المتأمل لكتاب الله يجد أن القصص القرآني شمل ما يقارب سبعين بالمائة من محتواه, وطبيعي عندما نتحدث عن هذا القدر من القرآن الكريم فلا بد أن نعي جيدًا أن هذا القصص ليس للتسلية وإنما للقصص القرآني غاية من أسمى الغايات الواجب على كل مسلم أن ينتبه إليها ويعيها جيدًا.

ولنتأمل سويًا قول الله عز وجل في سورة يوسف؛

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (111)

وفي ذات السياق يأتي قول الله عز وجل في سورة هود؛ (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (120).

فالقصص القرآني كما يتبين من الآيات فيه العبرة والموعظة والتصديق لما نحياه وأيضًا تفصيل لحلول كثيرة لمشاكل تواجهنا وهو للمؤمنين هدى ورحمة كما قال الله عز وجل. 

فالثابت يقينًا أن الأحداث تتشابه مع اختلاف الزمان وإن تغيرت الشخوص والأماكن، ولذا فالرجوع للقصص القرآني والتزود منه واجب لا مناص منه إلا إذا أبينا إلا الوقوع في نفس الأخطاء التي وقع فيها من سبقنا من الأمم, وفي هذا ينصحنا بن مسعود (رضي الله عنه) فيقول فيما أورده الإمام مسلم: "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ" .

وأي شقاء هذا الذي قد يصيب الإنسان إذا لم يعتبر بغيره, والله عز وجل يخاطبنا محذرًا (في سورة الروم) من عدم التأسي بسير الأولين والانتباه لما وقعوا فيه أخطاء تفاديًا لعدم تكرارها فيوجهنا في كتابه الكريم بقوله:(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: 9).

وبما أننا نمر بفترة ميلاد جديد للأمة ونرى بأنفسنا بل ونعايش كم هو صعب ومؤلم المخاض الذي نمر به وجب علينا أن نستطلع سير السابقين من باب التأسي والتعلم وأخذ الدروس والعبر, خصوصًا إذا تشابهت الملامح والأحداث مع زماننا هذا.

فالمتابع المدقق لأحوال مصرنا هذه الأيام يعرف تمام العلم أن أكبر عقبة تقف في طريق بناء نهضتنا واستعادة أمجاد حضارتنا هو إصابتنا بمرض الإتكالية (بمعناها السلبي) فنحن دائمًا لا نحسن إنهاء ما بدأناه (هذا إن بدأنا) لأن كل منا يود لو أنه استراح وألقى التبعة على غيره ليكتفي بالتشجيع أن حدث الإنجاز أو اللوم إن تم الإخفاق, وما حالنا بعد الثورة منا ببعيد. فالكل يعلم حال البلد وما آلت إليه من فساد عم جميع أركانها وضرب كل مفاصلها إلا أنه يود لو أناب غيره في عملية التطهير فيجلس كل منا يراقب وينتقد ويستهجن بل وينزل الشارع محتجًا طلبًا لتطهير إدارات الدولة من الفاسدين دون أن يساعد ولو بأدنى مجهود في التصدي لأي حالة من حالات الفساد التي تقابله في تعاملاته اليومية. وفي هذا الصدد أذكر حادثة حدثت معي في محطة القطار أمام شباك التذاكر, الموقف باختصار أن وقفتنا في الطابور طالت أكثر من اللازم ولا أجد أحدًا يتحرك من أمام الشباك وأتسمع بالطبع لضجر الواقفين ولعاناتهم لحال البلد وما آلت إليه سلوكيات المسئولين عنها من أكبرهم إلى أصغرهم. 

وصاح أحدهم "ده اللي أخدناه من مرسي" فرد عليه آخر "وذنب مرسي إيه في سلوك الموظف اللي في الشباك" فرد عليه غاضبًا "كلكم راع ونحن رعيته، والموظف هذا موظف عنده". فتحركت لأستطلع الأمر فوجدت الموظف يجلس داخل غرفة الحجز ويأكل بأريحية كبيرة, بل ويصب الشاي أيضًا استعدادًا لشربه, فصحت به "هل هذا وقت ومكان أكل وإذا كنت جائعًا لهذا الحد ألا يمكنك أن تأكل بينما تؤدى عملك ولا تعطلنا هنا" وبالطبع لم يلتفت لي الموظف, ولكن العجيب أن من سمعتهم يشتكون ويلومون على الرئيس هم من اشتبكوا معي ونهروني بحجة أنه ليس في قلبي رحمة بالموظف ووفقًا لقولهم "هي الدنيا هتطير لو انتظرناه عشر دقايق ما ياما بنضيع وقت في مواقف تانية" فألجمتني ردودهم وهم من هيجوا الناس الواقفة باعتراضهم, فقلت لهم "فلم تعيبون على الرئيس إذًا" فأجابني الرجل "هو أنت فاكر إن البلد دي هينصلح حالها أصلاً!!!".

أكتفي بعرض هذا الجزء وعدم إكمال باقي الحوار ففي المذكور بيت القصيد وهو توصيف كامل لسلوكيات نلمسها كلنا في مواقف عدة وأماكن مختلفة داخل مصر التي حلمنا بأنها ستتغير للأفضل بعد نجاحنا في إزاحة مبارك وعصابته, إلا أننا نسينا شيئًا بالغ الأهمية وهو أن مصر لن تتغير من تلقاء نفسها وإنما ستتغير ويتبدل حالها للأفضل بتغير أهلها وسلوكياتهم وعاداتهم للأفضل.

وصدق الله العظيم حين قال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد:11).

وبعد هذا التوصيف السريع لبعض ما نعانيه كمصريين من مشكلات نحتاج أول ما نحتاج إلى مواجهتها بأنفسنا, نذهب سويا إلى طرف من سير الأولين ممن عانوا من عقبات كالتي ذكرناها لنرى كيف تغلبوا عليها ونجحوا في إزاحتها عن طريقهم. 

يقول الله عز وجل في سورة الكهف: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)).

الآيات التي قرأناها الآن من سورة الكهف توضح لنا كيف تم حل مشكلة واجهت أمة من الأمم السابقة, وفي تفصيل المشكلة وحلها منهج متكامل وجب على كل ذي بصيرة الأخذ به إن أراد بناء الأمة وحل مشاكلها. والموضوع يحتاج لشرح طويل مفصل نوجزه في عدة نقاط:

أمة وصفها الله عز وجل بأنهم لا يكادون يفقهون قولاً وهذا يمثل عقبة كبيرة في سبيل التواصل معهم وإعانتهم في حل مشكلاتهم كما أنه يمثل قصورًا في إمكاناتهم البشرية.

هذه الأمة تعاني من مشكلة كبيرة (يأجوج ومأجوج) أجادوا توصيفها فهم ملمون بأبعادها ولكنهم فشلوا في حلها.

هذه الأمة تملك على ما يبدو إمكانات مادية كبيرة ولكن تنقصهم كما قلنا الإمكانات البشرية ويتجلى أهم قصور فيهم في حالة الاتكالية السلبية وغياب الإرادة, فرغم أنهم يدركون طريقة حل المشكلة إلا أنهم أرادوا من غيرهم (ذي القرنين) حل مشكلتهم بدلاً عنهم.. ملك (ذو القرنين) يدرك تمامًا كيف تبنى الأمم مجدها, ولذا كان نداؤه (فأعينوني بقوة) هو الباعث والمحرك لهذه الأمة, فهو يعي أن الأمم لن تبنى إلا بسواعد أبنائها وعلى قدر بذلهم في البناء يكون حفاظهم وحمايتهم لما شيدوه بأيديهم.

حلول المشكلات لا تكون بالفهلوة ولا بضربات الحظ, وإنما تكون باتباع المنهج العلمي السليم في بناء الدولة وحل مشاكلها وهذا ما جلاه القرآن لنا في ذكر طريقة بناء السد والمواد التي صنع منها

لا يمكن أبدًا بحال من الأحوال أن يكتمل بناء الأمم وحل مشكلاتها بشقه المادي وفقط وإنما لا بد من الشق القيمي والروحي (الإيمان بالله) حتى نحقق حقيقة الاستخلاف كما أراده الله عز وجل من البشر ويتجلى هذا في قول الملك (هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي), فحضارة تقوم على الأسباب المادية وفقط هي حضارة حكمت على نفسها بالفناء. 

ما ذكرت من نقاط مختصرة من الدروس المستفادة في القصة المذكورة في سورة الكهف, أرى أننا أحوج ما نكون إليها في وقتنا هذا الذي تمر به بلدنا الحبيبة مصر. فنحن وإن كنا نملك الطاقات البشرية الهائلة إلا أننا لا نحسن توظيفها, وإن كنا نعاني من مشاكل لا حصر لها إلا أننا لا نملك الإرادة الكافية والكاملة لحلها, ومع اعترافنا بضرورة قيام كل منا بدوره المطلوب إلا أننا لا زلنا نلقي بالحمل على الملك (الرئيس) وحده. 

وفي هذا السياق يحضرني الموقف الذي سجله لنا القرآن الكريم بين كليم الله موسى وقومه من بني إسرائيل؛ يقول الله تعالى في سورة الأعراف:

(قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)).

وتأملوا معي النداء الموجه من كليم الله موسى لقومه (ويستخلفكم في الأرض) بعد أن ألقوا باللائمة عليه وحده. فالأمة هنا هي مناط الاستخلاف والمعنية بالتمكين لا الحاكم وحزبه, وفي هذا السياق أيضًا ينبغي التذكير أن تخلى الأمة عن واجبها في الإصلاح والبناء يعيقها عن تحقيق التمكين في الأرض ومن ثم يضيع عليها الوعد بالاستخلاف. 

ومن هذا المنطلق أتوجه بالنصيحة للسيد رئيس الجمهورية فهو من ولاه الله أمرنا بانتخابات حرة نزيهة اختاره فيها الشعب بكامل إرادته.
أقول, يا سيادة الرئيس إن ما تعانيه مصر من مشكلات يتطلب منك الآتي:

مصارحة الشعب بحقيقة مشاكله وحقيقة وضع مصر الاقتصادي وحقيقة التركة التي تسلمتها بأرقام سهلة واضحة يفهمها كل متابع ومستمع, وهذه المصارحة مطلوبة على وجه السرعة حتى يعلم كل صاحب مطلب فئوى بحقيقة وضعنا المالي والاقتصادي, وأزيد على سيادتك أنه بدون هذه المصارحة ستكون صيحة (فأعينوني بقوة) صرخة في وادٍ أو نفخ في رماد كما يقولون.

مع المصارحة بحقيقة وضعنا الحالي- الصعب- لا بد من ذكر ما في البلد من مقدرات وإمكانات مادية تساعدها على الخروج من أزمتها وتستنهض بها الإمكانات البشرية الهائلة في أهل مصر.

مع التخطيط العلمي المدروس لحل مشكلاتنا لا بد من توضيح خريطة العمل في حل هذه المشكلات للشعب (كل الشعب) ليعيش معك المشكلة وحلها ويتبناها الجميع فتصبح شغلنا الشاغل فتوجه الطاقات لوجهتها الصحيحة.

وأما الدور المأمول والمطلوب منا كشعب فيتلخص في التالي:

الإيمان الكامل أن بلدنا لن تبنى من جديد ولن تحل مشكلاتها إلا بسواعدنا نحن وهذا يبدأ من إصلاح كل منا لنفسه وعدم الوقوع فيما نشكو منه من الآخرين فكيف تبغي حلاًّ لمشكلة المرور مثلاً وأنت لا تحترم قواعده وتذكر, قبل أن تحاسب الحاكم على تقصيره اسأل نفسك كم مرة طلبت من زميل العمل أن يوقع في دفتر الحضور بدلاً عنك؟؟ وكم مرة قمت أنت بالتوقيع لغيرك؟؟ وهكذا..... فالأمثلة كثيرة......
عدم السكوت على أي فساد مهما كان صغيرًا فالتستر على صغار الموظفين الفاسدين هو من صنع منهم حيتانًا في الفساد. 

الثقة المطلقة في أنه ما من مشكلة وتستعصي على الحل طالما أخذنا بالأسباب وأننا لسنا أقل من دول كثيرة سبقتنا إلى الحضارة والتقدم.

بناء حضارتنا المنشودة يستلزم تضحيات كثيرة وصبر على النتائج فلن تبنى البلد وتحل مشكلاتها في شهور.

الأخذ الأسباب المادية وتطبيق شرع الله في حياتنا من معاملات وأخلاق إلى جانب العبادة الخالصة لله هما من أساسيات هذا البناء المأمول وهذا واجب على الدولة والأفراد.

وفي الختام أرجو من الله أن أكون قد وفقت في عرض هذا النموذج الهام لبناء أمتنا وأسأل الله النفع بما ذكرته والقبول لما كتبته والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. 

-----------------------