في قرية نائية من قرى مالي التقينا مع داعية من الدعاة يحدوه الهمّ لتعليم الناس وتبليغ الدين ، قام من خلال جهد فردي بإنشاء إذاعة محلية في منزلة ، هذه الإذاعة يُشغِّلها ويديرها ويقدم برامجها بنفسه ، ولا تتجاوز تكلفتها بطارية بقيمة مائة دولار ، ويبث من خلال هذه الإذاعة برامج تعليمية وأشرطة قرآن كريم على مدى ساعتين في الصباح ، وساعتين في المساء ، وحين يسافر يكون قد أعدّ مجموعة من الأشرطة الصوتية وأناب زوجته بتشغيلها فترة غيابه .
ويقبل أهل القرية على سماع هذه الإذاعة ومتابعة برامجها ، وينتظرونها ويتلهفون عليها بشغف .
إن هذا الداعية - الذي ربما لم يحمل تأهيلاً جامعياً - ينتج بعمله هذا على المدى الطويل أضعاف ما ينتجه كثير ممن يملك أعلى المؤهلات.
كثيراً ما نقدِّم أفكاراً طموحة ، ونتحدث عن مشروعات ضخمة ، وكثيراً ما يبدو في حديثنا عن الأعمال والمشروعات تهميش الأفكار الجزئية والأعمال الصغيرة.
ومن هنا تعلو لدى بعض الناس وتيرة النقد، وكلما ارتبط النقد بالأكابر – أفراداً أو مؤسسات - صار أكثر شهية .
ومما لا شك فيه أن مشروعنا الدعوي يحتاج منا إلى أن نفكر بطريقة أعمق ، وإلى أن نقدم برامج طموحة ، وإلى أن نخضع مشروعاتنا للنقد والتقويم ، وأننا نعاني من سطحية في التفكير ومحدودية في الآراء .
لكن هذا قد يدعونا إلى أن نغفل عن أمر آخر ألا وهو الروح العملية والإنتاج .
فمع أهمية الأفكار الطموحة ، ومع ضرورة معايشة تحديات الواقع ، إلا أن ذلك كله ما لم يقرن بجهد عملي يبقى حبراً على ورق .
والناقدون للأعمال والعاملين ما لم يقدموا برامج عملية واقعية فإنهم لا يحققون أمراً ذا بال .
أينما رحلت في المشرق والمغرب ، ولقيت العديد من شباب الصحوة فأنت ترى فئات عديدة من الخيّرين ، وتسمع ما يسرك من الأفكار والآراء ، لكن حين تنتقل إلى الواقع العملي ، وتبحث عمّا يقدمه هؤلاء فسترى أن العامل قليل .
وتزداد المشكلة حين يكون التحليق في جو الأفكار المثالية والمشروعات الطموحة وسيلة نفسية يمارسها أصحابها للهروب عن العمل المنتج ، فحين تبدو أمامهم مجالات للعمل ، وحين يدعون للمشاركة يحتقرون ما يدعون إليه ، ولو أنهم انشغلوا عنه بما هو أولى وأجدى نفعا لكان مسلكهم محموداً ، لكنهم إنما ينشغلون باجترار الكلام وترديد المقولات .
وأمثال هؤلاء ينبغي أن يذُكَّروا بقول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف: 2-3 ] .
وحريٌّ بالمربين والموجهين أن يُخرِّجوا جيلاً يكون العمل أول ما يفكر فيه ، ويدرك أنه إنما يسأل يوم القيامة عما قدَّم وعمل ، وإنما يجزى على عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر .
وهذا لن يتم إلا من خلال قدوات واقعية يرونها ، ومن خلال فتح مجالات عمل يُشرك الناس فيها .
والاهتمام بالعمل لا يعني إهمال الفكر وإلغاءه ، بل نحن بحاجة إلى ننفق المال من أجل الوصول إلى أفكار بنّاءة تختصر علينا الكثير من الخطوات .
لكن ينبغي أن ندرك أن قيمة هذه الأفكار إنما تظهر حين تكون خطوة نحو العمل الإيجابي ، وإلا صارت علماً لا ينفع ، وقد استعاذ من ذلك خير الخلق صلى الله عليه وسلم .
كما ينبغي أن ندرك طاقات الناس وإمكاناتهم ، وأن الداعية الناجح هو مَن يستطيع أن يدفع الناس لأن يعملوا ويقدموا ما يطيقون من جهد وعمل ، وأن يتقي كل منهم ربه فيما يستطيع .
الآراء