محمد الجوادي كاتب ومؤرخ وأستاذ طب مصري أبدأ بمَثَلٍ بعيد بعض الشيء عن الشكل وعن الموضوع لكنه ربما يمثل جوهرهما من بعيد، فعندما احتفلت مصر برفع علمها على العريش -في أول تجليات استعادة أراضيها المحتلة بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل- كان الفريق أول عبد المحسن كامل مرتجي (قائد القوات البرية وأكبر قائد عسكري ميداني في حرب يونيو/حزيران ١٩٦٧) من كبار المدعوين للاحتفال. لكن مرتجي لم يحضر بهذه الصفة القديمة، وإنما بصفته رئيسا منتخبا لمجلس إدارة النادي الأهلي الرياضي، أكثر النوادي الرياضية المصرية شعبية وتأثيرا. في جانب التفسير التاريخي لهذه المصادفة المفتعلة تبرز حقيقتان: الأولى أن القائدين الكبيرين في حرب أكتوبر 1973: القائد العام المشير أحمد إسماعيل، ورئيس الأركان المشير محمد الجمسي (وقد تعاقبا على منصب وزير الحربية)، كانا من القادة التالين مباشرة للفريق مرتجي في قيادة القوات البرية في حرب يونيو/حزيران 1967. "اكتشف خبراء السياسة والحرب على حد سواء حقيقة مهمة، وهي أنه لم يكن من السهل على المجتمعات العائدة إلى الدين أن تتوافق مع الأعداء التقليديين لهذا الدين مهما كانت رغبتها في هذا التوافق، ذلك أن الإحن والبغضاء تلعب في تكوين الهويات وصياغتها دورا طبيعيا، إضافة إلى الدورين التاريخي والإستراتيجي" أما الحقيقة الثانية والأكثر بروزا في تأثيرها المباشر؛ فهي أن وزير الدفاع في ذلك اليوم الفريق أول كمال حسن علي نفسه عمل في أثناء خدمته ضابط أركان (يوازي مديرا لمكتب) الفريق مرتجي. هكذا حدث الحضور وتم تسويغه، ثم تولى التاريخ تحليل التسويغ. نقفز مباشرة إلى التأمل فيما قد تفرضه المصطلحات السياسية من مفاهيم في مثل هذه الحالة، حين تشير إلى أن ذلك "الحضور" قد تحقق بصرف النظر عن "التسويغ". فإذا نحن نقلنا هذا المعنى السابق بكليته إلى العلاقات الدولية الحالية حين تصبح مشتبكة أو ملتهبة؛ فسنُفاجأ بأن الحل الأمثل عند كل دولة أو قوة "للحضور" الفاعل كثيرا ما يبحث عن "تسويغ" آخر يكون أكثر قبولا أو قابلية للتوافق. وهذا على سبيل المثال هو جوهر أزمة سوريا المنكوبة حين طغا عليها الصراع الديني الخفي والمتأجج في الوقت ذاته. وقد علمنا التاريخ أن أصحاب الدعوات الدينية (والمرجعيات الدينية) يرفعون شعارات السلام، بينما هم -بحكم الكهنوت- يؤمنون أيضا وقبلا بأن واجبهم الأول هو نشر دينهم والانتصار لعقيدتهم، وهو هدف يتماسّ ويتلامس بل قد يتلبس ويلتبس بالحرب الصريحة. ومع الخبرة التاريخية الواسعة التي اكتسبتها جماهير عصر التواصل الاجتماعي في فهم دلالات النصوص السياسية المعلنة؛ فإن حديث القيادات السياسية الشيعية عن احترامهم للصحابة الكرام يتزامن عادة مع قيام عامة الشيعة بالواجب الفولكلوري المفرط، أي الهجوم البذيء على كبار الصحابة والشيخين وأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين. فإذا هدأ هجوم العامة من الشيعة فسرعان ما يبدأ خاصتهم في نشر ما هو كفيل باستعادة التأجيج. لجأت إلى هذا المثل الإسلامي -الواضح في مطالعته وتأمله- قبل أن أشير مجرد إشارة سريعة إلى مدى العنف المسيحي/المسيحي، الذي جعل من وثائق التوافق الكهنوتية حبرا متطايرا غير قابل للبقاء، ومثيرا لسخرية الذين يعرفون أن الاختلافات العقيدية واللاهوتية لا تعالج بحفلات الكوكتيل العامة ولا باللقاءات نصف الكهنوتية. ومن المدهش أن الصحفيين الجادين لا يزالون يجهدون أنفسهم سعيا وراء استكناه دلالات معنوية في مثل هذه اللقاءات المسرحية الضخمة بين أقطاب الملل المسيحية، فلا يجدون تفسيرا قابلا للتصديق إلا القول بأن مثل هذه اللقاءات هي خطوات جادة في سبيل التوافق الوحيد، وهو الحرب على ما يرى بعض منظريهم أنه هو العدو المشترك الذي هو الإسلام. فإذا نشر الصحفيون مثل هذا الاستنتاج لم يجد قادة الفكر المسيحي بأنفسهم حاجة ولو ضئيلة إلى نفيه، ذلك أن بقاء الاستنتاج القاسي يضفي عليهم أهمية، في حين أن نفيه يجلب لهم تشكيكا في ولائهم لدينهم. "اللجوء إلى تشخيص كثير من الحالات التي فرضت نفسها على سياق الأخبار بأنها ظواهر "إسلاموفوبية"، كان -في جانب جذري من جوهر التشخيص- اعترافا جادا بأثر الظلم الذي أصر الغرب على فرضه على مجموع المسلمين وكياناتهم السياسية (في كل صورها) منذ نهاية الحرب العالمية الأولى" وهكذا تتكرس في أذهان العالم صورة العودة إلى التعصب المقيت، بل ربما العودة إلى الحروب الصليبية. وقد لا تكون نسبة الصواب في مثل هذا الاستنتاج مؤهلة له للبقاء، لكن الوضعية المنطقية فيه تدعمه وتستبقيه وتستعيده بإلحاح. وواقع الأمر أن اللجوء إلى تشخيص كثير من الحالات التي فرضت نفسها على سياق الأخبار بأنها ظواهر "إسلاموفوبية"، كان -في جانب جذري من جوهر التشخيص- اعترافا جادا بأثر الظلم الذي أصر الغرب على فرضه على مجموع المسلمين وكياناتهم السياسية (في كل صورها) منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وهو ظلم تجاوز -بما لا يمكن قبوله إلا بصعوبة بالغة- كونَه صورةً من صور الانتقام من موقف سياسي وعسكري، فأصبح نمطا فظيعا وغير مبرر من الانتقام المتشفي في الأجيال الإسلامية القادمة بلا مبرر. ومع أن التجربة الإنسانية دفعت ببعض كيانات المسلمين المظلومين إلى تصوير أنفسهم قادرين على المضي في بدايات جديدة متحررة من القسوة وأثرها؛ فإنهم سرعان ما اكتشفوا حقيقة مرة، وهي أنهم دفعوا بأنفسهم ومجتمعاتهم في طريق التبعية بخطوات واسعة. ولم يكن مهمًّا لمن تكون التبعية؛ فقد كان نموذج أنور خوجة الألباني التابع في توجهاته لمعسكر الاتحاد السوفياتي موازيا تماما للنموذج الدكتاتوري الأتاتوركي، الذي جمع مع دكتاتوريته سمتين أخريين في الوقت ذاته، حيث كان غربي التبعية ومناهضا شرسا للهوية. وفي كلتا الحالتين وأمثالهما؛ كانت التبعية تسمي نفسها بأسماء لا تمت لطبيعتها السياسية بصلة ولا مودة، ونحن لا نزال نرى كوريا الشمالية تنص في اسمها الرسمي على الديمقراطية، على نحو ما كانت تفعل ألمانيا الشرقية وغيرها من الكيانات الشمولية في عصر الحرب الباردة. وفي المقابل؛ نرى حرص إيران على أن يتضمن اسمها صفة "الإسلامية". على أن تجربة التبعية شأنها شأن أية تجربة سلبية لا تخلو من عظة، فقد أفادت من مرّوا بها -اضطرارا أو قسرا- في تلقينهم ضرورة الخلاص من التبعية المكلفة وغير المربحة. وفي مثل هذه الأحوال؛ فإن الطريق الأمثل للعدول عن التبعية سرعان ما يتجلى عبر التفكير في الرجوع إلى الهوية، بادئا منظومة متسلسلة من التدافعات المتسمة بالصراع الديني أو المنتهية إليه، وقد كان هذا هو الباب الذي انفتح من تلقاء نفسه في عصر العولمة، ومع نهاية عصر الاستقطاب الذي ازدهرت على أساسه وبفضله حقبة الحرب الباردة. وقد اكتشف خبراء السياسة والحرب على حد سواء حقيقة مهمة، وهي أنه لم يكن من السهل على المجتمعات العائدة إلى الدين أن تتوافق مع الأعداء التقليديين لهذا الدين مهما كانت رغبتها في هذا التوافق، ذلك أن الإحن والبغضاء تلعب في تكوين الهويات وصياغتها دورا طبيعيا، إضافة إلى الدورين التاريخي والإستراتيجي. وهكذا أصبح التناول المباشر للعداوات القائمة بسبب الدين عاملا مؤجِّجا لهذه العداوات، لأنه ببساطة شديدة يستدعيها ولا يستوعبها، فإذا حاول استيعابها ضاعف استعادتها. لمثل هذا السبب؛ فإن منهج العلماء البيولوجيين في دراسة علم الحياة لا يزال يبحث عن روابط التشابه والتوحد، ويقدمها في إطار الأصداء المتأثرة بفكرة وحدة الخلق (التي هي منبئة عن وحدة الخالق الأعظم)، وتفسيرات ما عُرف بمذهب النشوء والارتقاء. "الحل الأمثل لتجاوز الصراعات الدينية هو ما لجأت إليه خبرة جهابذة الأساتذة في الأزهر منذ أكثر من قرن، حين قررت أن يتأهل دارسو الأديان بدراسات موازية ومتآزرة مع دراساتهم الدينية، بحيث لا تنغلق عقولهم عند بحثهم في علم الفقه أو أي علم متصل بجوهر الإيمان" ونحن معشر أساتذة الطب الممارسين للعلاج والتشخيص لا نجد -حين نستقصي الدراسات المعملية- أي نوع من الاختلاف في وصف طبيعة الأنسجة والأعضاء عند من يتصدون لهذه المهمة من أساتذة البيولوجيا (وفروعها في علوم الحيوان والنبات والفسيولوجيا والأنسجة)، سواء كان العالم البيولوجي ممن يؤمنون بنظرية المؤمنين القائلين بالخلق الخاص أو بغيرها من المذاهب، بما في ذلك ما يصنفه بعض المتدينين على أنه من قبيل الكفر. لكننا في مقابل هذا نجد نصوص ومصطلحات الفلسفة القديمة وقد ألقت بظلال كثيفة على فهم علماء الأديان للحقائق المتعلقة بالخلق والخالق على حد سواء؛ ومن الحق أن نعترف بأن هذه الظلال قادرة على أن تنشئ من التشوهات المنطقية ما لا يزال يسبب كثيرا من الحرج الفلسفي والعلمي للإيمان المسيحي مثلا، وهو حرج يستدعي "مضطرا" القوة التي قد تصل إلى استدعاء الحرب للتغلب عليه. ولأن الاستثمار الفكري عند الإنسان ارتبط دوما باستحداث الجديد لا بالتخلي عن القديم؛ فقد كان من الطبيعي أن تتطور كل التنوعات المذهبية إلى خلاف، ثم إلى اختلافات تحاول التجذر وتبحث عن التأصيل بنهج مكثف ودائب. ويبدو لي -من استقراء خبرات الأخيار في الصراع الديني مع الأغيار- أن الحل الأمثل لتجاوز الصراعات الدينية هو ما لجأت إليه خبرة جهابذة الأساتذة في الأزهر منذ أكثر من قرن، حين قررت أن يتأهل دارسو الأديان بدراسات موازية ومتآزرة مع دراساتهم الدينية، بحيث لا تنغلق عقولهم عند بحثهم في علم الفقه أو أي علم متصل بجوهر الإيمان. ومن دون أن أدخل في تفصيلات كثيرة؛ فإني سأذكر مثلا صارخا لقدرة هؤلاء الجهابذة من قادة التعليم الأزهري على تحقيق السعة الفكرية والتسامح العقلي عبر تطويع النظم التعليمية في المناهج والامتحانات. إذ يقول هذا المثل إن الحصول على الشهادة العالمية القديمة كان يتطلب الدراسة والامتحان والنجاح في ١٢ مادة دراسية، كان ضمنها الفقه على أهميته وخطورته، وكذلك كان أصول الفقه. أما مادة البلاغة فكانت تعامل على أنها ثلاثة علوم (هي المعاني والبيان والبديع) لا علم واحد، وذلك من أجل الخروج بدراسة الإسلام من ضيق الكهنوت إلى سعة الحياة. وليس سرا أن اكتشاف بعض الدوائر الغربية لهذا السر -الذي يمكن تسميته سرا فرعيا من الأسرار المكونة لسر الأزهر- هو الذي استدعى (في اللاوعي الغربي) تكثيف الحقد على الأزهر، بينما لا تزال الدوائر الكهنوتية -حتى فيما بعد ما سُمي بإصلاحات مارتن لوثر- عاجزة عن إيجاد نظير له.