يُعلي الإسلام من شأن العقل ويحرره، ويؤيد العلم، ويشيد بالبحث ويحث على النظر في الكون، بل ينشئ العقلية العلمية، ويرفض تلك المستسلمة لكل ما يتوارثه الناس دون مناقشة له.

ولقد اعتنى علماء الأمة ودعاتها ومفكروها بموقف الإسلام من العقل والعلم، وعلى درب هؤلاء سار الدكتور يوسف القرضاوي فأفرد لهذه القضية كتابًا خاصًا تناولها من جوانبها المتعددة. 

-الكتاب: موقف الإسلام من العلم والعقل

-المؤلف: يوسف القرضاوي 

-الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية-وزارة الأوقاف، مصر 

-عدد الصفحات: 320 

-طبعة: 2013

-العدد: 215 من قضايا إسلامية 

ويعد هذا الكتاب هو الأول لفضيلته، الذي يصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية بعد الثورة ليعالج قضية جد خطيرة تعد من أكبر الإشكاليات التي حظيت باهتمام وتفكير العلماء وعنايتهم على مر العصور ألا وهي قضية موقف الإسلام من العقل ومن العلم، وحدود التقارب والتباعد أو الاتفاق والتعارض بينهما إن وجدت.

يجدر بالذكر أن هذه المحاولة ليست المحاولة الأولى للدكتور القرضاوي في بحث قضايا العلم والمعرفة في ضوء الرؤية الوسطية الإسلامية.

وتدور معالجة هذه القضية المتشعبة في إطار العناوين والمحاور التالية:

الإسلام يحرر العقل ويحث على النظر والعلم 

تحت هذا العنوان يشير د. القرضاوي إلى أن العقل هو المنحة الكبرى للإنسان، لذا كان تحريره من كل ألوان الأسر والرق والحجر عليه والحجب عن التفكير الحر، والتعلم المستقل، والبحث الدؤوب، هو من أعظم ما دعا إليه الإسلام في كتابه وسنة نبيه وفي أصوله الفكرية والدينية.

ويدلك على ذلك أن الإسلام قد حرر العقل من أسر الخرافات والأباطيل، فكثيرًا ما دعا القرآن المسلمين خاصة وأهل الأديان عامة إلى أن يجعلوا البرهان العقلي اليقيني هو الحكم بينهم فيما يختلفون فيه من أمور.

كذلك حرر العقل من أسر التقليد سواء كان اتباعًا للآباء أو السادة والكبراء أو حتى سلطان الأساتذة والشيوخ، فضلاً عن اتباع العامة، وهو ما حذر منه نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) بقوله "لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا".

كما حث الإسلام على النظر في الكون بأرضه وسماواته ومخلوقاته.. ليس لمجرد النظر ولكنه نظر العقل المفكر المتأمل المتدبر، لذا كان للعلماء مكانة لا تساويهم بغيرهم "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر: الآية 9).

علم الدين 

وفي محاولة فكرية للتمييز بين علوم الدين وعلوم الدنيا، قرر العلامة القرضاوي أن علوم الدين هي تلك المتعلقة بالقرآن من تفسير وحديث وفقه، وعلم كلام وتصوف وسيرة وغيرها.

وبيَّن أن الواجب نحوها أن يتخصص فيها قوم إلى حد أن يكونوا مراجع بشرية لها، لكنه في الوقت ذاته لم يهمل الإشارة إلى علوم الدنيا، لأن الإسلام علمنا أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بالدين وحده، لذا قال الله تعالى "فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من نصيب، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (البقرة: 200-201)، فعلوم الدنيا إلى جانب علوم الدين تنتج حضارة رائدة تبرع وتخترع وتبدع لتصنع تلك الأمة الشاهدة الوسط التي تحترم الدين ولا تخاصم الدنيا.

انقسام العلوم إلى ما هو نقلي وما هو عقلي 

أما العلم النقلي فهو العلم الديني أو الشرعي الذي أساسه الوحي الإلهي المنزل على الرسول بواسطة الوحي الجلي كالقرآن الكريم، أو الوحي الخفي الذي يوحي الله به إلى قلب رسوله بواسطة رؤيا في نومه، أو نفث في روعه في اليقظة.

وهناك العلوم التي ترتكز على العقل وحده مثل العلوم الرياضية، والفلسفة الحرة، وعلوم الطبيعة، وعلوم الأرض وغيرها من العلوم.

وقد ذكر الدكتور القرضاوي أن المسلمين فتحوا الأبواب لهذين النوعين من مجالات العلم، فكان للعلم النقلي الشرعي رجاله وحماته، وللعلم العقلي رجاله وحماته أيضًا، وكثيرًا ما وجد من العلماء من يجمع بين الأمرين معًا، فهم رجال نقل وعقل ينظرون في المصحف الناطق وهو القرآن العظيم، وفي المصحف الصامت، وهو هذا الكون الكبير.

العلم المذكور في القرآن والسنة يشمل علم الدين وعلم الدنيا 

نفى المؤلف صحة ما شاع عند الغربيين ومن دار في فلكهم من "أن العلم مقصور على ما قام على الملاحظة والتجربة".

كما نفى أيضًا صحة ما يتصوره بعض المسلمين المتدينين من أن العلم في القرآن والسنة هو العلم الديني ولا شيء غيره.

ففي القرآن الكريم آيات أثنت على العلم وأهله من حيث هو علم أي: معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء دون النظر إلى كونه علمًا دينيًا أو دنيويًا.

ومن يراجع نصوص القرآن والسنة يجد أن القليل من هذه النصوص الواردة في الأصلين العظيمين (القرآن والسنة) تشير إلى العلم الديني، لكن أغلب نصوصهما وردت عامة ومطلقة تشمل كل علم ديني أو دنيوي، فهذا:

- آدم علمه الله الأسماء كلها. 

- وعلم يوسف تأويل الأحاديث (وهي الرؤى والمنامات).

- كما علم موسى عندما بلغ أشده واستوى.

- وعلم داود وسليمان منطق الطير.

- وعلم الذي أحضر عرش بلقيس من اليمن.

- وعلم طالوت.

وكل ذلك له أدلته التي يقوم عليها من القرآن الكريم.

الموازنة بين العقل والنقل 

غير أن من الناس من يعترف بالعقل وحده مصدرًا للمعرفة، ولا يعترف بمصدر سواه، ومنهم من لا يعترف إلا بالنقل أو الوحي مصدرًا للمعرفة والحقائق كلها ولا يعترف بمصدر آخر.

ومنهم المتوسطون الذين يجعلون لكل منهما سلطانًا ومجالاً يصول فيه ولا يجور على سلطان الآخر، وذلك من أبرز معالم المنهج الوسط للأمة الوسط، الموازنة بين العقل والنقل، أي بين أفكار العقل الإنساني ونصوص الوحي الرباني.

ومن أهم ما يميزهم أنهم وضعوا الضوابط المنهجية للتعامل مع النصوص الدينية، والتي من شأنها أن تقيم توازنًا بين النظرة العقلية والنظرة النقلية بلا طغيان ولا إخسار، من مثل أنه لا تعارض بين عقل صريح ونقل صحيح، ووصل النصوص الجزئية بالمقاصد الكلية، وفهم السنة في ضوء القرآن.. وغيرها من الضوابط المعتبرة.

تردد العلم بين ما هو خاص وما هو عام 

وتحت هذا العنوان يشير المؤلف إلى أن الأصل في العلوم أنها في خدمة البشر وأنهم يحبون الحصول عليها والإتقان لتعلمها والتفوق فيها.

ولكن الله تعالى جعل لبعض العلوم خصوصية ليست لكل الناس وإنما لنوع منهم هيأه الله لذلك وزوده بأسباب معرفته وما يتعلق به دون غيره، من ذلك: 

-علم تأويل الأحاديث، وهو العلم الذي أُعطِي ليوسف (عليه السلام) ويقصد به علم تأويل الرؤى والأحلام التي يراها الناس.

-علم نقل الأشياء بغاية السرعة من أماكن بعيدة، كنقل عرش بلقيس وهو الذي ذُكرت قصته في القرآن في سورة النمل.

-العلم اللدني الذي منحه الله للخضر في قصته المشهورة مع موسى عليه السلام.

تردد العلم بين الظني والقطعي 

ولما كان أمر الأحكام الظنية والقطعية يختلط على كثير من الناس، كان من الهام أن يشير المؤلف إلى تقرير بعض القواعد الضابطة لمثل هذه الأحكام مثل أنه:

- لا تناقض بين القطعيات.

- إذا تعارض قطعي وظني قُدم القطعي لا محالة بالإجماع.

- إذا تعارض ظنيان يرجع إلى ما يعرف بـ"التعارض والترجيح" في الأدلة.

- لا يحكم على مسلم بالكفر إذا أنكر أمرًا ظنيًا.

- القطعيات هي اليقينية التي يحكم بالكفر على من أنكرها، أو بعضها، أو واحدة منها.

وختامًا فهذا الكتاب يعالج احتياجًا حقيقًيا لهذه الأمة التي سُطر أول كلمات وحيها العظيم بكلمة "اقرأ"، ووردت فيه مادة العلم بتصريفاتها 865 مرة، واستفاضت النصوص فيها تعميقًا للعلم بالحث على التفكر والتعقل والتدبر والتذكر، وقاد الإسلام بذلك العقل، وبحكمة العلم، حضارة عامرة غامرة بالخير للبشرية جمعاء، فمتى تعود؟!