الکاتب: الدکتور صلاح الدین خدیو سقط الجامع النوري والرمز الرئيسي لخلافة داعش في موصل بید الجیش العراقي وسقوطه رمزیا یعني نهایة خلافة کیان أعلن عن تأسیسه في هذا المکان قبل ثلاث سنوات. الدولة الإسلامیة للعراق والشام لم تعترف بها أي دولة ولکن سیطرتها علی أجزاء واسعة من العراق والشام في السنوات الثلاثة الأخیرة أدخلت اسمها في التاريخ السياسي للشرق الأوسط. وأکثر من أي مکان آخر کانت منطقة الشرق الأوسط مختبرا سیاسیا لأفکار خلقت في المصانع الفکریة الغربیة للعقد السابع عشر. مع ظهور داعش وانهیارها التحقت فکرة الخلافة بقائمة الاشتراكية والشيوعية والقومية والمحافظة والتقدمية والجمهوریة والإسلامیة ولکل واحد منها قاسم مشترک وهو الفشل في التنمیة السیاسیة والاقتصادیة والإخفاق في الانتقال عن البنى الاجتماعية التقليدية في المنطقة.
یعتبر المفکر الفلسطیني الفقید هشام شرابي نواة هذه البنی الاجتماعية "السلطة الأوبیة الجدیدة" وهي سر الحداثة المشوهة التي ظهرت من خلال التحديث المجتمع القبلي ناقصا وسطحيا وداعش ذروة هذا التراجع والانحدار. الإخفاقات المتتالیة لمحاولات التحدیث من قبل الکیانات العربیة منذ سنة 1970 قد أضاءت نجم البديل الإسلامي في المنطقة؛ وأعادتها إلی الواجهة وظاهرة "انسداد العلمانية" هو من نتائج الهزيمة السياسية والأخلاقية للقومية والاشتراكية في العالم العربي وإن نجت الأنظمة الملكية المحافظة في العالم العربي من تطورات العقود الأخیرة بالنسبة للجمهوريات التقدمية النظيرة ولکنها قد واجهت أزمات صغیرة وکبیرة وبالإضافة إلى ذلك أنها تواجه اتهامات من التعاون والتهدئة مع الوضع الراهن.
إن عودة فکرة الخلافة في إطار کیان داعش العنیف هي أکبر دلیل علی أنه من المستحیل نجاحها في العصر الراهن وبعبارة أخری أن أي عودة إلی هذا النظام الحكومي إما الخلافة الراشدة المثالیة أو الملوکیة الإسلامیة لن تکون میسرة إلا من خلال العودة إلی ما بعد الحداثة شکلیاً لا مضموناً. وبناء علی هذا قد تکون اعتبار تجربة داعش شيء ما بین إمارة طالبان الإسلامیة في أفغانستان (١٩٩٦- ٢٠٠١) والنظام الشعبي للخمیر الحمر في كمبوديا وكانت جميع هذه الحكومات الثلاث مؤقتة وقد وصلت كلها من العنف عتبة لا تطاق وکانت ريفية بدرجات متفاوتة وأخيرا انهارت كل هذه الثلاثة بالتدخل الأجنبي. إن القاسم المشترک لکل منها الاعتماد على الحداثة والالتزام بالأيديولوجية کمخلوق لنظام الحداثة وبناء علی هذه النظریة یمکن القول إن داعش أشبه للخمیر الحمر منه إلی طالبان.
ومن منظر الفکرة السیاسیة لیس من الصعب جدا إثبات علاقة نظریة داعش بفکرة المصلحین والمتجددین السلفیین کابن تیمیة کما یمکننا أن نجد بعض قرائن نظام بول بوت الارهابي في لغة کارل مارکس المتهورة واللامسامحیة والساخرة ولکن بالتأكيد لا تزال هناک آفاق تحليلية مغلقة أمام المحلل دون منظور من علم الاجتماع السياسي واعتماد النظریة علی التأریخ. للوهلة الأولى یمکن القول إن داعش ظهرت بعد انسلاخ تنظیم القاعدة وتغییر وجهة نظر جیل ناشئ من الجهادیین في بین النهرین وللوهلة الثانیة وعلی طريق الباحثين الغربيين یمکن اعتبار ظهور داعش استمرار حیاة کیان صدام بعد موته وفي کل من هذین الوجهین بالطبع جزء من الحقيقة في حد ذاتها. وقلما یمکن الجمع بين السلفيين الجهاديين وإعادة البعثیین المسلمین کتراکب استراتیجي أو تحول هوي دون انهیار النظام السیاسي في سوریا والعراق.
في الحقیقة أن مزيجا من الصيغ المتطرفة للإسلاموية والقومية وظهور داعش قد تمت في المرجل المغلي للفساد والفشل السياسي والثقافي والاقتصادي في الشرق الأوسط. ومنذ النصف الأخیر من القرن التاسع عشر حین وقع أول اصطدام بین الغربیین المسعدین والمدربین والشرقیین النائمین ظهر اثان من ردود فعل منفصلة إسلامية وعلمانية؛ وکان الجیل الأول من الإسلامیین العرب من تیار الإصلاحیین لا المتجددین وفي معسکر العلمانیین لم یکن عدد المسیحیین العرب ومکانتهم أقل وأدنی من نظرائهم المسلمین. والیوم لا تکاد توجد نسبة بین فکرة الآباء المؤسسین مع أبنائهم السیاسیین في کلتا المدرستین الفکریتین وهذه المسافة تساوي قرنا من الزمن بین تلک الجهود الفكرية وهذه الهجمات التخريبية لداعش وهذا المسافة قد امتلأت باليبرالية المؤقتة ما بین الحربین والمرحلة الاستقلال الوطني والناصري والبعثي والحركة القومية العربية والإسلاميین التقليديین والأنظمة الملكية المحافظة.
لا یمکن الولوج في نظریة داعش وتجربته بغض النظر عن الإخفاقات السياسية لكل من هذه المدارس السیاسیة والفکریة. وکل من القومیین والإسلامیین العرب کانت تطمح للتغلب علی هیاکل الشرق الأوسط والانتقال إلی الأمة العربیة وبصرف النظر عن التجربة الفاشلة للجمهورية المتحدة العربية (١٩٥٨-١٩٦١) أن داعش کانت القوة الوحيدة التي اجتازت حدود سایس بیکو بنجاح.
ولکن هذه التجربة لم تکن لها مصیر أفضل من سابقتها وقد سقطت الأمس القلعة الأخيرة من وهم العالم العربي؛ سقوط الجامع النوري في يوليو 2017 یذکرنا سقوط تمثال صدام حسین في ساحة فلسطین في أبريل 2003 وأن الشبح المخیف للکیان البائد الذي قد عاد في حالة الفوضی للربیع العربي اختفى مرة أخرى؛ ولکن المجالات السیاسیة والاجتماعیة المولدة لهذه الفوضاوات لا تزال متاحة؛ إن النزعة الطائفیة في الداخل والتنافس الإقليمي لا تزال في ذروتها وهذا یعني أن منطقة الشرق الأوسط ليست مستعدة للتنمية السياسية فحسب بل هي مستعدة لکثیر من النزاعات وحبلی للتجارب السیاسیة البشعة.
لعله من الممکن القضاء علی داعش بطرق عسکریة ولکن من الصعب أن یتم الخروج من هذه الحالة دون حدوث ثورة جذریة في الطرق وأساليب الحكم والسیاسات الإقلیمیة وإعادة النظر في المدارس المعرفية لتلک المکاتب الفکریة.
الآراء