كنا وما نزال نأسى ونتأسف على هجر الأمَّة للقرآن، ونحاول أن نبيِّن طرائق الهجر التي ألقى الشيطان بها إلى الأمَّة؛ ليجعلها في الآخر تحمل قرآنها بالطريقة الحماريَّة ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(الجمعة:5). وكان كثير من المتفائلين يجادلوننا ويحاوروننا في هذه الظاهرة ونفيها ويغالطوننا بالاحتجاج بمظاهر عناية الأمَّة بالقرآن الكريم قديمًا وحديثًا، فيذكرون كيف أحصت الأمَّة ما سمته بالقراءات المتواترة العشرة والقراءات غير المتواترة والشاذة التي بلغت بها إلى أربع عشرة قراءة.
وهذه العناية (!) نفسها تدل عندنا على الهجر؛ إذ لو لم توجد ظاهرة الهجر لما أخضعت أيَّة كلمة من كلمات القرآن لمقاييس رواة المرويات ونقل النقلة، فالمتواترة تعني أنَّ الذين قرأوها بلغوا حد التواتر، والتي لم تتواتر لم يقرأ بها القارؤون والتي وصفوها بالشذوذ، فذلك أيضًا بالنسبة للقارئين بها وعددهم، فكأنَّ القُرَّاء أنفسهم نصَّبوا من أنفسهم حكامًا على كلمات القرآن بحيث يحكمون على بعضها بالتواتر وعلى البعض الآخر بالآحاديَّة وعلى بعض ثالث بالشذوذ، وذلك عندنا دليل من أدلة الهجر.
وبالتالي فإنَّ هذا العلم، أو الذي سماه البعض علمًا، صار له نوع من الهيمنة والتحكم بكلمات وآيات الكتاب الكريم الذي أنزله الله حاكمًا مصدقًا ومهيمِنًا لا محكومًا عليه ولا مُهَيمَنًا عليه. والقرآن المجيد لم يعتمد في تحدِّيه للأنس والجن والخلق أجمعين على الرواية، كثرت أو قلت، بل اعتمد على أسلوبه الفريد، ونظمه العجيب، ومستوى فصاحته، ومرتبة بلاغته، وسمو أساليبه وسياقاته، فتحدِّيه إنَّما كان بهذا لا بكثرة الرواة وقلَّتهم، وإلا لما قال الله (جل شأنه):﴿قل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:88)، فما كان ينبغي أن يلحق بالمأثورات والأخبار وتعطى للرواية كل تلك الصلاحيَّات التي امتلأت بها كتب التفسير والقراءات؛ ولذلك فإنَّنا نناشد المختصين أن يراجعوا هذا الذي سموه علم القراءات برؤية قرآنيَّة فاحصة؛ ليتبيَّن للكثيرين أنَّ الضرر الذي ألحقته هذه القراءات بالقرآن، بقطع النظر عن أسبابها -المعتبرة لدى البعض- ومعالجة بعضها لمعضلات تفسير الآيات التي وقعت بها، سوف يكشف عن أنَّ الضرر فيها أكثر من النفع، وأنَّها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) كانت مجرد رخصة للذين لم تلن ألسنتهم بعد لكلمات القرآن وحروفه.
 أمَّا بعد أن كملَ القرآن وجمع في عهد رسول الله (صلى لله عليه وآله وسلَّم) بتوفيق إلهي فقد أصبحت أيَّة قراءة لم ترد في المصحف الإمام الذي ورثته الأمَّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) واجتمعت كلمتها عليه حتى اليوم، قراءة مرفوضة، وإن وردت بها روايات، فالتعبير القرآني وحده تعبير مُتحدَّى به على سائر المستويات، وإذا كانت جمهرة العلماء لم تقل بإعجاز الكلمة أو المفردة لكن جميع العلماء قد قالوا بإعجازها في سياقها وفي موقعها من الآي والسور، ولا مبدل لكلمات الله، ولا متصرف فيها سواه، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام:115). فليت المسلمين حصروا هذا النوع من الدراسات في مجال علم تاريخ القرآن منذ بدء النزول حتى توقف الوحي بعد كمال القرآن وتمامه، فتكون القراءات جزءًا من تاريخ القرآن لا علمًا مستقلًا؛ فكثيرًا ما تترتب على بعض قضاياه شبهات لابد من تنزيه القرآن عنها.
إنَّهم قد رووا حديثًا عرف بأنَّه حديث الأحرف السبعة، يفيد أنَّ القرآن قد أُنزل على سبعة أحرف، وقد ذكروا في تأويل هذه الأحرف السبعة عشرات التأويلات؛ لأنَّهم لم يجترؤوا على مناقشته بعد أن صححه الكثيرون دراية ورواية، ولم يقوموا بعمليَّة نقده متنًا وإخضاعه لقواعد الدراية؛ ولذلك تقبل الناس مسـألة الأحرف السبعة، وربط بعضهم بينها وبين القراءات السبع وهو خطأ؛ فالقراءات السبع شيء والأحرف السبعة شيء آخر، ونحن نعلم أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد عصم هذا القرآن الكريم وهيَّأ له كل أسباب الحفظ والتوثيق، ونحن نعلم أنَّ سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) كان طيلة فترة نزول الوحي عليه والتي امتدت إلى اثنين وعشرين عامًا وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا كان يعارض القرآن مرة كل عام مع جبريل، وفي السنة الأخيرة من حياته عارض القرآن هو وجبريل مرتين، واعتبروا ذلك بمثابة مؤشر على أنَّه قد اكتمل نزوله، ولم يعد هناك مجال لإضافة شيء على مستوى الآيات أو السور أو الكلمات أو الأحرف، وأنَّ كلمة الله قد تمت صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته (جل شأنه).
    ولو أنَّ النزول على سبعة أحرف يعني أنَّ هناك اختلافًا بين حرف وآخر؛ لعرف ذلك، ولم يحمل الحديث ويخضع لتلك التأويلات البشريَّة، وكما شاع وانتشر أمر المعارضة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلَّم) وجبريل للقرآن الكريم سنة بعد أخرى لشاع أنَّه نزل مثلًا بالحرف الأول في مكة أو في المدينة أو في الوقت الفلاني أو في السنة الفلانية، ثم نزل بالحرف الثاني ثم الثالث وهكذا، فهذا من الأمور التي لا يمكن أن تبقى في دائرة روايات أحاديَّة، ولا تندرج تحت المجملات بحيث تظل خاضعة لتأويلات المتأولين وتفسيرات المفسرين واجتهادات الرأي، فتلك كلها أمور قد عصم القرآن منها وحفظه الله (جل شأنه) بنفسه، لئلا يتعرض شيء منه إلى الاختلاف لا بالألفاظ ولا بالآيات والجمل ولا بالسور ﴿... وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ (النساء:82). وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم) وهو العزيز عليه عنت المؤمنين وهو الرؤوف الرحيم بهم قد رخَّص لبعض الأعراب الذين لم تلن ألسنتهم لكلمات القرآن بعدُ بأن يقرأوا بحسب استطاعتهم، فتلك رخصة قد انتهت وتوقفت بعد اكتمال الوحي ووفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلَّم)؛ ولذلك حمل المسلمون وقُرَّاء الصحابة الذين كانوا في عهد عثمان (رضوان الله عليهم أجمعين) حملوا عثمان على كتابة المصحف الإمام بنسخ عدة وتوزيعها على حواضر الأمَّة المسلمة، وإحراق كل ما عداها، وغلق أبواب الفتن وذلك تيسيرًا وتسهيلًا مَنَّ الله (جل شأنه) به على هذه الأمَّة؛ لئلا تختلف في كتابها كما اختلف من سبقها، وليبقى الكتاب الكريم مرجعيَّة عليا لا تزيع به الألسن ولا يخلق من كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، ويحفظ به تراث النبوَّات كافَّة فيصدق عليه ويهيمن إلى يوم الدين؛ ولذلك فإنَّنا نتمنى أن تلتفت المؤسَّسات التعليميَّة الإسلاميَّة إلى مثل هذه الحقائق والأمور، وتحيل بعض المعارف الموروثة إلى تاريخ القرآن الكريم؛ لتنحصر في تداولها بين أهل الذكر ولا تكون فتنة للذين آمنوا، ولا تكون بابًا لدخول الشبهات على كتاب الله (جل شأنه).
ومن المؤسف أنَّ هذه الرخصة الشفاهيَّة التي كان يفترض أن تتوقف بوفاة الرسول النبي (صلى الله عليه وآله وسلَّم) والتي لم يأمر الرسول بكتابتها ولا تناقلها لكنَّها انتشرت بطريق الرواية، ونتيجة شغف البعض بالتعالم بالإكثار منها، والذي كان الشيخان أبو بكر وعمر يعاقبان المكثرين من تلك الروايات الذين قد تضر رواياتهم في إقبال الناس على القرآن وانشغالهم به أو تثير شبهات وتفتح أبواب فتنة كتلك الشبهات التي زعمت عدم قرآنيَّة بعض السور، أو أنَّ هناك سورة أكلتها الداجن، أو ما شاكل ذلك من تلك الخرافات التي لم يستطع أعداء القرآن من المشركين أن ينالوا من القرآن بمثلها.
    فلنتذكر دائمًا أنَّ الله (تبارك وتعالى) قد علمنا أنَّ القرآن الكريم كتابه وكلماته، هو من أنزله وهو من تولى حفظه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9)، وهو من تولى جمعه ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ﴾ (القيامة: 16-17)، وهو (جل شأنه) من علمه لرسوله ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ﴾ (الرحمن:1-2)، ولم يعلِّم رسوله تلك الروايات ولا القراءات، وهو الذي علمه كيفيَّة البيان والتطبيق ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44)، فلنتقي الله في الكتاب ولا يكون بعضنا مثل تلك الدبة التي قتلت صاحبها.
والله أعلم.