لقد جرت سنّة الله ألّا يتماسك الباطل وجنده أمام قوة الحق وأهله .. فالباطل قد كُتب عليه الزوال ساعة ولادته ، ولا غرو، فهو يحمل مقوّمات هدمه في نفسه منذ نشأته . وهذا ما أكدته آيات القرآن الحكيم ، في أكثر من موطن : « .. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ» (الرعد – 17) ، « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» (الأنبياء – 18) ، « وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (الإسراء – 81) . ولقد أكّد الواقع ، وسجّل التاريخ صِدقَ الحق وخلوده ، وزيفَ الباطل وزُهوقه .. فأين إبليس من آدم – عليه السلام – ؟! ، وأين النمرود من إبراهيم – عليه السلام – ؟! ، وأين فرعون من موسي – عليه السلام – ؟! ، وأين أبو جهل من سيد الخلق محمد – صلي الله عليه وسلم - ؟! ، وأين وأين الظالمون ممن طغوا وعلوا في الأرض .. ؟! لقد أخذهم الله جميعا أخذ عزيز مقتدر ، وجعلهم عبرة - لمن يخشي - ، تشهد عليهم الخرائب المظلمة ، والقصور الخاوية ، والذرية التعسة اللاهية ، فضلا عما ينتظرهم من المصير المشئوم إلي الهاوية! « فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (النمل – 52) . إذن ، فلا خشية علي الحق من الباطل ، وإنما الخشية علي الحق من أهله ، إذا تخلوا عن أسباب نصرته ، وأحبوا من الدنيا مثل ما أحب غيرهم ..! إن سنن الحق تأبي إلا أن تحصد الباطل مهما علا وانتفش ، طالما استمسك أهل الحق بقيمهم ، وبذلوا من أجل إعلائها غاية جهدهم . ولقد نصر الله أهل الحق وهم في وحشة من الناس ، وقلة في العُدة والعدد ، وما كان لهم – في دنيا الناس – غير الله من مدد ، بيد أنهم أخذوا بكل ما عندهم من أسباب ، واعتمدوا قبل ذلك وبعده علي رب القوي ومسبّب الأسباب . رأينا ذلك في معركة بدر الكبرى وغيرها .. « وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (آل عمران – 123) . وما أُتي أهل الحق من قِبل أهل الباطل بقدر ما أُوتوا من قِبل أنفسهم ..! - تأمل ما حدث للمسلمين في (أحد) ، لقد أصابهم القرح ، وقُتل منهم سبعون صحابيا ، وكُسرت رباعية رسول الله – صلي الله عليه وسلم - وشُج وجهه الشريف ، كل ذلك بسبب (الطمع) في الغنيمة عند بعض الرماة . « وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران – 152) . « أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (آل عمران – 165) . - وتأمل ما حدث في (حنين) إذ اجتمع للمسلمين ولأول مرة جيشٌ عددُه اثنا عشر ألفا ، حتى قال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة ، فأعجبتهم كثرتهم ، ونسوا الله – عز وجل – مسبّب النصر ، ومثبّت القلوب .. فكانت الهزيمة في أول المعركة. « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ» (التوبة –23) . ولله درُّ مَن قال لأتباعه يوما :" أنا لا أخشي عليكم من أعدائكم ، بل أخشي عليكم من أنفسكم .. لا أخشي عليكم الانجليز ولا الأمريكان ولا الروس ولا غيرهم ، وإنما أخشي عليكم أمرين : - أن تتخلوا عن الله تعالي ، فيتخلي الله عنكم . - أو أن تتفرقوا فيما بينكم ، فلا تجتمعوا إلا بعد فوات الفرصة". لقد صدقنا رأس الباطل (إبليس اللعين) – وهو كذوب – وأعطانا درسا بليغا في خطبته البتراء ، حين قال : «.. فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (إبراهيم -22) . إن النفس إذا ضعفت وتدسّت استدعت إبليس وجنده ، وإذا تحصنت بإيمانها ، واستعانت بربها ، أصبحت منيعة عصيّة ، فليس لإبليس ولا لجنده سلطان عليها. « إِنَهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ» (النحل ، 99 - 100) . حقا ، لا خشية علي الحق من الباطل ، وإنما الخشية علي الحق من أهله ، إذا طافت حول المآرب أغراضهم ، وتخلت عن الله (عز وجل) نفوسهم . وتبقي الحقيقة التي أكدها الشاعر بقوله : لا يبلغ الأعداء من جاهل ** ما يبلغ الجاهل من نفسه!
الآراء