أولاً .. أنا لا أراها محنة ، ولكنها منحة ربانية خالصة فيها من الفوائد والدروس والبشائر أكثر من أن يحصيه قلم أو يتلقاه قلب بشر ، وهي إن شاء الله لن تطول والفرج بعدها قريب وشيك ، وبوادره أكثر من أن تحصى ولعل الله ييسر لنا في القادم فنسوق هذه البشائر بإذن الله .

كيف هي منحة وهذه الأعداد التي لا تحصى من الشهداء ، ومن المصابين إصابات فادحة كفقد البصر أو الشلل الرباعي أو فقد نإحدى العينين أو ..... ، ومن المعتقلين ، ومن المطاردين المشردين ، وممن فقدوا وظائفهم واكتووا بنار المطاردات والقلق والاضطراب ، هذا ما نتدبره سوياً في السطور القادمة إن شاء الله .

الجهاد سبيلنا .. وهذه هي حياتنا

ولقد كنت أستغرب بعد أحداث السنتين الأخيرتين منذ 25 يناير وحتى منتصف عهد السنة الأولى من حكم الرئيس مرسي – المتم لمدته الرئاسية إن شاء الله لا محالة – إلى أن تيقنت بحجم وكيف وكم المؤامرات التي تحاك ضده وأننا مقبلون على هذه المنحة التي نحن فيها ، وما جاهدناه خلال تلك السنة ...

أقول كنت أستغرب كيف مهد الأمر هكذا وبهذه البساطة والسهولة ليتولى سدة الحكم في مصر رئيس من الإخوان !

ذلك أن بناء الأمم والشعوب وتمكن أهل الحق من نشر الهدى والسيادة في الأرض لا يأتي بتلك السهولة التي أتي بها الأمر بعض آحاد من الشهداء وجولة ثمانية عشر يوم ، لا يمكن أن يمكن أهل الحق بهذه السهولة أو حتى يبدأ توسدهم للأمر تمهيداً للتمكين .

صحيح كانت هناك ممهدات بالسنوات والعقود من سجن وقتل وتشريد ، ولكن معاناة لحظة النهاية مع الباطل وبداية تغلب الحق لم تكن كتلك التي علمتنا السنن الكونية أنها آلام المخاض .

إن من يظن أن رسالتنا تمكن بتلك البساطة والسهولة ، لم يعرف طبيعة دعوتنا ولا طريقنا ، إن طريقنا هو طريق الأنبياء وهو طريق المشاق والصعاب والجهاد والمجاهدة .

إن من يدرس سير الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ، ومن يتدبر قصصهم القرأني يتيقن مما أقول ، انظر إلى خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كيف ألقي في النار وغرب وأبعد ، ونوح عليه السلام وكيف أذاه قومه ما يقرب من ألف عام ( تصوروا يا مؤمنين .. ألف عام ) ، ويوسف عليه السلام وكيف أذاه إخوته ثم كيف سجن واتهم في شرفه وهو العفيف المبرئ ، وموسي كليم الله عليه السلام وكيف طورد عشر سنوات وكيف أبعد وقومه وطارده فرعون وكيف قتل أبناء بني إسرائيل من قبل ولادة موسي ، ولوط وكيف حاربه قومه وأخرجوه من دياره لأنه ومن آمن معه قوم يتطهرون ، وقوم عادٍ وقوم ثمود ، وما أدراك ما أقوام عادٍ وثمود ...

وغيرهم من أنبياء الله الصالحين الذين قال في بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في رواية بن عباس رضي الله عنه في البخاري ومسلم : " عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ ، فَجَعَلَ النَّبِىُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ ، وَالنَّبِىُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ " ، وتدبر حال النبي الذي ليس معه أحد ، كيف كذبه قومه وأذوه ورفضوا دعوته لدرجة أنه أتى ولم يؤمن أحد من قومه به ، وهو نبي الله .

يأتي على رأس الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ دعوته وسيرته العطرة كلها ابتلاءات ومحن ومطاردات وإخراج من داره وسب وشتم وإهانة من المشركين وإيلام جسدي وقع على شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم مراتٍ ومرات ، وأذى نفسي بقتل أصحابه من حوله وعلى رأسهم سيد الشهداء عمه حمزة رضي الله عنه ، وبدر وما أدراك ما بدر ، والخندق وحصار العالم كله له هو وبضعة أصحابه عن قوس واحدة ، والهجرة وغار حراء وحصار المشركين له ....

هل كانت هذه كلها محن ؟ كلا والله إنها منح ربانية يرفع الله بها أصحابها ويهيئهم لحمل رسالته والدفاع عن دينه .

لقد قدر الله سبحانه لأهل الحق أن يكون الجهاد سبيلهم ، " الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة " ، وقدر أن يكون الابتلاء قدرهم " ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " ...

ولأننا دعوة ربانية ، ولأننا ورثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كان من أهم مبادئ دعوتنا : " الجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمنياتنا " .

ويتخذ منكم شهداء

أما الذين قضوا فهم " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " ويرفعهم الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق ويسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة ومنازل الشهداء ، ويرزقهم الحياة الأبدية ..

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم مس القرصة" . رواه النسائي وأحمد والترمذي وابن ماجه والدرامي وابن حبان والبيهقي وغيرهم واللفظ لأحمد .

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث المقدام بن معْدي كرب أنه قال : " إن للشهيد عند الله سبع خصال : يُغفر له في أول دفعة ، ويُرى مقعده من الجنة ، ويجار من فتنة القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه "

وفي رواية أخرى " للشهيد عند الله ست خصال ، وفي رواية تسع خصال ، وفي رواية تسع خصال أو عشر خصال " . أخرجه الترمذي وقال حديث حسن . وابن ماجة في السنن ، وأحمد ، وعبد الرزاق في المصنف ، والطبراني في الكبير ، وسعيد بن منصور في السنن .

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا, وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة " .

وعند مسلم عن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون, فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : : أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل ".

كيف يقال عن هذا الذي اتخذه الله سبحانه شهيداً " ويتخذ منكم شهداء " ، كيف يقال عن مثل هذا أنه مر بمحنة ، بل هي منحة وأي منحة ، يا رب أذقنا منها ولا تحرمنا ، اللهم أطعمنا الشهادة ، اللهم بلغنا الشهادة برحمتك وفضلك وكرمك وجودك ومنك .

وأما المصابون في سبيل الله فيا سعدهم ويا نصيبهم ، انظر إلى ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل " .

وتدبر قوله صلى الله عليه وسلم : " ما من كلم " فهي كلمة عامة تشمل كل كلم حتى لو كان من حصاة ، فيا بشراه وسعده من يصاب ، رفعة درجات أو حط خطيئات ، يا هناه وسعده . أفيكون صاحب هذا الأمر ذا محنة ! بل هي منحة وفضل ورفعة .

الإعداد لتولي أعباء الخلافة الإسلامية الراشدة

وأما من بقي من الصالحين فإن الله سبحانه يعده أيما إعداد لتولي أعباء خلافة على منهاج النبوة الراشدة ، تلك التي بشرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الذي لا يتحدث عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .

" ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت " ... أقول : كيف لمن اعتاد الراحة والدعة أن يقوم بخلافة على منهاج النبوة ، إن ربك لما أراد النبوة لموسى عليه السلام أخرجه عشر سنوات من القصور ليقوم على السقي والحرث ( والفلاحة ) مما هي مشقة وكد وتعب ، كي يستطيع القيام بأعباء الرسالة .

ويوسف لما تربى بالقصور ، كان لابد له من مشقة السجن حتى يستطيع أن يقوم بعدها بالرسالة والقيام على خزائن الأرض .

فالله سبحانه يعد أبناءنا الذين ربيناهم على تلبية مطالبهم ، ولم نحرمهم من شئ ، خاصة الموسرين منا ، ليعتادوا الدماء والشهداء والمطاردات والكر والفر حتى يقوموا بعدها بأمر عظيم من قتال اليهود وحراسة الخلافة والدين .

أحدثكم عن أبناء الإعدادي والثانوي من أبنائنا الذين زجر أحدهم أبوه عند المنصة وهو يقتحم الصفوف الأولي ويقول له أبوه : " ارجع هنا ، تعالى ورا " ليرد الابن الرائع : لن أرجع ، أنت وأمي تربونا على الجهاد والآن لما جاء وقته تقول لي ارجع ! ، فاستحى الأب من الابن.

الآخر الذي اعتقله الطغاة وهو في الصف الأول الثانوي ، وأبوه وأمه في مجال الصيدلة والطب ، وهم من المرموقين الميسورين ، كيف له أن يجاهد وهو الذي تلبي له كل المطالب ، الله سبحانه يخرجه من تلك التربية الصالحة ، إلى تربية هي أصلح منها كي يقود صفوف المستقبل لتحرير القدس إن شاء الله .

الثالث ( وهو في أولى ثانوي أيضاً ) ولا أراه في مظاهرة أو مسيرة إلا وعينه دامعة من قنابل الغاز ويقتحم الصفوف الأولى ويحمل على ظهره حقيبة الإعدادات والخل والكاكولا والقطن والقفازات ... الخ كيف له أن يتربى ووالده يعمل في الحقل الطبي ومن الميسورين ، الله سبحانه يعده للقيادة ويربيه على الكر والفر والمواجهة مع باطل غشيم ، ويرى مشاهد القتل والضرب والسحل أمام عينه ...

هذه عينات فردية لآلاف الحالات التي أحدثكم عن مثلها ، أفيقال في حق من هذا شأنهم أنها محنة ؟ كلا والله ، بل هي منحة ، وأعظم منحة .

بعض الألم هو من نوع " فبما كسبت أيديكم "

وأما عن بعض الألم الذي نصاب به من عينة الحزن لفقد الأحباب والأصحاب ، أو الألم الحسي لإصابات أو جراحات ، أو النفسي لاعتقال أو مطاردة ... فكل ذلك مما قال الله عنه سبحانه " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون " .

والنصيحة في شأن هذا الألم هي أن يراجع كل منا نفسه ، وحاله مع ربه ، والقاعدة عند سلفنا الصالح أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا رفع إلا بتوبة .

والجيش يهزم بمعصية جنوده ، فكل واحد منا على ثغر الإسلام والحق ، عليه أن يحذر أن يؤتي الإسلام من قبل معاصيه .

وتدبروا وصية الفاروق عمر رضي الله عنه إلى قائد جيشه سعد بن أبي وقاص وهو يوصيه بهذه الكلمات التي حق لها أن تكتب بماء الذهب :

" أما بعد، فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة على الحرب.

وآمرك ومن معك من الأجناد بأن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجند أخْوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعُدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وألا ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا.

واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلط علينا، فرُب قوم سُلط عليهم شرٌّ منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم ".‏ 

كبسولة : كثير من المبادرات التي يطلقها من يسمون مشاهير وساسة تعكس حالتهم النفسية والمعنوية ... هم قوم نفسهم قصير ولم يعتادوا حياة الجهاد ، ويريدون الخلاص بأي طريقة ، فيطرحون مبادرات هي بمثابة أمانيهم التي يتمنونها لحل الموقف الراهن .. 

نحن يا سادة أصحاب حقوق لن نرجع دون هذه الحقوق ولا نقبل بتحصين مجرمي الجيش والشرطة بل هم سفاحين يستحقون القصاص ، لن نعود لبيوتنا إلا بحقوق شهدائنا الأبرار والمعتقلين الأحرار والوطن السليب ورئيس شرعي منتخب ودستور مستفتى عليه وعسكر ميحكمش وقصاص من المجرمين .. كلها حقوق لا نفاوض عليها وأي مبادرة تخرج عن هذا السياق مردودة على صاحبها .. أيها الساسة والزعماء ، أنتم في وادٍ والشعب المصري الحر الأبي في وادٍ آخر .. فكفوا عنا أذاكم ..