كان الخليفة الصديق – رضي الله عنه - أول خليفة وحاكم للمسلمين تَفرض له رعيته العطاء من بيت مال المسلمين ، حتى يتفرغ للنظر فى شؤون رعيته ، والسهر على مصالحها ، والحدب والحرص عليها  وقد كان الرجل من أثرياء الصحابة – رضي الله عنهم – وقد أنفق الكثير من ماله لله تعالى وشهد له رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بذلك بقوله  -: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه بها إلا الصديق، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبو بكر")) وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: أسلم أبو بكر -رضي الله عنه- وله أربعون ألفًا فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله، أعتق بلالًا، وعامر بن فهيرة، وزنيرة والنهدية وابنتها، وجارية بني مؤمل، وأم عميس. - وكان يشترى الأكسية ويفرّقها فى الأرامل فى الشتاء. وفي قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى.... *وَلَسَوْفَ يَرْضَى  "[1] قال القرطبي -رحمه الله تبارك وتعالى  -: الأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر -رضي الله عنه- فأي منقبة إذن أعظم من هذه المنقبة، وأي وسام أغلى من هذا الوسام، أن ينزل قرآن على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيه إشادة بمواقف الصديق -رضي الله تعالى عنه.  وكانت التجارة  مصدر رزقه وكسبه فلما ولي الخلافة ولها أعباؤها وتبعاتها كان ولا بد من صرف وقته وطاقته لشؤون رعيته ، فاتفق الصحابة – رضي الله عنهم – على فرض عطاء له من بيت مال المسلمين يكفيه وأسرته ليُحسن القيام بوظيفته الجديدة فى الأمة ، ولِتعف نفسه عن بيت مال المسلمين وإليك بعض أصول ذلك وشواهده

فى طبقات ابن سعد بإسناده إلى عطاء بن السائب، قال:" لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟، قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟، قال: فمن أين أطعم عيالي ...[2] "

وهنا اتفق الصحابة وفي مقدمتهم عمر الفاروق وأمين هذه الأمة أبو عبيدة على تخصيص مبلغ معين للصديق، ليتفرغ لشئون الخلافة، وأقره جميعهم ولم يوجد من أنكر هذا ، وقد كان أبو الحسن رضي الله عنه أحد من أقروه وقدروه، - وهذا الأثر يردُّ مزاعم الروافض أنه هو الذي فرض لنفسه كل يوم ثلاثة دراهم. فلم يفرض لنفسه وإنما كان ذلك عن نظر الصحابة – رضي الله عنهم - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ , وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ.

[3]

ومع هذا أنظر نزاهته وعفته عن المال العام ،

وقد تمثَّل ذلك فى 1- ردِّه لراتبه الذي تعاطاه وقد فُرض له من بيت المال ، أو قدر ما أصابه من بيت المال راتبا له ، 2-وتمثَّل فى مطالبته لورثته بإحصاء تركته ، وما زاد فى ممتلكاته عمَّا كان يملكه أول يوم فى الولاية والخلافة يتم ردُّه إلى بيت مال المسلمين ، 3- استفراغه للحليب الذي عرف أنه من إبل الصدقة  4-مراجعته لزوجه فى تقدير ميزانية البيت ونفقاته ، فلما وجدها وفَّرت من مصروف البيت قدرا من المال لشراء حلوى اعتبر هذا الذي تم توفيره فائضا وزائدا وردَّه إلى بيت المال  بأثر رجعى ... من لى بمثل هؤلاء فى أمتنا ؟؟؟؟

 فى أوائل العسكري : لما ولى أبو بكر- رضى الله عنه- غدا الى السوق، فقال المسلمون: أفرضوا لخليفة رسول الله ما يُغنيه قالوا: 1- رداءاه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ غيرهما،  2- ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل ذلك،

3- وظهره إذا سافر،  فقال: رضيت، فلما حضرته الوفاة أوصى بأن يُرد ما أخذه من ذلك إلى موضعه من مال المسلمين[4].

وقيل  : كان الذى فرضوا له فى كلّ سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين، فإنّى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإنّ أرضى الذى بكذا وكذا للمسلمين ، بما أصبت من أموالهم، فدفع ذلك إلى عمر. وقيل: إنّه قال: انظروا كم أنفقت منذ ولّيت من بيت المال؟ فاقضوه عنّى، فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف. وقيل: إنّه قال لعائشة رضى الله عنها: أما إنّا منذ ولّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنّا قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فىء المسلمين إلّا هذا العبد، وهذا البعير، وهذه القطيفة، فإذا متّ فابعثى بالجميع إلى عمر؛ فلما مات بعثته إليه، فلما رآه بكى حتى سالت دموعه على الأرض؛ وجعل يقول: رحم الله أبا بكر! لقد أتعب من بعده، يكرّر ذلك، وأمر برفعه. فقال له عبد الرحمن ابن عوف: سبحان الله! تسلب عيال أبى بكر عبدا، وناضحا[5] ، وشِقّ قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت بردّها عليهم. فقال:

لا، والذى بعث محمدا لا يكون هذا فى ولايتى، ولا يخرج أبو بكر منه وأتقلّده أنا.

وقيل: إنّه رضى الله عنه، كان يأخذ من بيت المال فى كلّ يوم ثلاثة دراهم أجرة، وإنه قال لعائشة: انظرى يا بنيّة ما زاد فى مال أبيك منذ ولى هذا الأمر فردّيه على المسلمين. فنظرت فإذا بجرد[6]  قطيفة لا تساوى خمسة دراهم، ومحشّة[7] ، فجاء الرّسول إلى عمر بذلك والنّاس حوله، فبكى عمر، وبكى النّاس؛ وقال: رحمك الله أبا بكر! لقد كلّفت من بعدك تعبا طويلا! فقال الناس: اردده يا أمير المؤمنين إلى أهله. قال: كلّا، لا يخرجه من عنقه فى حياته، وأردّه إلى عنقه بعد وفاته. ثم أمر بذلك، فحمل إلى بيت المال.

[8]

استقر فى وجدانه أن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به فانظر ماذا كان منه وقاية لنفسه من النار : روي أنه أتي له بلبن فشربه فقيل له: إنه من إبل الصدقة فتقيأه، وذلك أنه كره بقاءه في جوفه[9].

وحكى أنّ زوجته اشتهت حلوا، فقال: ليس لنا ما نشترى به. فقالت: أنا أستفضل من نفقتنا فى عدّة أيام ما نشترى به؛ قال: افعلى، ففعلت ذلك؛ فاجتمع لها فى أيام كثيرة شىء يسير، فلمّا عرّفته ذلك أخذه، فردّه فى بيت المال. وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما استفضلت فى كلّ يوم، وغرامة لبيت المال فى المدة الماضية من مِلْكٍ كان له[10].

[1] الليل : 17 -21

[2] الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184.

[3] (حم) 3600 , وحسنه الألباني في تخريج الطحاوية ص530 , وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.

[4] [الأوائل للعسكري ص: 145]

[5]  الناضح: البعير الذى يستقى عليه الماء.

[6] جرد قطيفة، قطيفة بالية

[7] المحشة: حديدة تحرك بها النار

[8] نهاية الأرب في فنون الأدب (19/ 132)

[9] لم أقف على من ذكره على هذا النحو، وإنما روي ابن شبة في تاريخ المدينة 2/703 بسنده عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن نجيح قال: "نزلت على عمر - رضي الله عنه -، فكانت له ناقة يحلبها فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها فحلبت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس" وذكر ابن الجوزي في تاريخ عمر ص 184 أن الذي أفتاه بحله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

[10] نهاية الأرب في فنون الأدب (19/ 134)