رسم القرآن منهج الخطاب الديني أو الدعوة الدينية في آية كريمة من سوره المكية، حين قال: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: 125). فهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى خطابه من الأمة من بعده. إذ الدعوة إلى الله، أو إلى سبيل الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل أمته أيضا مطالبة بأن تقوم بدعوته معه وبعده. وفي هذا يقول القرآن أيضا في مخاطبة الرسول: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف: 108). فكل من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا: هو داع إلى الله، وداع على بصيرة، بنص القرآن "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي". وبهذا كانت الأمة مبعوثة إلى الأمم بما بُعث بها نبيها، فهي تحمل رسالته، وتحتضن دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم للأمة: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"[1].
وقال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد جيوش الفرس: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. من هنا نرى أن آية سورة النحل "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" ترسم معالم المنهج المنشود للدعوة أو الخطاب الديني السليم.
معالم المنهج المطلوب للدعوة للخطاب الديني: وضع القرآن الكريم لمنهج الدعوة إلى الله وإلى سبيله وسائل تعين الداعية المسلم على أداء مهمته وتبليغ رسالته. وقد أوجزها القرآن - بإعجازه البياني - في كلمات معدودة.
أولاً: الدعوة واجب كل مسلم وأول هذه المعالم: العلم بأن هذه الدعوة فرض على كل مسلم. وهو مقتضى الأمر من الله بالدعوة، فكل مسلم مأمور بالدعوة إلى دينه بصورة ما، وبطريقة ما، كما قال تعالى: "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي". كل ما في الأمر أن صورة الدعوة تختلف من شخص لآخر، حسب الاستطاعة والإمكان.
فهناك من يدعو إلى الله بتأليف كتاب أو كتب.
وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء محاضرة في جامعة أو في مركز ثقافي.
وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء خطبة جمعة في مسجد أو إلقاء درس ديني فيه.
وهناك من يدعو بالكلمة الطيبة، والصحبة الجميلة، والأسوة الحسنة.
وهناك من يدعو بالإنفاق على الدعاة، أو على نشر إنتاجهم، أو على تأسيس مركز للدعوة، على نحو ما قال عليه الصلاة والسلام: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا"[2] ونحن نقيس عليه فنقول: من جهز داعيا إلى الله فقد دعا.
ثانيًا: دعوة ربانية إلى منهج الله وثاني هذه المعالم أن يوقن الداعية أنه يدعو إلى سبيل الله، أي طريق الله، أي منهج الله الذي رسمه لهداية الناس حتى يحسنوا العبادة لله وحده، ويحسنوا التعامل بعضهم مع بعض، وبذلك يسعدون في الدنيا ويفوزون بحسن المثوبة في الآخرة. إن الداعية المسلم هنا لا يدعو الناس إلى نفسه أو إلى قومه، بل يدعوهم إلى ربه وحده "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ" (آل عمران: 79)
إنه لا يدعو إلى نظام بشري ولا إلى فلسفة أرضية، ولا إلى قانون وضعي وضع بأمر إمبراطور أو ملك أو رئيس أو أمير، بل يدعو إلى تحرير البشر من العبودية للبشر، فلم يعد - في نظر الإسلام - بشر يملك أن يشرع لبشر تشريعا مطلقا دائما، يحل له ما يشاء ويحرم عليه ما يشاء، كما حدث عند أهل الكتاب في فترة من فترات التاريخ، وهو ما أنكره القرآن بشدة حين قال: "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (التوبة: 31).
آن للبشر أن يتحرروا من عبودية بعضهم لبعض، وربوبية بعضهم لبعض، وأن يكونوا جميعا عبادا لله وحده الذي خلقهم وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة. ولهذا كانت رسائل محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملوك أهل الكتاب مختومة بهذا الآية: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ" (آل عمران: 64).
ثالثا: دعوة المسلمين بأسلوبي الحكمة والموعظة الحسنة وثالث المعالم لهذا المنهج أنه يقوم على دعوة المسلمين إلى منهج الله بأسلوبين أولهما الحكمة، وثانيهما الموعظة الحسنة. أسلوب الحكمة والحكمة يراد بها مخاطبة العقول بالأدلة العلمية المقنعة، وبالبراهين العقلية الساطعة، التي ترد على الشبهات بالحجج والبينات، وترد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول.
كما أن من الحكمة مخاطبة الناس بما يفهمون، وما تسيغه عقولهم، لا بما يعجزون عن فهمه، وقد قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ ومن الحكمة أن تكلم الناس بلسانهم، ليفهموا عنك، ويتجاوبوا معك، كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" (إبراهيم: 4) وليس معنى الآية مجرد أن يكلم الصينيين باللغة الصينية، والروس باللغة الروسية فقط، بل معناه الأعمق أن يكلم الخواص بلسان الخواص، والعوام بلسان العوام، ويكلم الناس في الشرق بلسان أهل الشرق، وفي الغرب بلسان أهل الغرب، ويكلم الناس في القرن الحادي والعشرين بلسانهم لا بلسان قرون مضت.
ومن الحكمة أن نأخذ الناس بالرفق فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وأن نهيئ أنفسهم لتلقي الأمر والنهي قبل توجيهه إليهم، وأن نأخذ بالمنهج النبوي الذي أمر به الأمة في الدعوة والتعليم، حين قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"[3]، ولا تكلف الناس ما لا يطيقون حتى لا يردوا أمرك ويقولوا: سمعنا وعصينا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"[4].
ومن الحكمة أن نحسن ترتيب ما نأمر به وما ننهى عنه، بحيث يأتي كل شيء في موضعه، وفي أوانه، وفي مرتبته. وليس من الحكمة أن نكلم الناس في إحدى الفرعيات، وهم يخالفون في إثبات الأصول نفسها، كأن تدعوهم إلى صدقة التطوع، وقد منعوا ركن الزكاة، أو إلى صلاة الضحى، وقد ضيعوا صلاة الفريضة. أو تكلمهم في الأوامر والنواهي قبل أن تثبت العقيدة أولا.
روى البخاري وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله - وفي رواية شهادة أن لا إله إلا الله - فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلهم، فإذا فعلوا الصلاة فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم…" الحديث[5]. فلم يفرض عليهم فرض الصلاة إلا بعد أن يعرفوا الله. وهذا من الحكمة: أن نثبت الأصول ثم ندعو إلى الفروع. وقديما قال أسلافنا: ما حرمنا الوصول إلا بتضييعنا الأصول.
ومن مجانبة الحكمة: التشديد في النوافل وقد أهمل الناس الفرائض. ومن قواعدنا العلمية الموروثة أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة. ومن حكم السلف: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. ومن ذلك الاشتغال بالمختلف فيه، وقد ضيع الناس المتفق عليه، مثل الانشغال بتغطية وجه المرأة بالنقاب، وعدم الاكتفاء بالخمار (المعبر عنه في عصرنا بـ "الحجاب") وتأثيم المسلمة المختمرة، في حين أن المعركة الآن لم تعد معركة كشف الوجوه، بل كشف الرؤوس والنحور والصدور والذراعين والساقين وما هو أكثر من ذلك. وشاع لبس ما يسمى (الميني جب) و(الميكروجب) ونحوهما. ورأينا الكاسيات العاريات المميلات المائلات. وأذكر أني تكلمت في هذه القضية مع علامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فوافقني على الاكتفاء من المسلمة في عصرنا بالخمار، على أن تترك البلاد التي التزمت بالنقاب على التزامها. ومن الحكمة المطلوبة أن نراعي ما سميته (فقه الأولويات) فنقدم في باب المأمورات العقائد على الأعمال، ونقدم الفرائض الركنية على ما سواها، ونقدم الواجبات على السنن، والسنن المؤكدة على المستحبات.
ونقدم في المنهيات: محاربة الكفر على ما دونه، ونقدم محاربة الكبائر على صغائر المحرمات القطعية، ونقدم المحرمات على الشبهات وعلى المكروهات، ونقدم المتفق عليه على المختلف فيه. ومن الحكمة المطلوبة: أن نأخذ الناس بالتدرج؛ فالتدرج سنة كونية كما أنه سنة شرعية. أما أنه سنة كونية فهذا ما نراه في خلق الإنسان، حيث بدأ نطفة فعلقة فمضغة فعظاما مكسوة لحما ثم أنشأه الله خلقا آخر، ثم يخرج إلى الدنيا وليدا فرضيعا ففطيما فصبيا فيافعا فشابا فكهلا، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً" (نوح: 14). وهكذا نرى خلق النبات، حيث يبدأ النبات بذرة، فينتقل من طور إلى طور حتى يصبح شجرة مثمرة.
وهو سنة شرعية، فإن الله تبارك وتعالى أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرسي العقائد وأصول الأخلاق أولا، كما نرى ذلك واضحا في القرآن المكي، ثم بدأ بأخذه بالجانب العملي، متدرجا بهم شيئا فشيئا، بادئا بإقامة الصلوات التي فرضت قبل الهجرة، ثم بإيتاء الزكاة وصوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ثم بعد ذلك فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا.
وكذلك بدأ بتحريم بعض المحرمات التي تعتبر من الرذائل الإنسانية المتفق عليها، وأنها من أسباب الفساد والاضطراب في الحياة الإنسانية، مثل قتل النفس وفاحشة الزنى، وقتل الأولاد من إملاق واقع أو خشية إملاق متوقع، وأكل مال اليتيم، ونقض العهد، والمشي في الأرض مرحا، ونحو ذلك مما هو أقرب إلى الجانب الأخلاقي منه إلى الجانب التشريعي. ولكني أرى بعض الإخوة الدعاة لا يراعون التدرج قط فيمن يدعونهم، فبعد أن سقطت الشيوعية، في عدد من الأقطار الإسلامية، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفا، وقد ظلت هذه البلاد - وأهلها مسلمون - نحو خمسين سنة، معزولين عن الإسلام علما وثقافة وسلوكا، فهم يجهلون (ألف باء) الإسلام، فكانوا في حاجة إلى أن نأخذهم بالمنهج التدرجي الحكيم، فنبدأ بما اتفق عليه المسلمون لا بما اختلفوا فيه، من العقائد والأحكام. ولكن بعض الإخوة - أصلحهم الله - لم يراعوا ذلك، فبدءوا بشن حملة على عقائد الأشاعرة والماتريدية الذين يدين بمذهبهم جمهور المسلمين في المشارق والمغارب، وتقوم المدارس والجامعات الدينية في أنحاء العالم الإسلامي على تدريسه.
هذا مع أن معركتنا اليوم ليست مع من يؤمن بالله وبلقائه وحسابه، ولكنه يؤول (يد الله) بأنها القدرة أو يؤول (وسع كرسيه السماوات والأرض) بأنه كناية عن سعة ملكه، وعظمة سلطانه. إن معركتنا الحقيقية هي مع الملاحدة الذين يجحدون وجود الله بالكلية، ويقولون: لا إله والحياة مادة، ولا يكتفون بذلك بل يحاربون من يقول ربي الله. ثم بدأ هؤلاء الإخوة الدعاة الطيبون يطالبون الرجال بإطلاق اللحى وتقصير الثياب، والنساء بلبس النقاب، بل بعضهم حمل معه عدة آلاف من (النُّقُب) ليلبسها النساء اللائي بينهن وبين الخمار مراحل ومراحل.
ثم إذا كنا في قلب ديار الإسلام والعرب، مبتلين بحليقي اللحى، فهل نبدأ بدعوة هؤلاء المسلمين الأوربيين الذين عاشوا نصف قرن تحت وطأة الشيوعية بما عجزنا عن مقاومته في قلب بلادنا العربية والإسلامية؟ وهل إطلاق اللحية من أركان الإسلام أو من فرائضه حتى نبدأ بها، ونعطيها هذه الأهمية في الدين؟ كما نرى هؤلاء الدعاة الطيبين يبدءون بحملة على التصوف كله، واتهامه بأنه دخيل على الإسلام، لا يفرقون - في ذلك - بين سني ومبتدع، بين مستقيم ومنحرف.
هذا مع أن الأمة عامة وهذه الشعوب خاصة في حاجة إلى تربية ربانية تخرجها من جحيم المادية المعاصرة التي شغلت الناس بالدنيا عن الآخرة، وبالخلق عن الخالق، وبالمادة عن الروح.. تربية إيمانية أخلاقية هي جوهر التصوف الصحيح الذي عبر عنه بعضهم بكلمة موجزة بأنه الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخَلْق. وبعبارة أخرى: التقوى مع الله، والإحسان مع الناس.
إشارة إلى قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" (النحل: 128). ومن الحكمة التي يجب أن يتحلى بها الدعاة في دعوتهم: الرفق بالمدعوين والتلطف والرحمة بهم والإشفاق عليهم. كما وصف الله رسوله بقوله: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: 159) وهذا هو رسول الله المؤيد بوحيه، ولكن البشر لا يطيقون الفظّ الغليظ ولو كان هو الرسول الأمين.
أسلوب الموعظة الحسنة وإذا كانت الدعوة بالحكمة تخاطب العقول فتقنعها، فإن الدعوة بالموعظة الحسنة تخاطب القلوب والعواطف فتثيرها وتحركها. والإنسان ليس عقلا مجردا، إنه عقل وقلب معا، إنه عقل يدرك ويفكر، وقلب يحس ويشعر، وعلينا أن نخاطب الجانبين فيه معا: الجانب الذي يعي ويدرك ويحصل المعرفة، والجانب الذي ينفعل ويريد، ويحب ويكره، ويرغب ويرهب. ولم يصف القرآن الحكمة بشيء لأن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ولكنه وصف الموعظة المطلوبة بالحسنة "وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ".
فليس المطلوب أي موعظة ولكن الموعظة الحسنة الجميلة الجيدة. فقد يكون حسنها في اختيار موضوعها المناسب للمخاطب. وقد يكون حسنها في اختيار أسلوبها المؤثر فيه. وقد يكون حسنها أنها جاءت في أوانها، وفي مكانها. وقد يكون حسنها أنها لمست وترا حساسا من المخاطبين، فأثرت فيهم. وقد يكون حسنها أنها قدرت ضعف الإنسان، فلم تؤنبه حين يسقط، ولم تجرحه حين يعثر ويخطئ، فكل بني آدم خطاء.
وقد يكون حسنها أنها اتخذت المنهج الوسط في الترغيب والترهيب، أو الترجية والتخويف، فلم تخوف الناس حتى ييئسوا من روح الله، فإنه "لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87) ولم تبالغ في الرجاء، حتى يأمن الناس من مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ليس من الموعظة الحسنة تهييج العامة وإثارة مشاعرهم، وإلهاب عواطفهم في قضايا جزئية، قد يستفيد منها بعض الناس، ولكنها تضر الأمة في مجموعها ضررا بالغا. وليس من الموعظة الحسنة اتخاذ الأدعية الاستفزازية في صلوات الجمع وفي قنوت النوازل وغيرها.
فبعض الوعاظ والخطباء يدعون الله تعالى: أن يهلك اليهود والنصارى جميعا، وأن ييتم أطفالهم، ويرمل نساءهم، ويجعلهم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين. ومن المعلوم أن في كثير من بلاد المسلمين توجد أقليات من النصارى - وربما من اليهود - وهم مواطنون يشاركون المسلمين في المواطنة، وليس من اللائق أن ندعو بدعوة تشمل هؤلاء بالهلاك والدمار؛ إنما اللائق والمناسب أن ندعو على اليهود الغاصبين المعتدين، وأن ندعو على الصليبيين الحاقدين الظالمين، لا على كل اليهود والنصارى. على أني لم أجد في أدعية القرآن ولا في أدعية الرسول ولا في أدعية الصحابة مثل هذه الدعوات المثيرة: يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، وأمثالها. بل أدعية القرآن مثل:
"رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (البقرة: 250).
"فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".
ومن أدعية الرسول:"اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم"[6].
"اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم".[7] وقد قال تعالى: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (الأعراف: 55).
أي لا يحب الذين يعتدون ويتجاوزون في دعائهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري في كتاب الوضوء عن أبي هريرة.
[2] رواه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد.
[3] متفق عليه عن أنس. كما في اللؤلؤ والمرجان (1131).
[4] متفق عليه عن أبي هريرة. اللؤلؤ والمرجان (846).
[5] البخاري مع الفتح الحديث (1458) طبعة السلفية. وقد رواه مسلم أيضا.
[6] رواه البخاري (2933) ومسلم (1742) عن عبد الله بن أبي أوفى.
الآراء