معايير التقييم للدول أو للأشخاص الذين مثلوا الدول لابد أن تكون محل اتفاق بين الباحثين فى التراث الإسلامى حتى نستطيع أن نصل إلى نتيجة وإلا إذا اختلفا فى الأصول فإن اختلافنا فيما تؤدى إليه من نتائج سيكون أكثر اختلافا. ومن هذه المعايير التى تعد مبادئ إسلامية عامة ، قامت عليها الأدلة الشرعية : مدى احترام هذه الدول ، أو هؤلاء الأشخاص الذين حكموا دولا للإنسان من حيث كونه إنسانا، جعله الله تعالى أكرم مخلوق فى عالم الوجود ، كما جاء فى قوله تعالى: "ولقد كرمنا بنى آدم" [الإسراء 70]، وتقديرهم للحرية وإقامتهم للعدل بين الناس وسعيهم للعمل من أجل سعادة الإنسان وراحته وتحقيق إنجازات حقيقية فى هذا الصدد ممثلة فى التعليم والصحة والصناعة وغير ذلك مما يعد فى أعراف الدول - من منظور تقييمى - نهضة وتقدما.

ذلكم لأن البناء الأعظم الذى يجب أن تقوم عليه الحضارة هو بناء الإنسان وأن المحور الرئيس الذى ينبغي أن يكون مرتكز التقييم لأي حقبة تاريخية أو معاصرة هو الإنسان. إننا نعظم قيم العدل ونلتقى مع كل من يعظمها حتى ولو كان غير مسلم ونرفض كل من ينتهك قيم العدل ويصادر الحريات ويسلك طريق الظالمين حتى ولو كان مسلما.

وقد شهد النبى صلى الله عليه وسلم حلفا قبل بعثته لنصرة المظلوم ورد الظالم وشارك فيه مع غير مسلمين لأنهم يعظمون قيمة إنسانية وهى رفض الظلم وقال فى ذلك: "لقد دعيت فى دار عبد الله بن جدعان إلى حلف ، لو دعيت بمثله فى الإسلام لأجبت".

"لقد كانت دولة عمر مضرب الأمثال فى التاريخ لأنها اتخذت العدل مظلة ، واحترام الآدمية معتقدا وحريات الناس عنوانا وإسعاد الرعية منهجا والرحمة بالضعفاء مذهبا وخلقا. لماذا يشيد كثير من الناس اليوم ببريطانيا ويعتبرونها بلد الحريات وقبلة المضطهدين؟ لأنها سنت قوانين تحمى الضعفاء والفارين من الطغيان والظلم وتمنحهم وثيقة لجوء سياسى وتحترم الحريات وتغيث الملهوف وتنصر الضعيف وتقف إلى جوار المضطهد.

لقد كانت دولة عمر مضرب الأمثال رغم أنها كانت من الحالات القليلة فى حياة الدول والأمم التى وقعت فيها مجاعة ومع ذلك لم تنل هذه الأزمة من شخصية عمر بوصفه قائدا للدولة لأن الناس رأوا أن ما حل بهم لم يكن من كسب يديه ، ولا بسبب فساده أو انغماسه فى متع الحياة الدنيا أو انشغاله عنهم بخاصة نفسه ورغباته ولكنهم رأوا أن مظلة عدله كانت تسع الجميع وأن بذله لنفسه من أجله سعادتهم كان محل اتفاق وأن سعيه فى رد الجوع عنهم كان مثالا تحتذيه القادة حتى إنه جاع معهم ، وعاش كما عاشوا على أنصاف البطون وأرباعها ولم يهنأ حتى انكشفت الغمة وانقشعت الظلمة.