كم يضيق صدري بالتكلف، والتعسف الذي يمارسه بعضنا، في توظيف الدين واستعمال لغة الفقه والفتوى؛ من تحريم، وتبديع، وتفسيق، وتضليل في مسائل جعل الله تعالى للناس فيها سعة.
تعود منطلقات هذا المسلك -في تقديري- إلى عدة أسباب: إما قلة العلم وضيق الأفق وضحالة الخبرة.. أو رقة التدين وسوء الخلق.. أو خفة الطبع ومراهقة الفكر. ومن مخاطر هذا السلوك في المجتمعات أنه ينشر بين الناس نوعا من العداوات والضغائن التي يصعب تطبيبها وتطويق آثارها، حيث تضرب حول المخالف أسوارا "أخلاقية" وأوصافا "شيطانية" فمن يقول بخلاف رأيك، ولا يرى بعينك ويفكر بعقلك، ليس مخطئا، كلا!.. بل هو "صاحب هوى" إن كان الأمر يتعلق بالآداب والأخلاق!.. وهو "ضال مضل" إن كان الأمر يتعلق بالفكر والمفاهيم! .. وهو "طاغوت مرتد" إن كان الأمر يتعلق بالعقائد!.. وهو "خائن عميل" إن كان الأمر يتعلق بالسياسة والشأن العام! المقام و الوقت لا يتسعان لكتابة ما ضاق به الصدر، ولكن أود تبليغ رسالتين:
الأولى: السياسة هي "فعل" إنساني يقصد به تدبير مصالح الناس وإدارة الشأن العام، ومن رحمة الله بأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، أنه لم يترك ذاك التدبير وتلك الإدارة التي تتعلق بشأن عامة الناس، مُناطة بالهوى والتشهي، أو بأمر الحاكم دون قيد، أو ضابط من وحي السماء، ولهذا يسمى الفعل سياسة "شرعية"، إذا كان منضبطا بنصوص الشرع، ومقاصده، وأصوله. ومن روائع التشريع اتساع رقعة "المباح"، وانحسار منطقة التحريم، في الشأن السياسي بوجه أخص.
فالفقه السياسي الإسلامي يتأسس على أنوية صلبة ثابتة؛ من نصوصٍ، ومقاصدٍ، وكُليات، وقيم سياسية.. ولكنه محاطٌ بحواف مرنةٍ، متغيرةٍ بحسب تقدير المصلحة وتغليبها، ومنع المفسدة وتفويتها، وتقصيد المسألة وتعليلها، وسد الذرائع وفتحها، وترتيب الأولويات، وإعمال نظرية التقريب التغليب، ونظرية إسقاط الحقوق، والنظر في المقاصد ومكملاتها، والأفعال ومآلاتها، وغير ذلك من مآخذ الأحكام ومنارات الحدود، مما يظنه حُدثاء الأسنان ،عَرضاً قريبا، وسفرا قاصدا.
من خلال تجربتي المتواضعة في تدريس مادة السياسة الشرعية، ومساهمتي في كثير من المنظمات والمؤسسات التي لها نوع علاقة بهذا التدبير، وصلت لخلاصة قد تفيد القارئ "المتجرد" وهي: إن السياسة الشرعية اليوم، هي علمٌ وفن يترعرع في كفالة أبوين اثنين؛ وهما: معرفة الأحكام، ومعرفة الواقع الذي تتنزل فيه تلك الأحكام، أو هو "صناعة" معقدة جدا، أشبه بالمركب العضوي الذي تتضافر على إنتاجه عدة عوامل، ومركبات، وظروف، وقد يكون في إهمال، أو إعمال واحدٍ منها دور كبير في قلب كل المعادلة أو صحة ميزانها.
ولما كان الأمر كذلك فإن دعوى "استقلال" الفقيه - مهما علا كعبه - بالإفتاء في شأن السياسة الشرعية، هو خلل و خطأ ينشأ عن جهل بطبيعة هذا الفن، أو سوء تنزيلٍ لأحكامه. أو هو- كما يقول المناطقة - خللٌ في التصور والتصديق في آن واحد! فبالله عليكم، قولوا لإخوانكم أخطأتم، وتحاوروا، وخاصموا، وجادلوا، وتنافسوا، ولكن لا تحملوا سعة الإسلام على ضيق صدوركم، أو تفتلوا من أحكامه حبائل لشنق خصومكم.
الرسالة الثانية: علمتني الحياة -منذ كنت فتى- أن أعلى الناس صوتا وأكثرهم ضجيجا، هم أوهنهم فعلا وأقلهم أثرا. وعلمنا القرآن أن تلك الثلة من بني إسرائيل التي رفعت عقيرتها تنادي بملك، يقاتلون معه في سبيل الله قائلين باستنكار وهم يحاورون نبيهم: "وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا؟!
هم الذين تولوا عندما كتب عليهم القتال، وهم الذين سقطوا في "غرفة ماء"، وهم الذين استعملوا المنطق المادي عندما رأوا العدو. وعلمتني الحياة أن الذين يتصيدون أخطاء الناس، وتنشرح صدورهم لعثرات الرجال ،ويتفكهون في مجالسهم على لحوم إخوانهم، هم أكثرهم لحاقا بركب المتساقطين، وأكثرهم اضطرابا، وحيرة، وفتنة، ولو بعد حين! وعلمتني الحياة أن الله يعطي على بذل الوسع -إذا صدر من أهله وفي محله- أجرا عظيما، ولو أخطأ صاحبه.
و أن الله تعالى عند قلوب المنكسرين المتواضعين ولو كانوا عصاة مذنبين. وقديما قال ابن عطاء - رحمه الله -: معصيةٌ أورثت ذُلاً وانكسارا، خيرٌ من طاعة أورثت تِيهاً واستكبارا.
الآراء