کلمة الأمین العام لجماعة الدعوة و الإصلاح الأستاذ بیرانی فی اجتماع الهیئة التنفیذیة المرکزیة فی تاریخ 21 / 11 /2013م
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذی جعل الأمة الإسلامیة خیر أمة أخرجت للناس، وکرّمها بالرسالة الخالدة التی لاتبقی محدودة؛ لا فی زمان ولا فی مکان لتکون المنهج الأقوم والسبیل الأمثل فی الحیاة الدنیا والآخرة؛ والصلاة والسلام علی من کانت الغایة من بعثته الرحمة للعالمین جمیعاً و استرداد إنسانیة الإنسان وضمانة حقوقه وحریاته الأساسیة وعلی آله وأصحابه وأتباعه أجمعین.
أقدّم تحیاتي إلی السیدات والسادة، إخواني وأخواتی الکرام، مسؤولي الهیئات التنفیذیة ومساعدیهم ومساعدي الأمين العام؛ وأهنئ السیدات والسادة الکرام و الأمة الإسلامیة بحلول العام الهجري الجديد عام1435 و نرجو من الله الخیر والراحة والعافیة والطمأنینة والرقیّ والرشد للأمة الإسلامیة والمجتمع الإنساني.
في إطار المبادئ والأصول الرئیسیة للجماعة، أقدّم لحضراتکم کلمات حول الحقوق والحریات الأساسیة للإنسان من منظور الإسلام.
مصطلح حقوق الإنسان بمحتواه و فلسفته یکون من الاُمور الاستیرادیة والغربیة ولکن في کثیر من المجالات یلائم القیم الإسلامیة.
الحقوق و الحریات التي تناقش حولها في عالمنا الیوم لیست مضادة للدین بل استفادت من مبادئ الإسلام فی کثیر من المفاهیم، وقد نجد فیها المشاکل والنقائص في المقارنة بحقوق الإنسان في الإسلام. فحینما یناقش حول حقوق الإنسان من وجهة نظر الدین و الإسلام، لا یجوز عدم الاهتمام بمحاولات الآخرین في هذا المجال.
من الواضح في صیاغة الحقوق في العصر الراهن أنها استمدت من الأدیان السماویة؛ خاصةً النصرانیة و الیهودیة و الإسلام؛ كما استمدت من الحضارات السالفة مثل حضارة مصر و الصین و الهند و حضارات البابلیة والزردشتیة و الآشوریة والإغریقیة و من محاولات المفکرین و الفلاسفة مثل جان لاک، منتسکیو، جرجی بنتام، جان استوارت میل، روسو، اسپینوزا و غیرهم، هولاء لعبوا دوراً مهماً و خالداً في تبیین و توسیع الحقوق و الحریات الإنسانیة.
مکانة حقوق الإنسان من منظر الإسلام:
من النعم الکثیرة التي أسبغ الله علی الأمة الإسلامیة وجود الرسالة الخالدة و الدائمة التي مصدره الوحی و یبیّن مجملها و کلیاتها و خوّل تبیین الجزئیات و بیان تفاصیلها إلى العقل، حتی یبیّن الذین یملکون قدرة و ملکة الاستنباط هذه الجزئیاتِ في إطار الأصول المقبولة والمؤیدة فی أیّ زمان ومکان. لاشک إنجاز هذه المسؤلیة الهامة و الخطرة من ناحیة الإنسان یکون أمراً میسّراً و ممکناً، لأنه من خصائص هذه القیم و النصوص هی:
1- استيعاب التنوع و التعدد للمجتمع البشری و التطورات والتقدّم السائد علی الحیاة البشریة و لا یبقی في إطار زمان و مکان أو ظروف أو حالات خاصة کما یقول الله تعالی عن نفسه " یسأله من فی السماوات و الأرض کل یوم هو في شأن " ( رحمن 29)
2-التأکید على مکانة العقل في الإسلام واحترامها کنور لفهم الحقائق وبیان الجزئیات وتفاصیل النصوص الشرعیة و السیر في الآفاق و الأنفس. إن العقل أداة في خدمة الدین لا في ضده، العقل هو القدرة التی یستطیع الإنسان بها أن یستخرج و یستنبط من النصوص. في الواقع، العقل مُعین و مساعد للوحی و النقل الإسلامی. لذا قال الأجلاء " ما عُرف الله إلّا بالعقل و لا أُطیع إلّا بالعلم. العقل، أداة معرفة الله؛ والعلم أداة إطاعته: لکل شیء جوهر و جوهر الإنسان هو العقل. یقول الله تعالی " أفلم یسیروا في الأرض فتکون لهم قلوب یعقلون بها " (حج 46 )
استخدم القرآن المجید مصطلح القلب للعقل و یری کافة العلماء أنّ محل العقل هو القلب و قالوا العقل، فعل القلب أو مکان العقل في القلب، وليس المراد بالقلب ذلك العضو الصنوبری الشكل . یستخدم القرآن المجید في132 موضع کلمة القلب بمعنی العقل. نحو : "إنّ في ذلک لذکری لمن کان له قلب أو ألقی السمع وهو شهید " (ق 37) إنّ العقل نور معنویّ في ضمیر الإنسان الذی یری القلب به المطلوب، یمیّز العقل حیث لا یُدرک عملٌ بالحواس ؛ لذلك قیل «بدایة المعقول نهایة المحسوس». حینما لایدرک بالحواس يمكن أن یدرک بالعقل. في وجهة نظر الإسلام یضِلّ العقل و یتحّیر إن لم یکن مع الوحی و إن لم یهتدِ به ولیس الدینُ قابلا للفهم إن لم یکن العقل موجوداً. یقول الإمام محمد الغزالی و العلاّمة راغب الإصبهانی : العقل مع الشرع نور علی نور.
3- للإنسان مسؤولیات، قسّمها راغب الإصبهانی إلی ثلاثة أقسام، یقول راغب الإصبهانی: الأفعال المختصة بالإنسان ثلاثة، الأول: خلافته المذکورة في هذه الآیة " ویستخلفکم في الأرض فینظر کیف تعملون "
( اعراف 129)
الثاني: عبادته المذکورة في هذه الآیة " وما خلقتُ الجن والإنس إلّا لیعبدون" (زاریات:56)
الثالث: عمارة الأرض المذکورة في هذه الآیة " واستعمرکم فیها " ( هود 61)
یوضح الأستاذ أحمد الراشد هذه المسألة الهامة: الخلافة الاقتدائیة، العبادة التوحیدیة والاستعمار الإیماني. بناء على ذلك یمكن القول بأهلیة الإنسان لحمل رسالة الدین و بیان الجزئیات والتفاصیل ؛وغایةُ رسالة الدینِ تحقیقُ السعادة و الخیریة للإنسان في الدنیا و الآخرة .
وحول حقوق الإنسان وحرياته يمكننا القول بأن من الحقوقِ الإنسانیةِ إستئصالُ شأفة الآلهة المزعومة و سلطة تأله البشریة على البشر الذي جعل القيم اللامعصومية الانسانية فوق القيم الدينیة و الوحی الإلهی. ومن الحقوق وحریة الإنسان هو أن لا یکون للإنسان معبود إلّا الله، لکن مع الأسف في کلّ عصر و زمنٍ قد کانت آلهة مزعومة قد سلبت الحریات و حقوق الإنسان و قللتها کما کان یفرض الرهبان النصرانيون أنفسهم علی الناس و یدعون أنهم خلیفة الله في الأرض و یستطیعون التدخل في عفو و غفران ذنوب الآخرین و تغییر مصیر الإنسان و یملکون الإنسان و الأرض عندما نشأت ظاهرة ملوک الطوائف و یفرضون إرادتهم کما یریدون.
من منظور الدين، الوحی عارٍمن الخطأ و یبقی معصوماً على مدى الزمن، و لایضیق في إطار الزمان و المکان أبداً؛ و استنباط الإنسان من النصوص یمکن أن يصاب بالخطأ أو یضیق في إطار الزمان والمکان.
علی حسب تعاليم الدین فإن ادعاء العصمة لاجتهاد أیّ إنسان أو جماعة من البشر أمر لایعقل ؛ ولا یخرج أیّ استنباط أو اجتهاد من دائرة النقد. لو ادعی جماعة أنّ استنباطهم من القرآن و السنة معصوم فقد انحرفوا و التبس إیمانهم بالظلم، کما یقول الله تعالی في القرآن " الذین آمنوا ولم یلبسوا إیمانهم بظلم" (( أنعام : 82 ))
الحریات الأساسیة للإنسان في الإسلام هي محور مقاصد الشریعة. فی الواقع إن المعارك التي دارت بین الأنبیاء و أعدائهم کانت من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان و صیانته، لإنّ النضالَ مع الطواغیت کان لأجل إبطال ألوهیة الإنسان و كائنات أخری؛ و أنّ الله حاکم علی جمیع الناس و الكائنات. إن التوحید یعنی تحریر الإنسان؛ والإنسان الموحد یتحرر من جميع الأغلال والقيود، إلّا القيود التي تعطیه العزةَ و الکرامَة و العفةَ.
اهتمّ کثیر من العلماء و الفقهاء بالتکالیف الشرعیة و الأمور والنواهي في العقیدة و العبادة والأخلاق والمعاملات والأصول و الفروع و مراتب الحکم الشرعي في الفعل و ترک الفعل؛ و استنبطوا في النهایة أنّ الشریعة الإسلامیة جاءت لتحقیق مصالح العباد والمحافظة عليها أمام الفساد ( جلب المنافع ودفع المفاسد ). اهتم بهذا الموضوع العلماء الأجلاء المتقدمون مثل الإمام الحرمین الجوینی و الإمام الغزالي و الآمدی و ابن تیمیة و غیرهم و قد دارس وشرح الإمام الشاطبی هذا الموضوع ورتّبها بأبدع صورة في کتابه القیّم ( الموافقات ) وإن هذا الكتاب يعتبر مصدرا أساسيا في کثیر من الجامعات في شتى أنحاء العالم.
علی حسب قول العلاّمة الشاطبی فإن مدار جمیع الأحکام الشرعیة هی الکلیات الخمسة أو الضروریات الخمسة ( حفظ الدین وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال ) - ونناقش اليوم کلا منها بصورة وجیزة :
الأول: حفظ الدین:
الدین مصدر الحق والعدل والاستقامة وعلو الإنسان ورشده وحاجات فطرته و ضروريات حیاته، کما یقول الله تعالی في القرآن: "فطرة الله التي فطر الناس علیها" ( روم 30) " کان الناس أمة واحدة" ( بقره 213 )
یقول الدكتور القرضاوي حول الدین : إنّ الدین هو سر الوجود و جوهر الحیاة و هو لیس مفروضاً علی الإنسان من خارجه بل هو نابع من فطرته التي فطر الناس علیها. فالإسلام أخلی سبیل الإنسان في قبول الدین أو رفضه حتی ینتخب وحده؛ یقول الله تعالی في القرآن " لا إکراه فی الدین " ( بقره: 256) " و لو شاء ربک لآمن من في الأرض کلهم جمیعاً أفأنت تکره الناس حتّی یکونوا مؤمنین" (یونس: 99) " لیس علیک هداهم" ( بقره: 272) " فذکر إنّما أنت مذکّر لستَ علیهم بمصیطر" ( غاشیة: 22-21)
علی الرغم من عظمة الدین وحاجة الإنسان إليه لم یکره الإسلام ُالإنسانَ لقبوله و لن يکرهه بل لایزال الطریق الوحید لقبول الدین هو العلم والفهم والمعرفة والتفکر والأدلة والبرهان. مشروعیة القتال في سبیل الله قد کان لرفع الظلم وحمایة حریة الإنسان، خاصةً حریة الاعتقاد؛ ولیس القتال لإکراه الناس علی الدین بل وقع القتال في سبيل تبلیغ الدین والدعوة إلی الله و محو الظالمین الذین یمنعون من وصول النداء الإلهی إلی الناس و تحریر الإنسان من عبودیة الإنسان و إتمام الحجة علی الملحدین.یقول خالد بن الولید: إنّا لانُکره أحداً علی الإسلام ولو کان الکافر یُقاتَل حتی یُسلم فذلک أعظم الإکراه علی الدین" لأنّ حق التدین و الحریة من أهم حقوق الإنسان و ما کُتب الجهادُ إلّا لحفظ الدین وحریة الاعتقاد و حق التدین.
الثاني: حفظ النفس وحق الحیاة:
الحیاة هبة الله و حق مقدس و مضمونة لکلّ إنسان. وجب علی کل الأفراد والمجتمعات و الدول أن تحمیها و لا یجوز قتل أیّ إنسان دون دلیل شرعی في الإسلام. من مظاهر مکانة حفظ النفس وحق الحیاة في الإسلام هو تحریم القتل و الانتحار و حرمة سلب حق الحیاة؛ یقول الله تعالی في القرآن "و لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ "( انعام: 151) " من قتل نفساً بغیر نفس أو فسادٍ في الأرض فکأنّما قتل الناس جمیعاً" ( مائده: 32)
الثالث: حفظ العقل:
العقل ملکة و بصیرة للفهم والتفکر والإرادة والاختیار. العقل في الإسلام هو أساس التکلیف والفضل والتکریم، العقل میزة خاصةٌ یمتاز الإنسان بها، یقول الإمام القرطبی " إنّما التکریم و التفضیل بالعقل و به یُعرف الله و یفهم کلامه" کل فعل عطّل عملیةَ العقل والتعقل کان حراماً لأنّ حفظ العقل من مصالح الدین، علی ذلک فإن المسکرات حرام؛ لأنّه یُزیل عقلَ الإنسان( کل مسکر خمر و کل خمر حرام )
الرابع: حفظ العِرض والنسل:
إن حاجة المرأة و الرجل بعضهما إلی بعض أمر فطریّ و ضرورة ماسة لبقاء النسل، لذلک فإن تأمین هذه الحاجة الأساسیة بشکل مشروع و المحافظة علیه و حمایته، یعتبر من حقوق الإنسان المبرمة في الإسلام کما یعدّ تأمین الراحة و الطمأنینیة للمرأة و الرجل و صیانة الأسرة من الحوائج الضروریة لکل إنسان. حفظ النسل أداة لصیانة العرض و مراعاة حقوق الأولاد و الاجتناب من الاختلاط و یُتمهم و شیوع الفساد والأمراض الاجتماعیة و الشهوانیة؛ و یعّد غض البصر وعدم الاختلاط مع الأجانب و عدم إشاعة الفحشاء وحرمة القذف من أحکام حمایة النسل في الإسلام.
الخامس: حفظ المال:
یمیل الإنسان إلی المال والملکیة والتصرف، لأنّ المال أداة لقوام الحیاة وبقائها؛ یقول القرآن في سورة طه" إنّ لک أن لا تجوع فیها ولا تعری وأنّک لا تظمأ فیها ولا تضحی" ( طه: 118،119) إنّ بعض المفسرین ربطوا هذه الآیة بالحیاة الدنیا وعلی هذا وجب علی کل إنسان القیام بتأمین المسکن واللباس والأغذیة.موضوعات کالبیع و الشراء و الهبة و المشارکة و الإجارة والمضاربة و الصنعة و تحریم السرقة و الغش و التدلیس و الإسراف و الإحتکار و إضاعة الأموال و...، جمیع هذه القضایا تقع في دائرة حفظ المال؛کلما روعیت هذه المقاصد الخمسة تتمتع حیاة الإنسان بنعمة الأمن والاستقامة والدوام و یدخل أقلّ ضرر في حیاته. ترتبط هذه الآراء ببعض العلماء و الأئمة القدامی؛ أمّا العلماء المعاصرون مثل ابن عاشور، والقرضاوی، ومحمد عمارة، یعتقدون أنّ حریة الإنسان نفسها من مقاصد الشریعة و علی هذا جاء الشرع لتحریر الإنسان. یقول الدکتور القرضاوی حول هذا الموضوع: "تحقیق الحریة قبل تطبیق الشریعة لأنّ الشریعة لا یمکن أن تُطبّق تطبیقاً سلیماً في جو یَفقِد الناس فیه الحریة" کما یقول الدکتور محمد عمارة : " من منظر الإسلام، الحریة ضرورة إنسانیة و فریضة شرعیة و واجب دینی و جاء الدین لتحریر الإنسان. مع الأسف هناک بون شاسع بین العالم الإسلامی من الناحیة النظریة و من الناحیة التطبیقیة وبین ما أکد علیه الإسلام ؛ و مع عِظم مکانة الحریة وحقوق الإنسان في الدین یتم أکثرإضاعة المال وسلب الحقوق وحریات الإنسان في العالم الإسلامی؛ و مازلنا نتخبط في إطار العصبیة والاختلاف وعدم قبول الغیر؛ و لکن الغرب دون اهتمام باختلافات القومیات و الدیانات واللغات یستقبل العلماء الحاذقین و الصفوة والخبراء و متخصصی العالم الإسلامی ویستفید منهم في مواقع هامة.
والمسلمون -لابتعادهم من تعالیم الدین وعدم الاهتمام اللازم بها؛ بدل الوحدة والأخوة و مراعاة حریات بعضهم بعضاً و التجنب من حرمان الآخرین من الحقوق التي أعطاهم الله -یوفّرون أسباب إضاعة الحقوق و هتک الأعرض والظلم و الفساد و التفرق والعداوة؛ یقول الله تعالی: " تلک الدارُ الآخرة ُ نَجعلها للذین لا یُریدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبةُ للمتقینَ" ((قصص: 83)
لذلک تطلب الجماعة من الأعزاء :
١-الاهتمام بالحریة و حقوق الإنسان و الدیموقراطیة و ترویج ثقافة الوحدة وقبول الغیر والدفاع عن الحقوق وحریاتکم وحریات الآخرین.
٢-الاهتمام الجاد و اللازم بقسم الأخوات و النساء و بذل الجهد لرفع النقائص و إزالة الموانع اللامنطقیة و اللاضروریة وإزالة نظرة أفضلیة الرجال علی النساء و الاعتناء بأمور الشباب والاعتماد علیهم في تفویض المسؤولیات علی حسب القدرات و الکفاءات. ٣-الاهتمام بتخصص الأفراد؛ وبما أن الجماعة قد حددت ستة أهداف و اثنی عشر إستراتیجیاً لسنوات أربعة، فإنها علامة علی صيرورة تخصص الأعمال في الجماعة.
الآراء