ربما یمکن طرح السؤال بصورة أکثر دقة وهو لماذا نتعاون؟ قبل سنوات عندما کنت في زیارة لإحدی الجامعات النروجیة قد اقترح علي أستاذ إیراني لتلک الجامعة أن أزورها؛ وخلال ثلاث ساعات من الزیارة التي قمنا بها ماشیین کان یتحدث مع حماس واهتمام واعتماد وتعلق بالجامعة حول مشاریعها ومکاتیبها وغایاتها وأبنیتها ومشاهدها وزملائه والوحدات الإداریة حیث أعجني حماسه هذا أکثر من أهمیة نفس الجامعة. وفي نهایة الزیارة سألته عن سبب حماسه وأجابني: البیئة التعلیمية وخدامه تعطني راحة البال؛ هنا کل یحترمني رغم أني رجل إیراني وقد أصبحت عضوا في ثلاث لجان في الکلیة والجامعة.
إن الطلاب والأساتذة یریدون أن یتعلموا شیئا ولا أبالغ إن قلت هنا موطني... أحب الآخرین ویحبونني وأکون صادقا معهم ویکونون صادقین معي؛ لا أرید الشر لأحد ولا یریدون لي الشر؛ أتجنب توقعات غیر واقعیة منهم ولا یتوقعون مني کذلک؛ أقوم بأداء واجبي تجاههم ویقومون بأداء ما علیهم. أشاورهم ویشاورونني لا أخون ولا یخونون؛ التزم بالنظام ویلتزمون کذلک؛ لا أغتاب ولا یغتابون؛ لا أطرد أحدا ولا یطردون کذلک أتعاون ویتعاونون.
شعرت في هذا الحوار أن هذه الحالة هي الحالة الطبیعیة للإنسان وأن الرجل العادي والطبیعي إذا أحسن إلیه یحسن ولکنه إذا تم طرده فسیکون علی حذر من الآخرین؛ عندما رأی الخیانة لیهجر وحین کذبوه یسيء الظن بلآخرین وعندما أهانوه فسوف یعتزل عن الآخرین. إذا استغالوه لیشک في المحبة؛ إذا ووجه الرجل بردود فعل سلبیة ومدمرة أمام المحبة والاحترام والإحسان وشعور بالمسؤولیة والصداقة والإنصاف فهل بإمکانه أن یستمر علی روح من التعاون؟
وبعد هذا السفر العلمي وحین العودة إلی طهران کنت أطالع في الطائرة عناوین بعض الصحف الفارسیة؛ هناک عنوان: لا تهددوا الإیرانیین! وبعد بعضة أعمدة قرأت عدة تهدیدات بالنسبة للبلدان المختلفة في أنحاء العالم؛ لکل فعل ردة فعل وکل کلمة سیئة لها نتیجة سیئة وفي عالمنا الحاضر لا یترک أي حدیث أو فعل دون ردة فعل. ففي أي ظروف یتم التعاون بین أبناء المجتمع؟ في ظروف التي یستدرک تعاونهم؛ لإن التعاون وعدمه کلاهما أمر طبیعي لأنهما یتأتیان من أجل ردة فعل أمام أفعال الآخرین.
إن الإنسان العادي لدیة رغبة في الخیر ولکنه إذا وجد نفسه في هیکلة لا تواجه ردود الفعل فیها بالاحترام والمحبة والتسامح والتزام بالقانون فهو یهجرها ویبعد عنها علی الأقل ویکون علی حذر منها أو یضع نفسه في دائرة ضیقة. هل سبق لکم أن شاهدتم في حرکة مرور کثیفة وأنتم تقودون ببطء فإذا بسائق یرید أن یسبق الآخرین عبر المرور بحافة الطریق وحینئذ یثیر النقع ویترک الفضاء ملوثا؟ فالإنسان الطبیعي یقول في نفسه ما لي أتوقف في هذا المرور المزدحم من أجل الاهتمام بمبادئ القانون حین لا یهتم به الآخر؟ إن الأزمة تتراکم في المجتمع حین یسیر البعض عبر الحافات الترابیة ولا یراعون مقتضیات القانون ولا یبالون بحقوق الآخرین.
حین سألت عجوزاً إیرانیاً وهو لدیه معلومات وخبرات عن مشکلة أکثر أهمیة في مسار تنمیة البلاد؟ وأي مسألة یجب أن یتم حلها حتی تؤدي إلی حل مسائل أخری؟ وأین بؤرة الأزمة؟ رد قائلا: نحن عامة منغمسون في مصالحنا ومطامعنا(Self-Absorption) وهذا الطابع النرجسي لا یسمحنا أن نقوم ببناء نظام صحیح أو هیکل جید أو نقسم الأعمال فیما بیننا ونتعلم من بعضنا ونتعاون مع بضعنا. لقد ذکرني حدیثه سؤال الصحفي الإیتالي أوریانا فالاجي حین سأل الملک الإیراني لماذا تدعي ملک الملوک (شاهنشاه) وأجابه: هنا کل یدعي المُلک وأنا مَلکهم جمیعا!
الأشخاص العادیون حین یرون التعاون من غیرهم یتعاونون مع بعضهم وهذا بحاجة إلی نظام وهذا النظام یحتاج إلی سیادة القانون والجدارة وکل مواطن یقف في مکانته اللائقة بناء علی علمه وخبرته واهتمامه بالأمور. في إطار الذي یفتقر إلی الجدارة ویُترک الکاذب دون عقاب وتکون الغرطسة الفردیة أعلی من المصلحة العامة فالأشخاص العادیون لا یتعاونون مع بعضهم. وفي مثل هذه الظروف أن المواطنین قد یضیقون دوائر ثقتهم ویعیشون في أنانیتهم وهذا ما یصفه علماء الاجتماع بـ"انحلال المجتمع"(Atomization of Society).
إن التعاون بحاجة إلی المکافئة الروحیة واللفظیة والفعلیة ولا ینبغي أن یتمتع الأشخاص بالحصانة أمام الأمور السیئة التي قد تصدر عنهم ویجب أن نقوم ببناء منظومة لأي فعل إیجابي ونکافئ الصحیح من الأفعال ونعاقب سیئها. في ألمانیا رأیت لافتة علی موقف للسیارات: هذا الموقف یختص بالمواطنین المسنین والمخالفون یتم تغریمهم 150 یورو علی الأقل. الحکومة الرشیدة تعني ببناء النظام ویبدأ من نمط إیقاف السیارات إلی الأمن المائي للبلاد في الخلیج الفارسي وهذا النمط قد یقلص مدی الحاجة إلی الخطابة إلی الواحد بالمئة؛ لا یتم تعدیل أي شيء دون النظام أو القاعدة. إن الأستاذ الإیراني یتعاون مع غیره لأنه یعمل في إطار منظومة یمکن التنبؤ بها وأن أبواب الکذب والغموض والإزالة والتمییز مغلقة فیها.
خلال نصف یوم الذي کنت معه لم یصدر عنه فعل بحیث أظن أنه مرکز لثقل العالم؛ لم یزعم شیئا وکان یسأل دائما ویبحث عن الرأي. وقد قام بتنسیق تفاصیل تلک الزیارة القصیرة قبل شهرین وعمل علی إطار الترتیبات لم یعوج ولم یحذف شیئا ولم یبدل حدیثه. ما اغتاب وما خالف الوعد وکان یموج في وجهه وشخصیته الصدق والإنسانیة وکان یقول: في هذا المجمتع قلما یلجأ الأشخاص بالکذب لأنهم ینظرون إلی الصداقة وإلی شؤون الحیاة نظرة طویلة الأجل وسأستمر التعاون معه.
الآراء