قيل: إنهم فصلوك من جماعتهم؟ فلماذا تُبقي عليهم؟ قلتُ: إذا استضعفوني أيام قوتهم، فلن أستضعفهم أيام حريتي...!

وما هي إلا ساعات حتى كانت القيود في يدي!جاءت الشرطة بعد منتصف الليل بساعة، وطرقت الباب ففتحتُ، ودخلوا يديرون عيونهم في أرجاء المكان، ثم أفهموني بأدب أن أجيء معهم! وعرفت الوضع، وكانت إحدى بناتي قد استيقظت، فصاحت: بابا، فأمسكتها بلطف، وقلت لها: لا تخافي، سأعود بسرعة إن شاء الله، وقلت لزوجتي: أعدي حقيبة فيها عدد من الثياب...

وانطلقت السيارة بنا إلى سجن طره...نظر الضابط إليّ نظرة سيئة، ثم أمرني أن أخلع ملابسي وأرتدي ملابس السجن فاستجبت، ثم نظر مرة أخرى وصاح بغضب: في رجلك جوربٌ؟ ممنوع! فخلعت الجورب، واقتادني اثنان من الجنود إلى "الزنزانة" المعدَّة لي، وأرياني داخلها، على ضوء خافت، "جردليْن": أحدهما لقضاء الحاجة، والآخر غطاء! ثم أوصدا الباب وتركاني وحدي في ظلمة يضيئها جو السماء من خلال كُوَّة في السقف...

كأنما حدث كله مباغتة بعيدة التصوُّر! فبقيت مكاني أفكر كيف سأحيا هنا؟ وعلى أي نحو وهل سأعذب كثيرا؟ وبينما أنا في استغراقي سمعت أذان الفجر، فصليت إلى ما ظننت أنه قبلة، ولفَفْتُ حذائي في سراويل معي، وجعلته وسادة، واستغرقت في النوم، بعد أن قلت لربي: جعلت زمامي في يدك، آمنت بك وتوكلت عليك، "رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين"، لن أفكر في أسرتي أبداً فهي في ودائعك، اخلفني في أهلي بخير...! ثم رحت في سُبات عميق!

وصحَوتُ مع مطلع الشمس، فإذا خنفساء إلى جواري تزحف على الأرض المليئة بالحفر والشقوق، فقلت لها ضاحكاً: متى اعتقلت أنت الأخرى؟ امضي بسلام فلن يمسّك مني سوء...

وبدأتُ قراءة القرآن الكريم، واضعاً نصب عينيّ أن أختمه كل أربعة أيام...

كان الأكل رديئاً جداً، ولكنه يقيم الأوَد مهما تقزّز المرء عند تناوله! أما المشكلة التي خشيت منها على حياتي، فهي البرد الذي يهبط من كوّة مفتوحة أبداً، لأنها المنفذ الوحيد إلى الدنيا، ففي أثناء الليل أشعر بتيار يريد فتح جنبي الأيمن أو الأيسر كلما تقلبتُ، وأين المفر؟...

وتضرّعت إلى السجّان بعد أن آنست منه نظرات عطف أن يصنع لي شيئاً، فأتاني بقطعة خيش كبيرة، جعلتها على "الأسفلت"، واتخذت "البطانيتين" المهلهلتين غطاءاً...!

وأحسّ الإخوان المسجونون بمقدمي، وكان بعضهم يتطوع مع الموظفين الرَّسميين في الخدمة والنظافة، فاتفقوا على إراحتي من كنس المكان الذي أعيش فيه، ومن رمي فضلاته بعيداً، وعرفت بعدُ أن الذي قام عني بهذه المهمة مدرس بإحدى المدارس الثانوية...

في غبش الفجر يوماً ما جاء المدرس النبيل، ومعه أخصائي اجتماعيّ معتقل مثله،وأخذا يؤديان عملهما! ونظرت إلى أنضر شباب مصر يُهانُ عمداً لأنه مسلم! وهزّني الألم، بيد أني تماسكت حتى انصرفا، فوضعت وجهي تلقاء الجدار، وبكيت في صمت! فلما سمعت خفق أقدامهما عائدين أصلحت هيئتي بسرعة، وكلّماني فرددت عليهما، ونمَّ صوتي عما بي، فإذا هما يقولان: أكنت تبكي؟ فقلت: والله من أجلكما!

فضحكا وقالا: لا تعذيب هنا، نحن هنا في راحة، التعذيب في السجن الحربي، وفي القلعة، وفي... وذكرا أماكن أخرى... الأهوال هناك، أهوال من وراء الخيال!

إنني في كتابي قذائف الحق نقلت أطرافاً من صنوف النكال الذي نـزل بأولئك الشباب فهلك، وفقد من بقي صوابه أو سكينته، أو طعم الحياة نفسها إلى أن يلقى الله، وذلك كله لتنصرف الأمة عن دينها، لتنسى الإسلام، وتسكت عن المناداة بكتابه وسنته!

ومع المحن السود التي مرّت بالعاملين لهذا الدين إبّان هزيمته؛ فإن ألوفاً مؤلفة من الشباب الأبرار ظلوا أوفياء للحق مخلصين لله، والغريب أن ضرب الإسلام وبنيه أصبح عادة مألوفة لكل وغد يملك السلطة، هذا يخدم الشيوعية، وذاك يخدم الصليبية!

وكلتا الجبهتين تخدم اليهود، وترى أن إسرائيل خلقت لتبقى... وكلتاهما تعتمد في منهجها السياسي على عقيدة صلبة، أما العقيدة عندنا –وهي الإسلام- فمنكورة محصورة، يستطيع أي تافه أن يتناولها بالهمز واللمز، ثم يمضي لشأنه كأنه لم يفعل شيئاً!

وعُدْت من خواطري إلى الواقع الذي يحيط بي، وتذكرت أهلي وأولادي وعزلتي، ثم لمتُ نفسي سريعاً على هذا الضعف، إنني استودعتهم الله، فلا معنى للخشية، ولقد بقيت في منفى الطور قريباً من عام فماذا حدث لهم؟ وهذا فلان ترك ابنته طفلة، ثم خرج من السجن فوجدها تزوجت، إنه غاب عنها طويلاً، فهل غاب الله عنها لحظة؟ كلا! وعادت السكينة إلى نفسي، وقررت أن أنكبَّ على تدبُّر القرآن الكريم ما بقيت هنا، وأن أضع نصب عيني قول الله لنبيه: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ (المزمل:8-9).

وشرعت في إنفاذ خطتي العلمية، مستبعداً الأمل في مخرج قريب! وبعد أن صليت العشاء سمعت ضجة غير معتادة، وانفتح الباب، وتدلّى سلك من الكوّة فيه مصباح كهربيّ، ودخل ضابط كبير عرفت أنه رئيس المعتقل، وسألني:شيخ غزالي: تطلب شيئاً؟ قلت: الملابس عندكم! فأمر فجيء بها! وشرعت أرتديها، واقتادوني إلى إدارة السجن، فشربت كوباً من الماء لأول مرة من عشرة أيام في إناء زجاجي! ثم نقلتني سيارة إلى وزارة الداخلية، فقلت في نفسي: الآن يبدأ التحقيق...

ووقفت أمام ضابط جالس في ركن الحجرة، وقفت على بعد منه، وتهيأت للأسئلة، وإذا هو يقول لي:تفضل! فنظرت حولي فلم أجد كرسياً أجلس عليه!

فأعاد الأمر: تفضل! فقلت له: ماذا أفعل؟ قال: تفضل عد إلى بيتك!

فخرجت وأنا لا أصدق نفسي ولا ما حولي، وسرت قليلاً بجوار الوزارة فوجدت عمارة شاهقة مكتوباً عليها اسم الجلالة مناراً بالكهرباء...

شعرت برغبة عميقة أن أقبِّل اسم اللهَ لكن كيف؟ طويت حبي في قلبي، وأخذت سيارة إلى بيتي، وكان منظر القاهرة غريباً أمام عيني، لقد كنت في الجبّ، والآن أن على ظهر الأرض، وعلى قيد الحياة، ما أجمل الحرية! وما أجملها مع الأمن والإيمان!

إذا كان الله قد فكّ إساري فليكن شكري لنعمائه أن أسعى في فكّ إسار الآخرين، لأقل للناس: إن الله حق، وإن الجهاد في سبيله مضمون الثمرات في الدنيا والآخرة، صحيح أني أهون المؤمنين عذاباً، بيد أني أسرعهم إلى الله كلما دهمني كرب، ومازلت أرجو عافيته، وأفرح بها لنفسي ولغيري من عباد الله...!