غاية التربية الإسلامية وأهدافها أولاً:
العلاقة بين الهدف(objective) و الغاية(goal):
الهدف لغة: كل شيء مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل ومنه سمي الغرض هدفاً . اصطلاحاً: هو" الغاية المقصودة من رسم الخطط التربوية اللازمة لحياة المجتمع و تقدمه،و الأهداف التربوية هي المحددات التي تحدد و توضح مسار التربية في المجتمع و المرامي التي تسعی التربية لبلوغها من أجل نفع المجتمع" . ويعرّف أيضاً بأنه:"احداث التغيير المرغوب في سلوک الفرد،أو في حياته الشخصية،أو في حياة المجتمع،أو في البيئة التي يعيش فيها الفرد،أو في العملية التربوية نفسها،أو في عمل التعليم بوصفه نشاطاً أساسياً ومهنة من المهن الأساسية في المجتمع" . ويعرّف أيضاً بأنه :"وصفٌ للتغيير المتوقع حدوثه في السلوک المتعلم نتيجة تزويده بخبرات تعليمية و تفاعله مع المواقف التعليمية المحددة" . أما الغاية لغةً : النهاية والآخر . فغايةُ كل شيءٍ نهايته وآخره . ولابّد لنا في هذا السياق أن نميز بين الغايات التربوية (Les finalités pédagogiques) و بين الأهداف التربوية(Les buts de l'éducation)، الهدف:هو جزء من الغاية أي مقصد قريب المدى في زمن محدد و هو من صنع الإنسان. أما الغاية تمثل مقصد بعيد المدى و تکون عامة وشاملة ومجردة، فهي أهداف استراتيجية أو أهداف بعيدة التي هي تصورات للأشياء المراد تحقيقها علی مدی حياة الفرد برمتها،أوحياة المجتمع في أحقاب زمنية متواصلة،فهي الرؤية والرسالة والفلسفة في إطار قيمي معين التي تدخل في الفلسفة التربوية السائدة (بجميع جوانبها مثل القيم،الطموح،الأخلاق) و هي ليس من صنع الإنسان لذلک لايمكن الوصول اليها إلا لدرجات منها فهي تعتبر مبدأً سامياً والمحرك الأول لأي إنسان و من خصائصها أنها تأخذ طابعاً شمولياً.
أما الهدف يکون أقل شمولاً و أکثر تحديداً من الغاية. الهدف مقصد مرحلي ومن خلالها سيضع الإنسان أهدافاً جزئيةً وقابلة للتقويم والقياس.فالأهداف هي نتائج مطلوب تحقيقها ولابد من تنفيذها وصولاً إلى الغاية الأساسية ،أما الغاية فهي الهدف البعيد ولا يمكن أن تُقاس فالهدف هو الصراط والطريق الموصل إلی تحقيق الغايات العظمی. فلكي يحقق الانسان هدفه لابد أن يصل الى مرحلة معينة ومن ثم ينتقل منها الى هدف آخر، فهو طريق من مرحلة الى مرحلة معينة.
لذلک بعد تحقيق هدف تتجدد الحاجة لهدف آخر. فالأهداف من صنع الإنسان و لكل إنسان هدف في الحياة ويجب أن يسعى إليه و بعد ذلك، لابد من غاية عظمی يسعى إليه. فالغاية هي التي تنشق منها الأهداف ، وهي التي تحدد الوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف.
فالأهداف تنقسم إلى أهداف قصيرة الأمد وطويلة الأمد وأهداف كلية وأهداف وظيفية و أهداف استراتيجية وأهداف تكتيكية.
ثانياً: تعريف الأهداف التربوية: يعرّف عبد الله عبد الدايم الهدف التربوي:" بأنه ما سيکون عليه الطالب و ما سيفعله في خاتمه العملية التعليمية،و هو بهذا نتيجة نحدده بصرف النظر عن الوسائل اللازمة لبلوغه، وهذه النتيجة يجب أن تکون حاضرة في بدايتها (في مستويات العليا – المستويات الکبری) لتکون حاضرة في نهاياتها سلوک الطالب".
بناءً علی ذلک أن التربية الإسلامية: هي تلك التغييرات التي يراد حصولها في سلوك الإنسان الفرد، وفي ممارسات واتجاهات المجتمع المحلي أو المجتمعات الإنسانية . فيمكن تعريف الهدف التربوى بأنه "التغير المرغوب ، التى تسعى العملية التربوية أو الجهد التربوى إلى تحقيقه ، سواء فى سلوك الفرد و فى حياته الشخصية ، أو فى حياة المجتمع وفى البيئة التى يعيش فيها الفرد، أوفى العملية التربوية نفسها وفى عملية التعليم كنشاط أساسى وكمهنة من المهن الأساسية فى المجتمع "وهي كالتالي: تنقسم الأهداف التربوية إلى قسمين رئيسيين: "الأهداف والأغراض" أي تشتمل على الأغراض والمقاصد النهائية التي يراد من التربية إنجازها، وتحقيقها على المستويات الفردية والاجتماعية والعالمية. و"الأهداف والوسائل" أي التي تشتمل على الوسائل، والأدوات الفعالة لتحقيق -الأهداف والأغراض .
غاية التربية الإسلامية وأهدافها :
أولاً: التعبد غاية التربية الإسلامية: وذلك أن الله لم يخلق الإنسان إلا ليعبده ويوحده ويعرف سبحانه بأسمائه وصفاته. فالغاية العليا للتربية الإسلامية التي تحكم سائر الأهداف هي تحقيق العبودية لله تعالی،كما قال تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(الذرايات : 56).
وهذه هي الغاية الکبری التي من أجلها خلق الإنسان، وتندرج تحتها جميع الأهداف - موصلة إليها وتفصلها وتوضحها - نظراً لاتساع مفهوم العبادة في الإسلام. فالعبودية المرضية لله لا تقتصر على مجرد أداء شعائر ومناسك معينة: كالصلاة، والصيام، والحج وأداء الشعائر التعبدية وغيرها ،بل إنما تشمل بالمفهوم الواسع حياة الإنسان کلها وعمارة الأرض ،و إقامة منهج الله تعالى في الأرض وتحكيم شريعته في ضوء مبادیء الإسلام المستمدة من القرآن الکريم و السنة النبوية الشريفة،فهذه المبادئ منهج فكري وأسلوب حياة يتجسد في صلة العبد بربه و تنظيم سلوكه وعلاقاته الاجتماعية في مجتمع الذي يعيش فيه، لذلک مفهوم العبودية في الإسلام مفهوم واسع وشامل تشمل حياة الفرد کلها،وكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ،فالعبادة لها جناحان، جناح عبادة الله وحده، وجناح خدمة عباد الله لوجه الله،« هذه الوظيفة هي العبادة لله. أو هي العبودية لله.. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يَعبد، ورب يُعبد.
وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار. ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي خلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام. ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً. وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً. عبداً يعبد، وربّاً يعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. وليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.
التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله. بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله.. كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه .
وقد وصف محمد قطب –رحمه ا لله- ذلك فقال: "إن الإسلام يوسع مفهوم العبادة حتى تشمل كل الحياة؛ فكل عمل يتوجه به الإنسان إلى الله فهو عباد ة، و كل عمل يتركه الإنسان تقربًا لله،واحتسابًا فهو عبادة، وكل شعور نظيف باطن النفس فهو عبادة، وكل امتناع عن شعور هابط من أجل مرضاة الله فهو عبادة، وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة، ومن ثم تشمل العبادة الحياة ، ويصبح الإنسان عابدًا لله حيثما توجه إلى الله "فنسأل الله تعالى أن نكون في عبادة دائمة خالصة ومقبولة لله تبارك وتعالى . بناءً علی ذلک "إن مناهج التربية التي لا تدرك الغاية من وجود الإنسان، لا تستطيع أن تسهم في إعداده لوظيفته، وتحقيق غاية وجوده، وهذا يعني أن هذه المناهج تكون ضالعة في إحداق الخلل في فطرة الإنسان، ومن ثم في عمارة الأرض".
وهذا هي الغاية الکلية التي تعمل التربية الإسلامية على تحقيقها، فلابد أن نرتبط الأهداف والغايات في التربية الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بمبادئ وأحكام ومقاصد الشريعة الإسلامية الكلية لتحقيق هذه الغاية وتطبيق شريعة الله فى هذه الحياة الدنيا . ومن هذا وذاك يتبيّن لنا أن التربية الإسلامية تعمل علی تحقيق هذا المفهوم و وضع الأهداف الفرعية الموصلة والمحققة إليه، ليصيغ الإنسان بما يتفق مع هذه الغاية الکبری وعلى هذا نجد أن التربية الإسلامية لها دور عظيم ومسئولية جسيمة في بناء الفرد والمجتمع والحضارة الإسلامية في طريق هادف هو الطريق إلی الله عزوجل ليعبده على بصيرة کاملة.
ثانياً: أهداف التربية الإسلامية « لقد اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة هي إرضاء الله تعالی ،ورکز همومه في هم واحد هو العمل علی ما يرضيه سبحانه » .« وأن للإسلام غايات وأهدافاً أخری إنسانية واجتماعية في الحقيقة خادمة للهدف الأکبر،وهو مرضاة الله تعالی،وحسن مثوبته. فهذا هو هدف الأهداف،أو غاية الغايات » . فإنطلاقاً من ذلک أن الغاية الکلية للتربية الإسلامية هو تحقيق العبودية الخالصة لله و الحصول علی مرضاته.
تلك الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، ثم نستطيع أن نضع ثلاثة أهداف رئيسية تحت هذه الغاية الکبری التي متدرجة ومترابطة و متکاملة و متناسقة معها و هي:
الأول: بناء الإنسان العابد الصالح : ﺗﻬدف التربية إلى إعداد الإنسان المؤمن العالم بدين الإسلام،المتخلق بأخلاقياته، المجاهد في سبيل الله ،الذي يكون بحق خليفة الله في الأرض ،فهو المسلم الصالح المتكامل من جميع جوانبه: الروحية والخلقية والنفسية والعقدية والتعبدية والجسمية والفکرية والمهنية والاجتماعية، لينشأ شخصيته في توازن تام في كل أبعادها وفقاً لمقاصد الشريعة الإسلامية الغراء،و ذلک من خلال تعريفه بخالقه،لينجم عنه السلوك المستقيم وفق شرع الله لکی يکون شخصيته ذات مثل أعلى في أداء رسالته و مسؤولياته الفردية والاجتماعية و واجباته نحو الله، و نحو نفسه،و نحو أُسْرته ، ونحو إخوانه في الإنسانية و نحو مجتمعه في هذه الحياة،حتى يكون قادراً على تحمل واجباته ومسئولياته حتی ليكون لبنة صالحة فى بناء مجتمعه ولتطبيق شريعة الله و أوامره فى شتى مجالات الحياة.
الثاني: بناء المجتمع الإسلامي، أو بناء خير أمةٍ مؤمنةٍ وفق شرع الله و وفق معتقد واحد و توجيهها للأمة و إخراجها لحمل رسالة الإسلام و نشرها إلى العالم. وبما أن الفرد لبنة خيرة في بناء مجتمعه فإن بناء المجتمع وتنميته يجب أن يکون من خلال بناء أفراده وتنميتهم نحو الخير وصالح العمل،کما قال تعالی: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ »( آل عمران: 110). ومما لاشک فيه" أن الله أخرج هذه الأمة لتكون متميزة بذاتها وتكون في مركز القيادة لكل البشرية ، لا ذيلاً لها غير متميز السمات:« وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً »( البقرة :143) " .
فلابد للتربية الإسلامية أن تهدف إلی بناء خير أمة أخرجت للناس علی أساس عقيدة واحدة ومبدأ واحد ودستور واحد، وطريق واحد وهدف واحد وغاية واحدة، ثم تهدف إلی تكوين المجتمع في إطار شريعة الله.فهذا المجتمع يکون خير أمة في تمسکه بتعاليم الإسلام وإقامة منهج الله تعالى في حياته. لذلک التربية الإسلامية تهتم بتربية الأفراد على أساس تعاليم الإسلام وبثها في المجتمع بشكل عام وفقاً لتصور الإسلام للکون و الإنسان و الحياة حتی تکون قادرة على مواكبة التغيير،وبناء المجتمع المتقدم الذي هو نقطة البداية في بناء الحضارة الاسلامية الصالحة.وذلک أثناء تقوية أواصر الاخوة بين الشعوب وبناء نظام حياتهم، وأسس اجتماعهم على أساس التواصي بالحق و الصبر على جميع أنواعه.
الثالث: بناء خير حضارة إنسانية إسلامية: لأن رسالة الإسلام رسالة لكل البشر لا تعرف حدود الوطن أو العنصر أو القبيلة فقال تعالى : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ » (يوسف : 104). فالإسلام دعوة عالمية، تخاطب الإنسان كإنسان كائناً من كان وحيثما وجد لتعينه على عمارة الأرض، و يحرصه علی تأسيس اجتماعه على أساس روابط العقيدة والانتماء الاسلامي و ايجاد الأخوة بين الشعوب بعيدة عن التعصب العرقي أو اللوني أو وطن الاجتماعي وسيادة روح الجماعة والمساواة بينهم وجعل التفاضل على أساس التقوى والإيمان، حيث يصبح جميعاً متساوون في کل الأمور حتی لايکون فضلاً بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح ، کما قال تعالى: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات: من الآية: 13).
من ذلك نستنتج أن أهداف التربية الإسلامية بشکل عام ترمي إلی:تربية الفرد لأن الفرد الصالح هو الذي يصلح المجتمع ، وبالتالي يؤدي المجتمع الصالح على إخراج الأمة المسلمة ،والدعوة للإسلام في العالم لبناء الحضارة الاسلامية التي تعني بالتقدم والرقي المادي والمعنوي في کل مجالات الحياة .وهي عملية طويلة الأمد لا نهاية لها إلا بانتهاء حياة الإنسان في الأرض ، فالإسلام في أول الأمر يهدف إذن إلى بناء الإنسان الصالح وهذا الإنسان أساس الأسرة الصالحة والمجتمع الصالح والأمة الصالحة.لذلک أن" العلاقة بين مستويات هذه الأهداف واضحة و جلية من حيث أن تعليم الإنسان بکامله يساعد علی بناء ذلک المسلم أولاً و بناء ذلک المسلم أساس لبناء تلک الأمة و بناء تلک الأمة أساس لبناء تلک الحضارة" .
فعلی ذلک لا يقتصر التربية الإسلامية دورها على إعداد الإنسان الصالح ، وإنما يتجاوز ذلك لبناء الأسرة الصالحة والمجتمع الصالح وخير الأمة الصالحة التي هي أساس لبناء خير حضارة إنسانية إسلامية المتسق مع عالمية الدعوة الإسلامية. يقول قطب عن حضارة إسلامية حقيقية:" فهي التي تعمر الأرض بمقتضی المنهج الرباني،و هي التي تجمع أمر الدنيا و الآخرة،و أمر الجسد و الروح ،و أمر العمل و العبادة... هي التي تأخذ الإنسان کله ، بحسياته و معنوياته ،بنشاط جسده و نشاط عقله و روحه ، بإبداعه في عالم المادة و ارتفاعه في عالم القيم...هي حضارة "الإنسان" في افقه الأعلی... يدب علی الأرض بقدميه و قلبه معلق في السماء".
و"لئن كانت عمارة الأرض يقوم بها "الإنسان" كله، فإن الإنسان المؤمن وحده هو الذي يقوم بهذه العمارة بمقتضى المنهج الرباني، فالإنسان الصالح هو الهدف النهائي من منهج التربية الإسلامية، وهو الثمرة المباركة". وفقاً لذلك فإن التربية الإسلامية حريص على بناء المسلم بناء يقوم على الصلاح و الخير وفق شرع الله،وتزويده بالمعارف الإسلامية، والخبرات العلمية اللازمة لتأخذ بيده إلى أعلى مراتب القيم الأخلاقية ثم القيام بإقامة الأمة الصالحة الحاملة رسالة الإسلام إلى العالم وثم إلی بناء خيرة حضارة إنسانية إسلامية وتوجيهها نحو هدف أسمى وغاية المنشوده. أهداف تفصيلية: بناءً على ذلك أن الغاية العليا للتربية الإسلامية هي تحقيق معنی العبودية الخالصة لله تبارك وتعالى التی تنبثق منه ثلاثة أهداف عامة و تندرج تحت کل هدف عام عدة أغراض تربوية جزئية ، لکي توضحها و تفصلها وتؤدي تنفيذها إلى الوصول إلى الغاية الأساسية. فلأهداف تکون مفصلة ومحققة للشخصية المسلمة بجوانبها المختلفة، أو مفصلة ومحققة للأمة المسلمة،أو مفصلة ومحققة للدعوة الإسلامية عالمية وإنسانية. فالتربية الإسلامية تعني منهجًا شاملاً وکاملاً لمختلف شؤون حياة الإنسان لأن أسسها العقدية ومبادئها الفكرية مرتبطة بالعقيدة الإسلامية ليصبح الإنسان عضواً فاعلاً في المجتمع و لتکون شخصيته ذات مثل أعلى حتی تكون قادرةً على تحمّل واجباته ومسئولياته.
أهداف ثابتة وأهداف متغيرة في التربية الإسلامية: من المحاسن والمميزات أهداف التربية الإسلامية (وكمالها وجمالها)هي کونها مشتقة من مصادر التربية الإسلامية الثابتة والمتغيرة حيث يتجلى هذا الثبات في «المصادر الأصلية» المتمثلة من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أما تتجلی المرونة في «المصادر الاجتهادية» : مثل الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف وغير ذلک من ماخذ الاجتهاد،وطرائق الاستنباط ، فكانت هذه المصادر هي الأسس الأصلية للتربية الإسلامية ، کما هي أساس للتشريع الإسلامي. فأحكام التشريع الإسلامي نوعان:
"نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثانى: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها" .
ويبين الدكتور يوسف القرضاوي مجال الثابت و مجال المرن في شريعة الإسلام على نحو أشمل فيقول: " إنه الثبات على الأهداف و الغايات، والمرونة في الوسائل و الأساليب. الثبات على الأصول و الكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات. الثبات على القيم الدينية و الأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية و العملية" . بما أن منهج التربية الإسلامية هو المنهج المستمد من الوحي الرباني في الكتاب والسنة، فإن أسسه ثابتة لا تتغير مثل: القواعد الكلية والمبادئ العامة والأحكام الجزئية التي ورد فيها نص فإنها لا تتغير ولا تتبدل، بينما تظهر المرونة في القدرة على وضع الحلول التي تطرأ في حياة الناس، وذلك بتوجيه العلماء للنظر والاجتهاد في المسائل والحوادث الجزئية التي تستجد وفق ضوابط شرعية.
و علی ذلک"لمنهج التربية الإسلامية أهداف ثابتة وأهداف متغيرة، وتنبثق الأهداف الثابتة من القيم الإنسانية الواردة في شريعة الله مثل الصدق والأمانة والعدل والمساواة والحرية، أما الأهداف المتغيرة فتخضع لتغير الزمان والمكان والناس. أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل، وهذه قيمة ثابتة، ولكنه ترك وسائل تحقيق العدل للإنسان، يقوم به وفقا لظروف الزمان والمكان والناس، وأمرنا بالشورى، وأمرنا بتحقيق العدالة الاجتماعية لكنه ترك لنا حرية اختيار الأساليب المناسبة لنا ولظروفنا في تحقيق العدالة الاجتماعية ... وهكذا".
والمنهج الإسلامي بأصوله الأساسية "القرآن، والحديث" ثابت في مقوماته ومبادئه؛ لأنه كما أراد الله متفق وطبيعة الإنسان، وللإنسان كينونة ثابتة، لا ينتقل منها إلى كينونة أخرى. وما يحدث له عبر العصور من تحولات وأطوار تلابس حياته لا تغير من طبيعته ولا تبدل من كينونته، ولا تحوله خلقا آخر، وإنما هي تغيرات سطحية كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية،بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة...والقرآن كمنهج إلهي واجه بوضوح تلك الكينونة البشرية الثابتة؛ لأنه من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فهو يواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة بنفس المرونة التي يواجه بها الإنسان ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة وهو محافظ على مقوماته الأساسية، مقومات الإنسان.
وفي الإنسان هذا الاستعداد وهذه المرونة، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها، وهي ليست ثابتة من حوله، وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان ذات الخصائص، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان، ومودع خصائصه ذاتها، ومعد للعمل معه إلى آخر الزمان . لهذا يقوم هذا المنهج بإعداد الإنسان الصالح في ضوء المبادئ والقيم الثابتة التي أتى بها الإسلام وذلک باستعمال مختلف الوسائل الحديثة بالمرونة في الشئون الدنيوية والعملية،لکي أن يتکيف الإنسان مع كل حداثة لاتتنافى مع الأهداف الثابتة من التربية الإسلامية.
علی ذلک أن التربية الإسلامية قابلة للتحقق بمختلف الوسائل والطرق ،في حياة المجتمع الذي ينتمي إليه الإنسان ،وتتكيف مع مختلف العوامل و التغيرات الزمانية،و المکانية و الاجتماعية بحسب حاجتها وعلى قدر إمكاناتها دون أن يؤثر ذلك في جوهرها.
المآخذ:
1- الرازي، محمد بن أبي بكر:مختار الصحاح،المرجع السابق،الجزء1،ص 325.
2- هندي، صالح دياب و آخرون:أسس التربية(1989):عمان: دار الفکر للنشر و توزيع،ص21.
3- الشيباني، عمر محمد التومي::فلسفة التربية الإسلامية ،المرجع السابق،ص 282.
4- الخطيب، علم الدين عبد الرحمن:الأهداف التربوية تصنيفها و تحديدها السلوکي(1988).الکوية: مکتبة الفلاح،ص21 .
5- مصطفى، إبراهيم وآخرون: المعجم الوسيط،المرجع السابق،باب الغين ،الجزء2،ص 669 .
6- عبد الدايم، عبد الله: نحو فلسفة تربوية عربية،الفلسفة التربوية و المستقبل الوطن العربي (1991).بيروت: دراسات الوحدة العربية،ص233.
7- الكيلاني ، ماجد عرسان: أهداف التربية الإسلامية(د.ت). دار القلم ،ط،1ص،13.
8- الكيلاني ، ماجد عرسان: أهداف التربية الإسلامية، المرجع السابق،ص،11.
9- قطب ،سيد: فى ظلال القرآن ،المرجع السابق ، الجزء 6 ،ص3387.
10- قطب، محمد :منهج التربية الإسلامية،المرجع السابق،الجزء1، ص67.
11- مدكور، على أحمد :منهج التربية أسسها و تطبيقاتها (2001 ) .دار الفكر العربي ،ص13.
12- القرضاوي،يوسف:الخصائص العاّمة للإسلام،المرجع السابق ،ص16.
13- القرضاوي،يوسف:الخصائص العاّمة للإسلام،المرجع السابق ،ص10.
14- قطب،محمد:ركائز الإيمان،المرجع السابق،ط1،ص380.
15- يالجن،مقداد:مناهج البحث و تطبيقاتها في التربية الإسلامية(1419 هـ) .رياض: دار عالم الکتب،ط2،ص41.
16- ابن القيم،محمد بن أبي بكر: إغاثة اللهفان،تحقيق: محمد حامد الفقي، الرياض: مكتبة المعارف ، الجزء1، ص 330.
17- القرضاوي،يوسف:الإسلام و العلمانية وجهاً لوجه(1997).القاهرة:مکتبة وهبة،ط7،ص138.
18-الكيلاني، ماجد عرسان: اتجاهات معاصرة في التربية الأخلاقية(1992). عمان، دار البشير ، عمان:دار البشير،ص120.
19- مدكور، علي أحمد: منهج التربية الإسلامية، أصوله وتطبيقاته(1987). الكويت،مكتبة الفلاح، ص268.
20- سالم، عبد الرشيد عبد العزيز: طرق تدريس التربية الإسلامية نماذج لإعداد دروسها(1982). وكالة المطبوعات،ط3، ص238-237.
الآراء