه.. والذي بدأ ينتشر بقوة في أصقاع العالم الإسلامي منذ السبعينيات من القرن المنصرم، والذي يتجسد في الكثير من المظاهر الإيجابية، كالإقبال على المساجد لأداء الصلوات وطلب العلم، وتضاعف أعداد الجماعات الإسلامية على اختلاف اتجاهاتها، وتحسن وعي الأمة بنفسها وبإمكاناتها وبمحيطها والعالم من حولها...".

أرجع بكار ولادة الصحوة الإسلامية في منتصف سبعينيات القرن الماضي إلى جملة من الأسباب المتداولة، والتي من ضمنها أنها "وليدة صراع بين تيارات فكرية متباينة، وتلك التيارات منها ما هو ذو نزعة قومية، ونزعة وطنية، ومنها ما له نزعة علمانية أو ليبرالية.." إضافة إلى آثار وتداعيات حرب عام ((1967) التي أذكت روح الصحوة الإسلامية.. وأن الصحوة الإسلامية نشأت بوصفها ردة فعل على إخفاق خطط التنمية وانتشار الفساد ..".

وفقا للمؤلف؛ فإن الطور الأول للصحوة والذي بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي كان بمثابة (اكتشاف الذات)، ثم كان للصحوة طور جديد، في منتصف التسعينيات، ورصد الدكتور بكار أهم ملامح هذا الطور تحت العناوين التالية: تراجع القناعة باستخدام العنف، تقدير أكبر للنجاح، صحويون أكثر انفتاحا على الآخر.. وصورة الصحوي الجديد: مسلم مرن منفتح ذهنيا، ومتطلع إلى إنجاز المهمات والارتقاء في الأعمال والوظائف..

نقد الصحوة من خلال مقولات المناوئين

وجد الدكتور بكار أن مقولات المناوئين للصحوة، تحتوي قدرا من النقد الذي يجب الاهتمام به، ودراسته ومتابعته وتحليله، وفي الوقت ذاته الدفاع عن الصحوة فيما ظلمت به وتعدى عليها الآخرون فيه، في هذا السياق يفرق المؤلف بين النقد والتشكيك: فالنقد: هو عبارة عن محاولة لتقييم منتج أو حالة أو ظاهرة.. وفي ذلك التقويم تُذكر المحاسن والمساوئ والإيجابيات والسلبيات.. وإن الصحوة والصحويين في أمس الحاجة إلى ممارسة النقد الذاتي..،

يتابع المؤلف: أما التشكيك -حسب استخدام الكلمة هنا- فهو عبارة عن موقف جذري يعتقد صاحبه بصواب رؤيته على نحو قطعي وجازم، ومن ثم يحول (خلافه مع الصحويين) إلى نفي للوجود أو إلى وصف الصحوة بأنها غلطة حضارية أو ورطة ثقافية أو غفوة..) إلى آخر ما في جعبة المتشككين من ألقاب.

ناقش المؤلف جملة من مقولات المناوئين للصحوة والصحويين، كاتهامهم لها بالحزب والجماعة، ودافع المؤلف بأنه من الظلم التعامل مع الصحوة ورجالاتها ودعاتها باعتبارها هيكلا تنظيميا، فلئن كانت بعض جماعات الصحوة تنضوي في أطر تنظيمية معروفة، فليس كل اتجاهات الصحوة ودعاتها كذلك، وهذا ما تفتقر إليه كتابات المناوئين في توصيف الصحوة ورصدها، وكذلك الحال فيمن يتهمون الصحوة بأنها وهم وسراب، وتقليلهم من شأن إنجازاتها وتأثيرها في أوساط المسلمين، ونقل عن الدكتور فؤاد زكريا قوله "نحن تراجعنا في كل شيء، وعلى الرغم من ذلك يتحدث الناس عن الصحوة، وهذا أمر محير: هل من المعقول أن نكون متدهورين في كافة الميادين، ثم تظهر لنا على أوسع نطاق صحوة ويقظة ونهضة في ميدان واحد دون غيره؟!

يدافع الدكتور بكار بأن "استغراب د. زكريا في غير محله؛ لأن من المألوف في كل الحضارات التساوق بين نظم حضارية متقدمة وأخرى متخلفة، ففي القرن الرابع الهجري - مثلا- كان العمران في العالم الإسلامي في قمة ازدهاره، على حين كان النظام السياسي للدولة العباسية على حافة الانهيار، وفي الاتحاد السوفيتي كان المجتمع خاملا ومعطلا، لكن البحث العلمي كان مزدهرا، كما أن الصناعات المدنية كانت متخلفة نسبيا، لكن الصناعات العسكرية كانت متقدمة جدا، واليوم النمو الاقتصادي في الصين يثير إعجاب العالم، لكن حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني في الحضيض..".

الصحوة وما يستحق النقد والمراجعة

أفرد المؤلف مساحة واسعة لرصد وطرح الأمور التي تستحق النقد والمراجعة في أوساط الصحوة والصحويين، مؤكدا على أنه لا بديل عن النقد، ومشيرا بحذر إلى أن ما ينطبق على تيار أو جماعة ربما لا يصدق على جميع اتجاهات وجماعات الصحوة الأخرى، فما يورده من نقد ودعوة للمراجعة لا يشمل جميع الجماعات والحركات.

المؤلف هنا يفارق النزعة النقدية الحداثوية للحركات الصحوية الإسلامية، التي تعاملت مع مختلف الحركات الإسلامية باعتبارها فكرا ماضويا، تلتقي في جملة من المحددات والمرتكزات الأساسية والمركزية، وإن اختلفت في بعض التفاصيل والجزئيات.

تراوحت العناوين التي أفردها المؤلف لنقد الصحوة والصحويين بين قضايا فكرية ومعرفية كاستخفاف الصحوة والصحويين بالتنظير، واعتباره لونا من الترف الفكري، مع عظيم أهميته ودوره البالغ في التأسيس والتخطيط، وتكوين الرؤى الموجهة. قضية أخرى تستحق المراجعة والنقد تتمثل في ارتباك الصحوة في التعامل مع التيار العنيف، والقصور في فقه الواقع، ومن مظاهره التخمين بدلا من البحث، والانشغال بإنجازات السلف (الماضوية)، والاستغراق في نظرية المؤامرة، والإسراف في استخدام المقولات الجاهزة لتفسير القضايا المعقدة والمشكلة، وغلبة الخطاب المتشائم.

أما ما يستحق النقد والمناقشة على المستوى العملي والحركي، فثمة عناوين كثيرة كضعف التعاون والتنسيق بين الجماعات والحركات الإسلامية، والتراجع في الجهد التربوي والتزكية، والمبالغة في تقدير المظهر، والعمل الجماعي: هل هو غاية؟ والوصاية على المدعوين وما ينتج عنها، وخطورة التنظيم السري، والجماعات الإسلامية وضعف الإدارة.

من الموضوعات الهامة التي دعا الدكتور بكار إلى مراجعتها وإعادة النظر فيها، تحديد موقف الصحويين من الآخرين، وعنى بهم أهل الفكر والثقافة الذين يختلفون مع الصحوة في أفكارهم وأطروحاتهم، وحدد أبرز الركائز التي يجب أن يبنى عليها موقف الصحويين من هؤلاء الآخرين: عدم تشويه الآخر، وعامل الناس كما يحب أن يعاملومك (بالتثبت، والنظرة الشاملة، وعدم نزع الفكرة من سياقها، وعدم الحكم على الظاهر)، والحذر عند تصنيف الخصوم.. وركز في نقده للصحوة على إعطاء القيم ما تستحقه في العلاقات والمعاملات، مشيرا إلى أن القيم لا تفرض فرضا، مع ضرورة الاحتفاء بشكل أكبر بالجوانب الإنسانية حتى تكون صحوة أكثر إنسانية، والاهتمام بالمشاعر والذوقيات في الممارسة والسلوكيات، والاهتمام بثقافة العمل والإنجاز، والابتعاد عن المنطق الخطابي المتفشي في صفوف الصحوة الإسلامية.

قدم الدكتور بكار جملة من المقترحات والرؤى لمعالجة ما سبق نقده والدعوة إلى مراجعته، تتراوح بين الرؤى الفكرية والمعرفية، وما يجب أن فعله لتحويل تلك الأفكار والقيم إلى ثقافة، وتعزيز روح المبادة من خلال بناء عقلية أبناء الصحوة على نحو جديد، وضرورة تعزيز روح التطوع والاحتساب في صفوف الصحويين وعامة المسلمين، وعدم الاستغراق في الماضي لأن حلوله قاصرة، ولا تتسع مرحلة سابقة لمرحلة قادمة، والاهتمام بعامة الناس لأن النهضة بالناس وللناس، وما يجب تغييره من الأفكار والممارسات في الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي مما يعيق تحقيق النهضة وإنجازها.

جرت مياة كثيره في بحار الصحوة الإسلامية وأنهارها، منذ أن صدرت الطبعة الأولى للكتاب عام 2011، ومع أن كثيرا مما رصده الدكتور بكار في نقده ومراجعته لأفكار وممارسات الصحويين، ما زال قائما ويستحق المزيد من النقد والمراجعة، إلا أن ثمة ظواهر جديدة طفت على السطح بشكل لافت، لعل أعظمها خطرا، وأشدها فتكا، فشو ظاهرة التكفير في أوساط الجماعات الإسلامية، واستحلال الدماء، والاستهانة بقتل النفس المعصومة، ما يتطلب نقدا شديدا، ومراجعة عميقة.