تقوم نظرية الإصلاح عند كثير من الإسلاميين على أنَّ مشاكل المسلمين مردّها سبب واحد وهو الإعراض عن الدين وانتشار المعاصي والآثام. فكل ما نعانيه هو نتيجه ذلك السبب الوحيد: الإعراض عن الدين. وحتى غلاء الأسعار والبطالة ناجم عن ذلك الإعراض، كما يوضحه مقال "لماذا زاد الغلاء والبلاء؟!" لسعيد محمود، وأيضاً ما أورده في كتابه "المسلمون والحضارة الغربية" الشيخ سفر الحوالي، وتحديداً في الصفحة761. أما الأسباب والظروف الاقتصادية والاجتماعية والدولية وما شابه فلا تأثير لها. وبالتالي فإنَّ السبيل الوحيد لخروج الأمة الإسلامية من حالة التخلف والضعف، وحل جميع مشاكلها يكمن في العودة الى الدين حصراً. فوفق سعيد محمود فإنّ "الإعراض عن دين الله، وانتشار المعاصي والذنوب هما السبب الوحيد لكل الأزمات". كما أنّ "الانحراف عن دين الله وانتشار المعاصي والفواحش هي سبب الخراب والغلاء والهزائم والفشل". يبدو هذا الخطاب مضطرداً وشائعاً عند الكثيرين. ولكن الاستنتاج بأنَّ حلَّ جميع مشاكلنا الراهنة يكمن حصراً في الرجوع الى الدين، ليس في محله، ويحتاج إلى تأمل وتفكير.
بدايةً ما المقصود بالعودة إلى الدين؟
مما يظهر من الطرح الدارج أنَّ المقصود يتضمن أساساً القيام بالعبادات الواجبة والتطوعية كالصلاة والصيام والحج والزكاة والصدقة وقراءة القرآن والتسبيح، بالاضافة إلى تطبيق الأحكام الشرعية والالتزام بالأخلاق. وبالنظر إلى هذه الأمور، يمكن القول إنَّ معظمها يركز على الجانب الفردي، وتساعد، بلا ريب، في ترقية الإنسان وتطويره روحياً وأخلاقياً واجتماعياً. لكن هل هذا كافٍ للتطور وحل مشاكلنا؟ لا شك في أنَّ التطور الذاتي له تأثيراته الإيجابية على الفرد والمجتمع، لكنّ هذا التأثير يبقى محصوراً بالدائرة الشخصية.
أما بالنسبة للمشاكل العامة فإنَّ التعامل معها يحتاج الى مقاربة مختلفة، من قبيل أن يتضمن ذلك دراسة المشكلة، ووضع حلولٍ مقترحةٍ، ثم إيجاد آلياتٍ أو هيئاتٍ للتنفيذ، بعدها يأتي دور التقييم والمراجعة ثم التعديل، وهكذا في عملية مستمرة لا تتوقف. وبالتأكيد فإنَّ هذا عمل مؤسساتيٌ وليس فردياً. وكمثالٍ على ذلك، هل يمكن حل المشاكل الاقتصادية بدون الأخذ بالاعتبار البيئة الاستثمارية والقوانين المنظّمة لسوق العمل، والموارد، والبنية التحتية، ومشاكل التصنيع والإنتاج والتسويق والمنافسة وتحصيل المعرفة وإنتاجها...إلخ؟ وكمثالٍ أكثر تفصيلاً، لنأخذ موضوع البطالة، فبدون التعرف على الأسباب الحقيقية ووجود مؤسسة ذات رؤيةٍ تتعامل مع حيثيات المشكلة ووقائعها لا يمكن معالجتها بفعاليةٍ.
وهذا قد يتضمن التعامل مع عوامل مثل قوانين العمل وطبيعة السوق المحلي، ومخرجات التعليم، وضراوة المنافسة التجارية مع دول أخرى، والضرائب التي تؤدي إلى زيادة تكلفة المنتج، وبالتالي ضعف الطلب، ما يقود الى تخفيض الإنتاج وتسريح مزيد من العمالة. وقد تكون للبطالة أسبابٌ أخرى، من قبيل العزوف عن العمل في وظائف معينةٍ، أو وجود عمالةٍ وافدةٍ ترضى بشروط عمل أكثر قسوة. ومن الأسباب ما قد يرتبط بظروف التمويل ..إلخ.
هذه الأسباب وغيرها تتضمن عوامل محلية يمكن التحكم أو التأثير فيها بدرجةٍ كبيرةٍ وعوامل أخرى خارجيةٍ ينبغي أخذها بالحسبان. وبدون دراسةٍ وافيةٍ ومعرفةٍ حقيقيةٍ لأسباب البطالة في مجتمع ما، لا يمكن حل هذه المشكلة أو التخفيف من آثارها ويصبح القول بأنَّ الارتقاء الروحي والأخلاقي فقط كفيل بحل هذه المشكلة، أو غيرها، ضرباً من التسطيح والخطاب الشعبوي الذي يصنع أتباعاً، لكنه لا يحل المشاكل.
من ناحيةٍ أخرى فإنَّ الشريعة الإسلامية لا تقدم حلولاً تفصيليةً للمشاكل الحياتية اليومية مثل مشكلة البطالة، بل تركت ذلك للمسلمين كي يفكروا، ويجدوا الحلول التي تناسب واقعهم الذي يختلف من زمنٍ إلى آخر.
ولكن لماذا يصر كثيرٌ من الإسلاميين على الطرح الأول؟
هنالك أسبابٌ عديدةٌ، منها أنَّ القول بأنَّ جميع المشاكل، مهما كان نوعها، يعود لسببٍ واحدٍ، يعفي المتكلم من الاجتهاد في البحث عن الأسباب الحقيقية، فهل يمكن أن تتخيل مثلاً داعية يتكلم عن تأثير سعر صرف العملة، والطلب العالمي، والمضاربة، وتذبذب العرض على سعر المحروقات! أم الأسهل أن يقول إنَّ سعر المحروقات ارتفع بسبب ذنوب الناس؟
ليس مطلوباً، في نظري، من الداعية أو الفقيه أن يتكلم بهذا المستوى من التفصيل، بل ينبغي أن يتكلم في ما يعرف فقط، وبدون أن يزيّف وعي الناس بصرفهم عن التفكير بجدية في مشاكلهم. سببٌ آخر للمعضلة قد يتمثل في رغبة المتكلم بأن يؤكد للناس أنَّهم مذنبون ومقصّرون دائماً، ولذلك حلّت بهم المصائب، وهو يعلم العلة والدواء. لذلك قد يبدو للناس أنَّهم بحاجةٍ ماسةٍ لهذا الداعية كي يرشدهم كيف يحلون مشاكلهم ويصلحون أمورهم في الدنيا والآخرة.
ومما يثير العجب ما يطرحه بعض الإسلاميين كحلولٍ تستند إلى الدين -حسب زعمهم- لحل مشاكلنا الراهنة. من ذلك ما طرحه الشيخ أبو إسحق الحويني كحل "شرعي" لمشكلة الفقر لدى المسلمين، حيث اقترح أن يقوم المسلمون بعمل عدة غزواتٍ سنوياً لبلادٍ غير إسلاميةٍ يقوم المسلمون خلالها بالاستيلاء على ثروات تلك البلاد، وبأخذ أسرى وسبايا، ثم بيعهم في أسواق النخاسة لحل المشاكل الاقتصادية! أليست هذه دعوةً حقيقيةً لممارسة العدوان وتحويل المسلمين إلى قطّاع طرق وتجار عبيد؟ بعد هذا لا يتورع هذا الشيخ وأمثاله أن يبشّروا العالم بأنّ الإسلام جاء رحمة للعالمين!
لا شك في أنَّ الإسلام رحمة للعالمين، ولكنها ليست الرحمة الذي يفهمها هؤلاء. وبالإضافة إلى ما يتضمنه رأيهم من عدم الأخلاقية والإنسانية، فإنَّ هذا الرأي يخالف حتى الأحكام القرآنية؛ فليس جائزاً للمسلمين أن يهاجموا الآخرين لنهب ثرواتهم واستعبادهم. هذه الأمثلة، وسواها كثير، تلقي الضوء على الطريقة التي يفكر بها هؤلاء ويعون بها العالم، فالواقع هو ما ينبغي أن يكون حسب أفهامهم وحسب ما التقطوه من كتب التراث، لا كما هو كائنٌ في هذه الأيام. فكل ما أنجزه البشر، على مدى قرون في مجال المعرفة والقوانين والحريات وحقوق الإنسان، لا يعنيهم لا من قريبٍ أو بعيدٍ. بل إنَّ بعضهم ينعت هذه الإنجازات بالكفرية أو الشركية؛ لأنَّ من قام بتطويرها غير مسلمين، وبالتالي فهي تشريع من عند غير الله، وبالتالي فهي مرفوضةٌ ومحرمةٌ، حتى لو كانت هذه المنجزات تتفق مع المبادئ الكلية للإسلام من قبيل احترام كرامة الإنسان والحرية والعدالة.
السطحية التي يتعامل بها بعض من يُسمون بالدعاة أو العلماء الشرعيين أو الفقهاء في التعامل مع مشاكل العصر، وتقديس هذه السطحية بإضفاء قداسة الدين عليها، قد تكون سبباً لضعضعة الثقة بهؤلاء، وقد تؤدي إلى تفسخ الثقة بالدين نفسه. وقد تكون زيادة نسبة الإلحاد في بعض الدول الإسلامية عائدة بشكل ما لكثير من اللاعقلانية ومخالفة المنطق والواقع الذي يصرعليه كثير من الإسلاميين وينسبونه للدين.
حل المشاكل والتطور ينبغي أن يتم بالمعرفة والمؤسساتية والتشجيع على التفكير النقدي الخلاق، لاستغلال القدرات البشرية لتكون الأساس للتطور والتحديث. من جهة أخرى فإنَّ الالتزام بالدين قد يكون عاملاً مساعداً في التقدم، لكنه ليس العامل الوحيد. فلكل مشكلةٍ أسبابها وتأثيراتها وحلولها، وبدون دراسةٍ وافيةٍ ومعمقةٍ ومتابعةٍ جادةٍ، لا يمكن التعامل بفعالية مع هذه المشاكل. كما أنَّ للتطور والتقدم شروطه وآلياته التي بدون استيفائها لا يمكن تحقيق نقلة حضارية حقيقية.
الآراء